إذا أخذنا بالحسبان دور ألمانيا في القارة الأوروبية المبتلاة بنسبة بطالة عالية وبنمو بطيء من حيث كونها عماد استقرار أوروبا، فإنّ سوق العمل الألمانية تُعتبر في وضع جيد. إذ تراجعت أعداد العاطلين عن العمل بمقدار النصف خلال العقد الماضي. وبما أنّ عدد الألمان العاطلين عن العمل يبلغ 2.6 مليون إنسان، فإنّ نسبة البطالة في ألمانيا تراجعت إلى 5.9 في المئة، بينما وصلت صادرات البلاد إلى 1.3 تريليون دولار في العام 2016. وهذا الرقم يُعتبر هائلاً، ويعادل نصف الناتج المحلي الألماني تقريباً، كما أنّه يشكل 9 في المئة من صادرات العالم.
يُعتبر أداء الاقتصاد الألماني جيداً على الرغم من استيعاب البلد لأكثر من مليون لاجئ منذ العام 2015. ومنذ ثلاث سنوات وحتى الآن، سجلت الحكومة الألمانية فائضاً في الموازنة، بينما توقع المحللون أن يبلغ الفائض في العام 2016 بحدود 25 مليار دولار.
قبل فترة غير بعيدة، كانت ألمانيا توصف بأنها "الرجل المريض في أوروبا"، ففي أواخر تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة كانت ألمانيا تنمو بوتيرة أبطأ من وتيرة نمو الدول الأوروبية الأخرى، وكان معدل البطالة فيها أكثر من 10 في المئة، وانتقد المحللون مؤسسات سوق العمل الألمانية بوصفها تفتقر إلى المرونة، لكن الظروف تغيّرت، مع بزوغ منافسة جديدة من الأسواق ذات اليد العاملة الرخيصة في أوروبا الوسطى والشرقية وكذلك آسيا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تمكنت ألمانيا، التي تملك رابع أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم (بعد الولايات المتحدة والصين واليابان) من أن تتحول من رجل مريض إلى نجم النجوم في الاقتصاد؟
لفترة طويلة من الزمن، كان الباحثون يعزون التحول الحاصل إلى إصلاحات سوق العمل ونظام الإعانات الاجتماعية على المستوى الفيدرالي، والتي طُبّقت اعتباراً من العام 2003. لكن العديد من المؤلفين المشاركين مثلي ومثل كريستيان دوستمان، وبيرند فيتزينبيرغير، وأوتا شونبيرغ، يذهبون إلى أنّ السياسات لم تكن هي السبب الأساسي وراء ذلك. ففي ورقة بحثية نشرناها في مجلة آراء اقتصادية، أظهرنا أنّ الموقع التنافسي لألمانيا مقارنة مع شركائها التجاريين الرئيسيين كان قد تحّسن بصورة مضطردة منذ العام 1995 لأنّ أجورها نمت بوتيرة أبطأ من وتيرة نمو الإنتاجية. وهذا الأمر يعود إلى حد كبير إلى أنّ الاقتصاد الألماني مر بعملية غير مسبوقة من التحول نحو اللامركزية في عملية التفاوض على الأجور خلال تسعينيات القرن الماضي. وهذا ما قاد إلى تراجع حاد في تكاليف وحدة العمل (Unit Labor Costs)، وأدّى في نهاية المطاف إلى زيادة التنافسية.
الإصلاحات المثيرة للجدل في سوق العمل
عندما طبقت الحكومة الألمانية في عهد المستشار غيرهارد شرودر ما سميت وقتها بإصلاحات هارتز، في العام 2003، أثارت هذه الإصلاحات جدلاً كبيراً. إذ قللت من إعانات البطالة، ووضعت سقفاً لها، بهدف دفع أعداد أكبر من الناس للبحث عن وظائف. كما أنّها طبقت نظام القسائم الذي سمح لمن يحصلون عليها باختيار الجهات التي تقدم التدريب لهم على المهارات الوظيفية. وبالمقياس ذاته، حُوّلت وكالات التوظيف الفيدرالية والمحلية (وهي مؤسسات حكومية بيروقراطية) إلى جهات معنية بتقديم الخدمات. وأسهمت المقاربات والتدابير المطبقة في مجال الإدارة في تحسين الكفاءة وزيادة التركيز على تحقيق النتائج.
لكن الإصلاحات الحكومية لم تُدخل أي تغييرات مؤسسية على عملية تحديد الأجور. والسبب في ذلك هي أنها لم تكن قادرة على فعل هذا الأمر. فنظام العلاقات بين أصحاب العمل والعمال في ألمانيا هو نظام مستقل ذاتياً. والمفاوضات المتعلقة بالأجور تحصل دون ممارسة الحكومة لأي نفوذ مباشر، وهو مبدأ ينص عليه الدستور الألماني.
يختلف الوضع في ألمانيا عما هو عليه في معظم الدول الغربية الأخرى. وفي ألمانيا، تُعتبر النقابات العمالية، ومجالس العمل (وهي منظمات تكمّل النقابات العمالية من خلال تمثيل العمال على مستوى الشركة في المفاوضات) وجمعيات أصحاب العمل هي من يحدد الأجور وساعات العمل وغيرهما من الجوانب المتعلقة بشروط العمل. وبالنسبة للمساومات والمفاوضات الخاصة بالأجور الجماعية فهي لا تحصل على مستوى الشركة، وإنما على مستوى القطاع بأكمله أو على مستوى المنطقة، بين النقابات العمالية وجمعيات أصحاب العمل. فإذا كانت شركة ما تعترف بالنقابة العمالية، فإنّ العقد الموقع مع النقابة يغطي جميع عمالها فعلياً.
رد فعل القطاع الخاص
خلال تسعينيات القرن الماضي، بدأ أصحاب العمل والعمال في استعمال نظام تحديد الأجور بطريقة مختلفة، وقاد ذلك إلى مستوى غير مسبوق من اللامركزية في هذه العملية. على سبيل المثال، يمكن للشركات الألمانية التي تعترف بعقود أجور النقابات أن تدخل تعديلاً على تطبيق هذه العقود من خلال ما يسمى الفقرة الافتتاحية أو فقرة الظروف القاهرة، شريطة موافقة ممثلي العمال على ذلك. إضافة إلى ذلك، يمكن للشركات التي تعترف بالعقود النقابية أن تختار لاحقاً التخلي عن هذه العقود. وبعد العام 1995، حصل تراجع دراماتيكي في تغطية النقابات في ألمانيا، وبدأ اللجوء إلى هذا النوع من الفقرات القانونية يتزايد بوتيرة أكبر.
ولعلكم تتساءلون: لماذا توافق المؤسسات التي تمثل مصالح العمال على منح المرونة لأصحاب العمل، ما سيؤدّي لاحقاً إلى تقليل ساعات عمل العمّال، أو جعلهم يعملون وفق مبدأ ساعات العمل الأكثر مرونة مع إبطاء وتيرة زيادة أجورهم، أو حتى تخفيض هذه الأجور؟ ولماذا يفعلونها في ذلك الوقت بالذات؟
إنّ لهذا الأمر علاقة بالوضع التاريخي المميز الذي وجد الاقتصاد الألماني نفسه فيه بداية تسعينيات القرن العشرين. فانهيار جدار برلين عام 1989، والتكلفة الهائلة لعملية توحيد الألمانيتين ألقت عبئاً ثقيلاً وغير مسبوق على كاهل الاقتصاد الألماني، ما قاد إلى فترة مديدة من الأداء الاقتصادي الكلي السيئ. كما أنّ هذه الظروف منحت أصحاب العمل الألمان فرصة النفاذ إلى الدول الأوروبية الشرقية المجاورة التي كانت محتجزة سابقاً وراء ما عُرف بـ"الستار الحديدي"، وهي دول لديها يد عاملة رخيصة ومؤسسات وبنى سياسية مستقرة.
وأسهمت هذه العوامل في إدخال تغيير جوهري على توازن القوة بين نقابات أصحاب العمل ونقابات العمال. وقد اضطرت النقابات العمالية الألمانية التي كانت يوماً ما قوية إلى التجاوب مع هذه الوقائع الجديدة بطريقة أكثر مرونة بكثير مما كان الكثيرون يتوقعون.
تزايد التنافسية
لقد أعطت هذه الاستجابة المرنة نتائج مثمرة. فمنذ العام 1995، تحسن الموقع التنافسي لألمانيا باضطراد، في حين تدهورت تنافسية بعض شركائها التجاريين الأوروبيين الرئيسيين (مثل إسبانيا وإيطاليا)، أو ظلت قريبة مما كانت عليه في العام 1995 (مثل فرنسا).
درسنا في بحثنا قطاع الصناعات التحويلية ذات الاستخدامات التجارية، وهي العمود الفقري للصادرات الألمانية بما أنها تشكل 80 في المئة منها. وازدادت تنافسية هذا القطاع لأن الشركات اعتمدت اعتماداً متزايداً على الموردين المحليين، الذين بدأت أجورهم الحقيقية بالتراجع أواسط تسعينيات القرن الماضي. وجاء هذا التراجع في الأجور الحقيقية كنتيجة مباشرة للتنازلات التي قدمها العمال للشركات جراء التحديات التنافسية الجديدة في ذلك الوقت. إضافة إلى ذلك، فإنّ تزايد إنتاجية القطاع كان أكبر من تزايد الأجور. ويُظهر بحثنا أنّ التغيرات التي طرأت على العقود بين الشركات وعمالها كانت جزءاً أساسياً ومركزياً من عملية تحسين تنافسية قطاع الصناعة الألماني.
فهل أسهمت إصلاحات هارتز، في العام 2003، في التراجع الذي حصل مؤخراً في معدل البطالة الألماني على المدى البعيد؟ ربما يكون ذلك حصل. ولكن ليس إلى الحد الذي اعتقده الناس. فقد ركّزت إصلاحات هارتز على إيجاد الحوافز للبحث عن عمل. ويظهر بحثنا أنّ دور هذه السياسية كان محدوداً في دعم التراجع الكبير في الأجور والذي رأيناه منذ أواسط التسعينيات. وهذا هو التفسير الرئيسي لهذه المكاسب المتحققة في مجال التنافسية.
دروس وعبر لألمانيا وجيرانها الأوروبيين
هناك سببان رئيسيان لأهمية أن نفهم السبب الحقيقي للازدهار الذي نراه اليوم في سوق العمل الألماني. أولاً نحن نأمل أن تولي الدول الأوروبية الأخرى التي تحاول تقليد البراعة التي نراها في سوق العمل الألماني الاهتمام إلى بحثنا. فمن الشائع أن نسمع الرأي القائل بأنّ الدول الأوروبية الأخرى يجب أن تتبنى النسخة الخاصة بها من إصلاحات هارتز.
لكن هذا التوصية قد تعطي نتائج عكسية. فهذه الإصلاحات كانت قد طُبقت ابتداء من العام 2003 بعد عقد تقريباً من إضفاء اللامركزية على عملية تحديد الأجور، وبعد أن كانت التنافسية في ألمانيا قد بدأت تتزايد أصلاً. وإن كان من شيء، فهو أنّ التغيّرات التي كانت تطرأ أساساً على أسواق العمل الألمانية في ذلك الوقت قد ساعدت في تهيئة المشهد السياسي للمزيد من الإصلاحات في السياسة الفيدرالية.
لم تكن هذه القوة المتحققة في سوق العمل الألمانية ناجمة عن السياسة الفيدرالية، بل هذه القوة إن أتت من شيء فهي جاءت نتيجة غياب هكذا سياسة فيدرالية. إذ أنه من دون الاستقلال الذاتي لعملية المساومة والتفاوض على الأجور، من المشكوك به أن تكون العملية السياسية قادرة على على الاقتراب من مستوى المرونة الذي رأيناه في تسعينيات القرن الماضي.
ثانياً، من المهم جداً أن نفهم هذه القوة في النظام اللامركزي للعلاقات بين الإدارة والعمال في ألمانيا. إذ قاد التزايد في حالة عدم المساواة بالأجور إلى سجال حاد بخصوص التبعات الاجتماعية لهذا الأمر وتأثيراته على الفقر والعدالة الاجتماعية. وبات "تحقيق نمو يشارك فيه الجميع" واحداً من البنود الأساسية على جدول الأعمال السياسي على المستوى الفيدرالي، ليس في ألمانيا فقط وإنما في دول أخرى أيضاً. ففي العام 2015، على سبيل المثال، أقرت الحكومة الألمانية حداً أدنى للأجور بموجب تشريع وطني.
وبما أنّ الحكومة الألمانية تعمل بوتيرة متزايدة على تنظيم قطاع العمل والأجور، فإنّ المرونة الألمانية التي تعتمد على نظامها اللامركزي للعلاقات بين العمال وأصحاب العمل بهدف تحسين موقعها التنافسي قد تتأثر سلباً في المستقبل. ففي تسعينيات القرن العشرين، أدت هذه القدرة، إلى جانب الزيادة الكبيرة في الإنتاجية، إلى تحسين التنافسية الوطنية في نهاية المطاف، وأرست الأسس لسوق العمل القوي الذي نراه اليوم في ألمانيا.