بدأ عصر السفر الدولي في منتصف القرن التاسع عشر مع العصر الذهبي للإبحار عبر المحيط الأطلسي. وقد نقلت شركة كونارد (Cunard) البريطانية، الرائدة في هذا القطاع، ملايين المهاجرين من أوروبا إلى الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت بوصفها أكبر خط ركاب في المحيط الأطلسي، فقد شغّلت 12 سفينة إلى الولايات المتحدة وكندا في أثناء الاستحواذ على سوق السفر المزدهرة في شمال الأطلسي في العقد الأول بعد الحرب.
انتهى هذا العصر الذهبي مع ظهور الرحلات الجوية التجارية. فقد عبَر مليون مسافر المحيط الأطلسي بالسفن في عام 1957، وأدى السفر الجوي إلى انخفاض هذا الرقم إلى 650 ألف بحلول عام 1965، إذ سافر جواً ما يقرب من 6 أشخاص مقابل مسافر واحد بحراً. ببساطة، لم تتمكن عابرات المحيطات من مضاهاة سرعة الطائرات النفاثة والراحة التي توفرها.
وعلى الرغم من أن ظهور عصر الطائرات أدى إلى تدمير الشركات الأخرى للسفر عبر المحيطات، ابتكرت كونارد فكرة "قضاء عطلة مترفة في البحر" ودشنت قطاع السياحة البحرية الحديث. حتى ذلك الحين، كان يُنظر إلى عابرات المحيطات، مثل الطائرات، بشكل أساسي على أنها وسيلة نقل من نقطة إلى أخرى. وقد غيّرت كونارد ذلك من خلال جعلها منصات للاستجمام والترفيه الراقي.
شركة كونارد هي اليوم جزء من شركة كرنفال كوربوريشن (Carnival Corporation)، ويحقق قطاع السياحة البحرية الذي كانت رائدة فيه منذ نحو 60 عاماً إيرادات تبلغ نحو 30 مليار دولار سنوياً، ويخلق أكثر من مليون وظيفة. من الواضح أن إنشاء قطاع السياحة البحرية لم يحدث تدريجياً، كما أنه لم يكن "مزعزِعاً" وهي الكلمة الرائجة التي أصبحت مهيمنة على مجال الابتكار. بل على العكس من ذلك، لم يغزُ قطاع السياحة البحرية أي سوق أو قطاع قائم أو يدمره أو يحل محله؛ فقد أُنشئ دون زعزعة.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
يولّد الابتكار المدفوع بالزعزعة سوقاً وفرص نمو جديدة، ولكن غالباً ما يكون مقترناً بتكاليف اجتماعية باهظة: تدمير الشركات والوظائف القائمة وإلحاق أضرار بالمجتمعات.
التفسير
قد تختار مثل هذه الفرق دون وعي يَعتبر معظم المبتكرين أنه من المسلم به أن أضمن طريق للنمو هو إنشاء سوق جديدة من خلال تدمير السوق الحالية. وهذا يغفل نهجاً بديلاً للابتكار لا يزعزِع القطاع القائم.
الحل
يحدث الإنشاء غير المزعزع للأسواق خارج حدود القطاعات القائمة، ما يؤدي إلى ظهور أسواق لم تكن موجودة من قبل. وبالتالي فهو يعزز النمو الاقتصادي دون تكبد تكاليف اجتماعية، ما يساعد على ازدهار الأعمال والمجتمع.
مسار بديل للابتكار والنمو
على مدار العشرين عاماً الماضية، كانت "الزعزعة" بمثابة دعوة للاستنفار في مجال الأعمال: زعزِع هذا وذاك، زعزِع وإلا ستهلك. سواء كان ذلك على المستوى البسيط (أساس نظرية كلايتون كريستنسن للابتكار المزعزع) أو على المستوى الأعلى (الطريقة التي تفوق بها السفر بالطائرات التجارية على السفر بعابرات المحيطات، والطريقة التي هيمنت بها هواتف آيفون من آبل على الهواتف المحمولة)، فقد كان يُقال لقادة الشركات باستمرار أن الطريقة الوحيدة للابتكار والنمو هي زعزعة قطاعاتهم أو حتى شركاتهم. ليس من المستغرب إذاً أن ينظر الكثيرون إلى "الزعزعة" على أنها من المرادفات القريبة "للابتكار".
كان يُقال لقادة الشركات باستمرار أن الطريقة الوحيدة للابتكار والنمو هي زعزعة قطاعاتهم أو حتى شركاتهم.
لكن الهوس بالزعزعة يخفي حقيقة مهمة: لا يكون الابتكار المُنشئ للأسواق مزعزعاً دوماً. قد تكون الزعزعة هي ما يتحدث عنه الناس، فهي مهمة بالتأكيد وتحدث في كل مكان حولنا، ولكن كما تكشف بحوثنا وحالة شركة كونارد، إنها مجرد طرف واحد فقط مما نعتقد أنه طيف الابتكار المنشئ للأسواق. فعلى الطرف الآخر، هناك ما قررنا أن نسميه "الإنشاء غير المزعزع للأسواق" الذي من خلاله تنشأ قطاعات ووظائف جديدة ويتحقق نمو مربح دون تدمير الشركات أو الوظائف القائمة. بموجب الزعزعة والمفهوم الذي سبقها، أي "الدمار الخلاق" لجوزيف شومبيتر، أصبح إنشاء الأسواق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتدمير أو الإزاحة. لكن الإنشاء غير المزعزع للأسواق يكسر هذا الرابط، فهو يكشف عن إمكانات هائلة لإنشاء أسواق لم تكن موجودة من قبل، وبذلك يعزز النمو الاقتصادي بطريقة تساعد على ازدهار الأعمال والمجتمع. في هذه المقالة سوف نوضح كيف يمكن للإنشاء غير المزعزع أن يكون مكملاً للزعزعة من خلال تقديم مسار بديل نحو الابتكار المُنشئ للأسواق. وسنبدأ بالتأثير الكبير الذي يمكن أن يُحدثه في النمو والوظائف والمجتمع.
3 أفكار غيرت العالم
اليوم تَعتبر غالبية النساء في البلدان المتقدمة الفوط الصحية من المسلمات، لكن هذا الابتكار خلق سوقاً جديدة غير مزعزِعة أدت بدورها إلى تحسين حياة نصف سكان العالم جذرياً. إذ تستخدمها النساء كل شهر للتعامل مع الإزعاج (والتشوش) المصاحبين للدورة الشهرية، ولكن لم يكن هذا هو الحال دائماً. فقبل ظهور الفوط الصحية، استخدمت النساء قطعاً من القماش القديم أو حتى صوف الأغنام، التي غالباً ما تكون قذرة ويمكن أن تسبب عدوى. ولم تكن مريحة ولا ثابتة، كما أنها لم تمنع البقع والتسرب. ولتجنب الإحراج الذي يسببه ذلك، غالباً ما كانت الفتيات ينقطعن عن الذهاب إلى المدرسة لعدة أيام خلال دورتهن الشهرية. أنهت الفوط الصحية جزءاً كبيراً من وصمة العار والرهبة من الدورة الشهرية: إذ يمكن للفتيات الآن الذهاب إلى المدرسة وممارسة الرياضة دون قلق، ويمكن للنساء العمل بسهولة أكبر. يحقق قطاع الفوط الصحية اليوم إيرادات تزيد على 22 مليار دولار سنوياً.
تأمّل التمويل المتناهي الصغر، وهو ابتكار غيّر حياة العديد من أفقر الأشخاص في العالم من خلال إتاحة الخدمات المالية لأولئك الذين يعيشون بأقل من بضعة دولارات في اليوم. قبل ظهور هذا التمويل، لم يكن أي بنك أو مؤسسة مالية أخرى مستعداً لخدمة هؤلاء الأشخاص، على اعتبار أنهم ليسوا مقترضين مؤهلين. من خلال إيجاد طريقة للتغلب على هذه المشكلة، تمكّن مؤسس بنك غرامين (Grameen Bank)، محمد يونس، من مساعدة الأشخاص الذين حُرموا سابقاً من الحصول على رأسمال من إنشاء مشاريع تجارية صغيرة ووظائف جديدة ورفْع مستوى معيشتهم ومنحهم الأمل. أصبح التمويل المتناهي الصغر قطاعاً بمليارات الدولارات وبمعدل مذهل لسداد القروض يبلغ 98% وفرصة كبيرة للنمو في المستقبل.
الآن فكّر في البرنامج التلفزيوني عالم سمسم الذي يعلم الأطفال في سن ما قبل المدرسة كيفية الحساب وأسماء الألوان والأشكال والتعرف على الحروف الأبجدية. أفضل جزء هو أن الأطفال يستمتعون كثيراً بمشاهدته، مع الدمى المتحركة المحبوبة والأغاني، لدرجة أنهم لا يدركون حتى مقدار ما يتعلمونه منه. لم يحل برنامج عالم سمسم محل الحضانات أو المكتبات أو حتى الآباء الذين كانوا يقرؤون قصص ما قبل النوم لأطفالهم، بل أدى إلى ظهور قطاع جديد لم يكن موجوداً من قبل إلى حد كبير: التعليم الترفيهي في مرحلة ما قبل المدرسة، وهو اليوم قطاع بمليارات الدولارات. وأصبح برنامج عالم سمسم البرنامج التلفزيوني الأنجح والأكثر استمرارية للأطفال في التاريخ، وفاز بالعديد من جوائز إيمي و11 جائزة من جوائز غرامي، ولديه مشاهدون في أكثر من 150 دولة.
على الرغم من الاختلاف بين هذه الحالات الثلاث، فإن جميعها أمثلة على الإنشاء غير المزعزع للأسواق. كما يوضح كتابنا "ما وراء الزعزعة" (Beyond Disruption)، كان هناك العديد من تلك الأمثلة في مجالات متنوعة مثل الأمن السيبراني ومستحضرات التجميل للرجال والاستشارات البيئية والتدريب لتحسين الحياة الشخصية والصناعات الدوائية وملحقات الهواتف الذكية، فضلاً عن قطاع السياحة الفضائية الناشئ بقيادة شركات مثل فيرجن جالاكتيك (Virgin Galactic) وسبيس إكس (SpaceX) وبلو أوريجين (Blue Origin)، وجميعها أنشأت قطاعات جديدة بمليارات الدولارات وفرصاً للنمو وفرص عمل، دون الإطاحة بأي أسواق أو أطراف فاعلة أو وظائف قائمة.
يمكن تطبيق الإنشاء غير المزعزع للأسواق عبر المناطق الجغرافية، من أسواق الدول المتقدمة إلى الأسواق في قاعدة الهرم، وعلى جميع مستويات المكانة الاجتماعية والاقتصادية.
مفهوم جديد متميز
من الأمثلة التي قدمناها للتو والأمثلة الأخرى التي درسناها، حددنا 3 خصائص أساسية للإنشاء غير المزعزع. أولاً، يمكن أن يحدث مع تكنولوجيا جديدة أو تكنولوجيا قائمة. فهو قد ينبع من اختراع علمي أو ابتكار قائم على التكنولوجيا، كما كان الحال مع الفوط الصحية والسياحة الفضائية. ولكن يمكن أيضاً أن ينشأ من دون مثل هذه الابتكارات، كما كان الحال مع التمويل المتناهي الصغر، أو من مزيج جديد من تكنولوجيات حالية أو تطبيق جديد لها، كما كان الحال مع برنامج عالم سمسم الذي استفاد من التلفزيون.
ثانياً، يمكن تطبيق الإنشاء غير المزعزع للأسواق عبر المناطق الجغرافية، من أسواق الدول المتقدمة إلى الأسواق في قاعدة الهرم، وعلى جميع مستويات المكانة الاجتماعية والاقتصادية. فقد أُنشئ برنامج عالم سمسم والفوط الصحية في الاقتصادات المتقدمة ومن أجلها في الأصل، بينما أُنشئ التمويل المتناهي الصغر في قاعدة الهرم ومن أجلها في الأصل. وكانت رحلات كونارد البحرية في الأصل للأشخاص في المستويات العليا إلى المتوسطة من المكانة الاجتماعية والاقتصادية، وكان التمويل المتناهي الصغر في البداية للمستويات الأدنى.
ثالثاً، يمكن أن يكون الإنشاء غير المزعزع للأسواق ابتكاراً جديداً على العالم، لكنهما ليسا متماثلين. فمن ناحية، العديد من الابتكارات الجديدة على العالم تتسم بأنها مزعزِعة، مثل السفر بالطائرات التجارية بالنسبة لعابرات المحيطات. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يكون الإنشاء غير المزعزع للأسواق جديداً على منطقة ما ولكنه ليس جديداً على العالم. فلنأخذ على سبيل المثال شركة بينغ آن غود دكتور (Ping An Good Doctor) التي أنشأت سوقاً غير مزعزِعة للرعاية الصحية الأولية في الصين. لم تكن مثل هذه الخدمة موجودة هناك من قبل، في حين أن الغرب، على سبيل المثال، كانت لديه بالفعل سوق للرعاية الأولية.
ما يعنيه كل هذا هو أن الإنشاء غير المزعزع للأسواق ليس مثل الاختراع العلمي أو الابتكار التكنولوجي أو المنتجات أو الخدمات الجديدة على العالم، وينبغي عدم الخلط بينه وبينها. كما أنه لا يهتم بسوق جغرافية معينة، مثل تلك التي تقع في قاعدة الهرم، أو بمستوى اجتماعي واقتصادي معين، مثل الأشخاص أصحاب الدخل المنخفض. وهو يختلف عن مفاهيم الابتكار الحالية ويمكن تعريفه على أنه "إنشاء سوق جديدة تماماً خارج حدود القطاعات القائمة". وهذا يعني أنه لن تُزعزَع أي سوق حالية أو أطراف فاعلة راسخة أو تفشل، وأيضاً لن تُفقَد أي وظائف. (للاطلاع على مناقشة لبحثنا في هذا الموضوع، انظر العمود الجانبي "من استراتيجية المحيط الأزرق إلى الإنشاء غير المزعزع للأسواق").
من استراتيجية المحيط الأزرق إلى الإنشاء غير المزعزع للأسواق
بعد نشر كتابينا، "استراتيجية المحيط الأزرق" (Blue Ocean Strategy) و"إعصار المحيط الأزرق" (Blue Ocean Shift)، طرح قادة الأعمال والأكاديميون والاستشاريون العاملون في مجال الابتكار هذا السؤال مراراً: كيف تختلف استراتيجية المحيط الأزرق عن الدمار الخلاق أو الزعزعة أو الابتكار المزعزع؟
للإجابة عن هذا السؤال، أعدنا فحص بياناتنا ذات الصلة بالمحيط الأزرق من زاوية الابتكار، ووجدنا أنه على الرغم من أن القليل من الحالات، مثل قلم الإنسولين من شركة نوفو نورديسك (Novo Nordisk)، حلت إلى حد كبير محل عروض المنتجات الحالية في قطاعاتها، فإن معظم المحيطات الزرقاء وفقاً لبياناتنا لم تنشأ داخل حدود القطاع القائم بل عبرها. على سبيل المثال، أنشأت شركة سيرك دي سولي (Cirque du Soleil) مساحة سوقية جديدة عبر الحدود الحالية للسيرك والمسرح. وعلى الرغم من أنها سحبت بعض الحصة السوقية من كليهما، ما أدى إلى قدر من الزعزعة، فإنها لم تحل محل أي منهما بشكل كبير.
ومع ذلك، كشف فحصنا أيضاً عن شيء آخر أثار اهتمامنا بدرجة كبيرة: من بين الحالات التي أُضيفت إلى قاعدة بياناتنا الأصلية بمرور الوقت، لم يتسبب سوى القليل منها في أي زعزعة أو إزاحة. وقد أثار ذلك فضولنا. فهل تمثل هذه الحالات بعض الحالات الشاذة المنفصلة أم أنها أمثلة لنوع جديد من الابتكار؟ وإذا كانت أمثلة، فلماذا تُتجاهل إلى حد كبير في الأدبيات المتعلقة بالابتكار والنمو؟ وما آثارها على الأعمال والمجتمع، الآن وفي المستقبل؟ وهل كانت هناك عملية أو نهج يمكننا من خلاله تحقيق هذا النوع الجديد من الابتكار بطريقة منهجية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، جمعنا الحالات السابقة والحالية للإنشاء غير المزعزع للأسواق عبر القطاعات الربحية وغير الربحية والعامة، وبنينا قاعدة بيانات حوله وحول الإجراءات الإدارية التي ينطوي عليها.
أظهر بحثنا أن الإنشاء غير المزعزع للأسواق يختلف عن كل من الزعزعة واستراتيجية المحيط الأزرق، مع وجود تأثير واضح مماثل على النمو. فالزعزعة تفتح أسواقاً جديدة داخل حدود القطاع القائم، ما يؤدي إلى مستوى عالٍ من النمو المزعزع، واستراتيجية المحيط الأزرق تُنشئ أسواقاً جديدة عبر حدود القطاع القائم، ما يُنتج مزيجاً من النمو المزعزع وغير المزعزع، بينما يفتح الإنشاء غير المزعزع للأسواق أسواقاً جديدة خارج حدود القطاع القائم ويؤدي في الغالب إلى تحقيق نمو غير مزعزع. يقدم كتابنا "ما وراء الزعزعة" عرضاً مفصلاً لرحلتنا ويعرض الإجابات التي وجدناها للأسئلة التي طرحناها.
كيف تختلف الآثار الاقتصادية والاجتماعية؟
تأمّل هذه الأمثلة: نتفليكس مقابل بلوك باستر (Blockbuster)، وأمازون مقابل بائعي الكتب ومتاجر البيع بالتجزئة في الشوارع الرئيسية للقرى أو المدن الصغيرة، وأوبر مقابل سيارات الأجرة. هذه الأمثلة من قطاعات مختلفة، ولكنها تشترك في 3 عوامل رئيسية: جميعها من حالات الزعزعة، وجميعها تعكس موقفاً واضحاً يربح فيه طرف ويخسر الآخر، وجميعها تفرض تكاليف تكيف مؤلمة على المجتمع. دعونا نستكشف ذلك.
على الجانب الإيجابي، يفوز المستهلكون بالكثير. ولهذا السبب ينجذب الأشخاص إلى العروض المزعزعة. ولكي يُحدث المنتج أو الخدمة زعزعة، يجب أن يحقق قفزة في القيمة (عادة ما يؤكدها نموذج أعمال جديد)، وإلا فلن يتعرض القطاع لحالة من الفوضى، ولن يرى المشترون، سواء كانوا شركات أو مستهلكين، أي سبب يدعوهم إلى الانتقال من العرض الحالي إلى العرض الجديد.
من الناحية الاقتصادية، يمكننا القول إن الفائض الاستهلاكي الذي تحققه المؤسسة المزعزِعة مرتفع، وتُخصَّص موارد المجتمع للمكان الذي تُعد فيه مستغلَّة على أفضل حال. لهذا السبب عادة ما تؤدي الزعزعة إلى نمو قطاعات والإطاحة بها أيضاً: فالقيمة الجذابة التي تكشف عنها تجذب الأشخاص الذين لم يسبق لهم شراء منتجات الشركات القائمة أو خدماتها، كما أنها تشجع العملاء الحاليين على استخدام العروض الجديدة بوتيرة أكبر. على سبيل المثال، يشاهد عدد أكبر من الأشخاص نتفليكس مقارنة بمن اعتادوا استئجار أقراص الفيديو الرقمية من بلوك باستر، ويلتقط عدد أكبر من الأشخاص صوراً رقمية بالمقارنة بمن التقطوا صوراً بالكاميرا التي تعمل بالأفلام، تماماً كما يسافر عدد أكبر من الأشخاص عبر المحيط بالطائرات أكثر ممن سافروا بعابرات المحيطات، وبوتيرة أكبر.
لكن النمو هنا يتحقق بطريقة "إما الربح وإما الخسارة". بمعنى أن نجاح المُزعزِع يأتي على حساب الأطراف الفاعلة والأسواق القائمة بشكل مباشر. وهو ما يقودنا إلى العامل المشترك الثاني: تدفع الزعزعة إلى إجراء مفاضلة واضحة بين الرابحين والخاسرين. وفي بعض الحالات يربح شخص واحد ويخسر الجميع. وهذا لأن القفزة في الفائض الاستهلاكي التي تحققها المؤسسة المزعزِعة يمكن أن تقضي تقريباً على القطاع القائم والأطراف الفاعلة الحالية فيه. على سبيل المثال، لم تكتفِ أمازون بالإطاحة بمتاجر بوردرز (Borders) البالغ عددها 1,200 متجر، إلى جانب عدد لا يحصى من بائعي الكتب المستقلين، واستحوذت على جزء كبير من مبيعات بارنز آند نوبل (Barnes & Noble). وهي تفعل الشيء نفسه الآن مع متاجر البيع بالتجزئة في الشوارع الرئيسية للقرى أو المدن الصغيرة ومتاجر التجزئة المتعددة الأقسام في الولايات المتحدة والبلدان الأخرى التي تعمل فيها.
على الرغم من الإشادة بالمُزعزِع في الصحافة بوصفه الرابح، وتوافد المشترين والمستثمرين عليه، فإن نهج الربح والخسارة هذا ينقلنا إلى العامل المشترك الثالث: تكاليف التكيف المؤلمة التي يتكبدها المجتمع، والتي غالباً ما يخفيها الابتهاج والجاذبية المحيطان بالزعزعة. على سبيل المثال، كان لشركة أوبر تأثير كبير على سائقي سيارات الأجرة وحائزي رخص سيارات الأجرة الذين اشتروا الحق في تشغيل سيارة أجرة في مدينة نيويورك التي تُعد أكبر سوق للشركة في الولايات المتحدة. لطالما كان يُنظر إلى حيازة تراخيص سيارات تاكسي الأجرة على أنها "تذكرة للتقاعد"، وانخفضت قيمتها من أكثر من مليون دولار إلى أقل من 175 ألف دولار منذ ظهور أوبر وغيرها من خدمات النقل حسب الطلب، وانخفضت أرباح سائقي سيارات الأجرة بنسبة تصل إلى 40%. والآن، يجب على العديد من السائقين العمل بورديات مضاعفة فقط لتدبير أمور معيشتهم. وقد نتج عن ذلك حالات إفلاس وإخلاء وحبس رهون وحتى حالات انتحار. يُشعَر بمثل هذه الهزات الارتدادية السلبية في جميع أنحاء العالم في المدن الكبرى التي دخلت إليها أوبر والخدمات المماثلة. والقوة المزعزِعة نفسها التي أثْرَت المستهلكين بالقفزة التي حققتها في القيمة قد أضرت بآخرين في هذه العملية. تُعد التكاليف البشرية للزعزعة التي أحدثتها أمازون أكثر وضوحاً: قد لا تكون الوظائف في مجال البيع بالتجزئة رائعة، ولكنها توفر سبل عيش لملايين الأشخاص. والتأثير المرئي للمتاجر التي أوصدت أبوابها بألواح خشبية يُوتِّر الأشخاص ويُكدّر المجتمع.
من الناحية النظرية، من المفترض أن تؤدي الزعزعة إلى تحقيق نمو أعلى وخلق فرص عمل جديدة، ولكن هناك تكاليف تكيف مؤلمة على المدى القصير. على سبيل المثال، أدت زعزعة أمازون لبائعي الكتب وتجارة التجزئة إلى فقدان ما يصل إلى 900 ألف وظيفة وتقادم الأصول الحالية بشكل كبير. وعلى الرغم من زيادة قوة العمل في أمازون من 200 ألف إلى 800 ألف في أثناء جائحة كوفيد، وزاد تأثيرها الإيجابي الواضح على الوظائف والنمو منذ ذلك الحين، فإن الوظائف التي تخلقها لم تكن بالضرورة في الأماكن نفسها التي فُقدت فيها الوظائف القديمة وقد لا تكون معتمِدة على المهارات والمعرفة نفسها التي كان يمتلكها العاملون الذين سُرِّحوا من وظائفهم. قد لا يزال الأشخاص الذين سُرِّحوا من وظائفهم في حالة صدمة، لا سيما إذا كانوا في المجتمعات الريفية حيث الوظائف المحلية نادرة.
على الرغم من أن الزعزعة تحقق على المستوى الكلي نمواً إجمالياً على المدى الطويل، فإن تكاليف التكيف اللاحقة غالباً ما تؤدي إلى رد فعل عنيف من مجموعات المصالح الاجتماعية والوكالات الحكومية والجمعيات غير الربحية التي تسعى إلى تقليل حجم الدمار. (بالطبع، إذا كان للقطاع تأثير سلبي واضح على البيئة أو رفاهة الأشخاص، فقد تكون المفاضلة بسيطة فيما يتعلق بالفائدة الإجمالية العائدة على المجتمع من زعزعة هذا القطاع والإطاحة به).
تُعد تكاليف التكيف هي الجانب الذي ينفصل فيه الإنشاء غير المزعزع للأسواق عن الزعزعة. من خلال الفصل بفعالية بين إنشاء الأسواق وتدميرها، فإنه يساعد المؤسسات على النمو مع الحد من تقادم الأصول والألم الاجتماعي. ومع تساوي جميع العوامل الأخرى، يمكن أن ينظر إلى هذا الفصل على أنه نهج ذو محصلة إيجابية للابتكار، وهو عنصر مكمل للزعزعة وهناك حاجة ماسة إليه بوصفه مساراً للنمو. (اطلع على الشكل التوضيحي "الزعزعة مقابل الإنشاء غير المزعزع للأسواق"). دعونا نستكشف هذه الفكرة.
نحو نتيجة إيجابية
مثل الزعزعة، يقدم الإنشاء غير المزعزع للأسواق قيمة جذابة للمشترين، سواء كانوا مستهلكين أو شركات. وهذا هو السبب في أننا نشتري المنتج أو الخدمة أو نستخدمها، ومن ثَم تنشأ السوق الجديدة. ودون تحقيق قيمة استثنائية، لن تنطلق السوق الجديدة. ولكن على النقيض من الزعزعة، لا ينتج عن الإنشاء غير المزعزع للأسواق أي خاسرين واضحين، مع أدنى حد من تكاليف التكيف المؤلمة. إذ يكون له تأثير إيجابي على النمو والوظائف منذ البداية.
رأت شركة كيك ستارتر (Kickstarter)، على سبيل المثال، أن الآلاف حرفياً من الأشخاص لديهم مشاريع ابتكارية للغاية يحلمون بتنفيذها ولكنهم يفتقرون إلى رأس المال للقيام بذلك. نظراً إلى أن معظم الفنانين يتطلعون أولاً وقبل كل شيء إلى تحقيق رؤية، وليس تحقيق عائد على الاستثمار، فلا عجب أن منصة كيك ستارتر للتمويل الجماعي عبر الإنترنت لم تقضِ على قطاع التمويل الحالي أو حتى حصة صغيرة من أرباح مستثمري الأسهم الحاليين أو المستثمرين أصحاب رأس المال المغامر (الجريء) أو معدلات نموهم أو فرصهم الاستثمارية. ولأن الداعمين لا يتلقون أي حوافز مالية على منصة كيك ستارتر، بل يحصلون فقط على سلع رائعة أو غيرها من وسائل التقدير مثل ترويج منتجاتهم في موقع الويب الخاص بالمبتكِر، فقد ظهرت مجموعة جديدة من المستثمرين: الأشخاص الذين يهتمون بالعمل الإبداعي ويريدون مساعدة الآخرين على تحقيق أحلامهم.
حظيت منصة كيك ستارتر بالإشادة بعد إطلاقها بوصفها واحدة من أفضل 50 اختراعاً لهذا العام حسب مجلة التايم، ونجحت ولم يَنتج عنها سوى القليل من الخاسرين. وفي غضون 3 سنوات من ظهورها أصبحت مربحة، وفي العقد الأول جمعت مبلغاً كبيراً يبلغ 4.3 مليارات دولار للمشاريع المدعومة على منصتها، مع تمويل أكثر من 160 ألف فكرة ربما لم تكن لتُنفَّذ لولا ذلك. وفقاً لدراسة أُجريت في جامعة بنسلفانيا، تشير تقديرات كيك ستارتر إلى أن مشاريعها أدت إلى خلق أكثر من 300 ألف وظيفة بدوام جزئي وبدوام كامل، وإنشاء 8,800 شركة جديدة ومؤسسة غير ربحية، ما أدى إلى توليد أكثر من 5.3 مليارات دولار من الأثر الاقتصادي المباشر لهؤلاء المبتكرين ومجتمعاتهم. لم يفقد أحد وظيفته ولم تفلس أي شركة بسبب كيك ستارتر. فقد ساعدت المجتمع الفني على الازدهار دون أذى أو تكاليف تكيف مؤلمة. وكان ذلك ربحاً كبيراً للجميع.
الزعزعة مقابل الإنشاء غير المزعزع للأسواق
يمكن التمييز بين تأثير الإنشاء غير المزعزع للأسواق وتأثير الزعزعة على 3 مستويات. يركز المستوى الجزئي على كل مؤسسة على حدة، والمستوى المتوسط على المجموعات أو تفاعلاتها، والمستوى الكلي على الاقتصاد أو المجتمع.
الأهمية المتزايدة للإنشاء غير المزعزع
منذ أن قدَّم الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، ميلتون فريدمان، نظريته عن إعطاء الأولوية للمساهمين، كانت هناك مفاضلة مزعومة بين تعظيم المكاسب الاقتصادية والصالح الاجتماعي. تؤكد نظرية فريدمان، التي تمثل جوهر الرأسمالية كما نعرفها اليوم، أن "هناك مسؤولية اجتماعية واحدة فقط للأعمال التجارية: استخدام مواردها والمشاركة في أنشطة مصممة لزيادة أرباحها". وتقع القضايا الاجتماعية التي تتجاوز حدود ذلك خارج النطاق المناسب للمؤسسة.
على الرغم من جميع الفوائد الاقتصادية التي جلبها هذا النهج، فإنه يواجه تحديات متزايدة مع انتباه العالم إلى الآثار الاجتماعية المكلفة التي تنتج عن السعي إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح. وأصبح عامة الناس يتحدثون عن تلك الآثار على نحو متزايد، ويطالبون الشركات بتوسيع نطاق رسالتها لما هو أبعد من الربح والنظر في تأثير أفعالها على المجتمعات المحلية والمجتمع ككل. والنتيجة هي زيادة المناقشات حول الحاجة إلى شكل مسؤول اجتماعياً من الرأسمالية. يركز الإنشاء غير المزعزع للأسواق على ذلك، ليس من خلال الإضرار بالمصلحة الاقتصادية، بل من خلال ابتكار أسواق جديدة دون تدمير.
يؤكد تأثير الثورة الصناعية الرابعة أيضاً ما للإنشاء غير المزعزع للأسواق من أهمية متزايدة في المستقبل. يُعد الذكاء الاصطناعي والآلات الذكية والروبوتات على المسار الصحيح لتحقيق أوجه كفاءة لم يكن من الممكن تصورها سابقاً، ولكنهم سيفعلون ذلك عن طريق استبدال مجموعة واسعة من وظائف البشر الحالية. إذ تشير الدراسات إلى أنه من المتوقع أن تحل الآلات الذكية محل نحو 20 مليون وظيفة في قطاع التصنيع حول العالم خلال العقد المقبل، وأكثر من 1.5 مليون منها في الولايات المتحدة. وتتوقع دراسات أخرى أن الآلات الذكية والروبوتات والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا البلوك تشين (سلسلة الكتل) والطباعة الثلاثية الأبعاد والأتمتة ستعرّض 20% إلى 40% من الوظائف الحالية للخطر خلال العقود القادمة، ومن بينها مجموعة من الوظائف الرفيعة المستوى في معظم القطاعات مثل الطب والقانون والتمويل والعقارات والصحافة. وكما تُظهر التطورات الحديثة، أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً حتى على إنشاء أعمال فنية ومقطوعات موسيقية أصلية جميلة.
لاستيعاب كل رأس المال البشري الذي تم الاستغناء عنه، ستكون هناك حاجة إلى وظائف جديدة، وهو ما يعيدنا مباشرة إلى المحرك المركزي للنمو الاقتصادي: الابتكار المُنشئ للأسواق. فنجاح التكنولوجيا والإنتاجية التي تطلق العنان لها تشجعان على الإبداع وإنشاء أسواق جديدة. سيكون التحدي بالنسبة للشركات والحكومات والمجتمع هو خلق وظائف جديدة لا تؤدي إلى إزاحة وظائف أخرى. وهذه ضرورة اقتصادية بقدر ما هي ضرورة أخلاقية، كما أنه سبب آخر يجعل الإنشاء غير المزعزع للأسواق على وشك أن يصبح أكثر أهمية. على سبيل المثال، منح التمويل المتناهي الصغر ما يقرب من 140 مليون شخص قروضاً لبدء مشاريع متناهية الصغر وكسب أجر من العمل لحسابهم الخاص. وتشير التقديرات إلى أن التدريب لتحسين الحياة الشخصية، وهو قطاع آخر غير مزعزِع، قد خلق عشرات الآلاف من الوظائف الجديدة. وأيضاً أدت الاستشارات البيئية إلى خلق آلاف الوظائف الجديدة، ولا شك في أن هذا العدد سيرتفع مع تزايد مخاوف العامة بشأن التدهور البيئي. ليس الإنشاء غير المزعزع للأسواق الحل الوحيد للتحديات التي نواجهها، فهناك حاجة إلى حل العديد من الأجزاء الأخرى من اللغز، ولكنه يجب أن يكون جزءاً من أي حل.
تحديد الفرص غير المزعزعة
إذاً، كيف يمكن للمؤسسات البحث عن فرص للإنشاء غير المزعزع للأسواق واغتنامها؟ للإجابة عن هذا السؤال، درسنا إذا ما كان هناك نمط يكمن وراء الحالات الناجحة للإنشاء غير المزعزع للأسواق، وإذا تَبين أن هناك نمطاً، فكيف يبدو. كان هدفنا هو جمع العمليات الفكرية المتكررة وأفعال المنشئين غير المزعزعين للأسواق حتى تتمكن المؤسسات الأخرى من استخدامها لتحقيق أقصى تأثير.
هناك 3 ركائز للإنشاء غير المزعزع للأسواق: تحديد فرصة غير مزعزعة، وإيجاد طريقة لتوفيرها، وضمان توافر عناصر التمكين اللازمة لاغتنامها بطريقة عالية القيمة ومنخفضة التكلفة. سنركز في هذه المقالة على "تحديد الفرص غير المزعزعة" لضيق المجال، وهناك طريقتان رئيسيتان للقيام بذلك.
معالجة مشكلة قائمة، ولكنها غير مستكشَفة. تُنشَأ الأسواق غير المزعزعة من خلال حل مشكلة جديدة تماماً أو الكشف عن فرصة جديدة تماماً خارج حدود القطاع القائم. وهذا لا يعني بالضرورة أن تظهر المشكلة أو الفرصة فجأة، فربما كانت موجودة منذ فترة طويلة، ولكنها ظلت غير مستكشَفة، وهو الأهم، أو لم يُنظر إليها على أنها مشكلة يجب حلها أو فرصة لإنشاء أسواق. وفي بعض الأحيان يتقبّلها الأشخاص، بوعي أو بغير وعي، على أنها ببساطة "الطريقة التي تسير بها الأمور". فربما حاولت مؤسسة أو أفراد يتمتعون بسمعة طيبة معالجة المشكلة منذ فترة طويلة وفشلوا، ولذلك ينظر إليها الأشخاص على أنها مشكلة يستحيل حلها من الأساس. وأحياناً تُعتبر أمراً مفروغاً منه ومقبولاً لأن الأشخاص ابتكروا شكلاً من أشكال الحلول غير المرتبطة بالسوق، كما فعلت النساء قبل ابتكار الفوط الصحية.
لنأخذ شركة سكوير (Square) (التي أصبح اسمها الآن بلوك Block) مثالاً. رأى المؤسسان، جيم ماكيلفي وجاك دورسي، أن الأفراد والمشاريع التجارية الصغيرة يخسرون المبيعات لأنهم لا يستطيعون قبول الدفع ببطاقات الائتمان. كانت هذه المشكلة موجودة منذ فترة طويلة ولكن قُبِلَت بطريقة ما على أنها معاناة طبيعية تترافق مع إدارة شركة صغيرة. كانت خسارة ماكيلفي المباشرة من بيع أعماله من نفخ الزجاج هي التي سلطت الضوء على هذه المشكلة القائمة ولكن غير المستكشَفة، وجعلت المؤسسين متحمسين لحلها، إذ أدركا كم من الأشخاص سيستفيدون من هذه السوق الجديدة؛ من الشركات الصغيرة إلى متاجر البيع المؤقتة وشاحنات بيع الآيس كريم وحتى جليسات الأطفال. أدى الحل الذي ابتكرته سكوير، وهو "سكوير ريدر" (Square Reader)، إلى إنشاء سوق جديدة غير مزعزعة. لم يكن له تأثير يُذكر على التجار الحاليين وجهات تقديم خدمة البطاقات الائتمانية التي يتعاملون معها، وسرعان ما نمت سكوير لتصبح شركة تبلغ قيمتها مليار دولار دون مواجهة أي رد فعل حقيقي من الأطراف الفاعلة الراسخة أو الصراع معها.
على نطاق أصغر، لنأخذ ميك إيبيلينغ ودانيال بيلكر وشركتهما نوت إيمبوسيبل لابز (Not Impossible Labs) مثالاً. لطالما اعتُبرت حقيقة أن الأشخاص الصم لا يمكنهم تذوق الموسيقى من الحقائق المؤسفة في الحياة. ومع ذلك، لم ينظر إيبيلينغ وبيلكر إليها على أنها المصير الحتمي للصم، بل على أنها فرصة جديدة تماماً للابتكار. ولذلك شرعا وبقية الفريق في نوت إيمبوسيبل لابز في تغيير الوضع باستخدام جهاز "ميوزك: نوت إيمبوسيبل" (Music: Not Impossible). أدركا أنه على الرغم من أن الاهتزازات الصوتية تدخل الدماغ من خلال الأذنين، فإن الدماغ هو الذي "يسمع". ولإيصال الاهتزازات إلى الدماغ، استخدما الجلد بدلاً من الأذن، وطورا جهازاً اهتزازياً يعمل باللمس قابلاً للارتداء لرواد الحفلات الموسيقية من الصم، وهو سترة تُرتدى فوق القميص وتحتوي على نظام صوت متكامل من 24 أداة خفيفة الوزن تُحدث اهتزازات وتُوضع بطريقة مدروسة على الخصر والرقبة والكتفين. وكانت النتيجة هي إقامة أول حفل لموسيقى الروك في العالم للأشخاص الصم. يعمل جهاز "ميوزك: نوت إيمبوسيبل" الآن على توسيع نطاق تقديم عروضه في جميع أنحاء العالم، من مهرجان موسيقي في لندن إلى دار أوبرا في فيلادلفيا إلى الأوركسترا السيمفونية البرازيلية إلى الحفلات الراقصة الصامتة في مركز لينكولن لفنون الأداء في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، للوصول إلى الصم وغير الصم على حد سواء.
تشير فكرة أنه يمكننا إنشاء أسواق جديدة والنمو دون زعزعة الآخرين إلى أن الأعمال يجب ألا تكون لعبة مزعزِعة قائمة على الخوف يربح فيها طرف ويخسر آخر.
تُعد ابتكارات شركة جو برو (GoPro) وليكويد بيبر (Liquid Paper) وعقار الفياجرا من شركة فايزر (Pfizer) ومنصة بروديجي فاينانس (Prodigy Finance)، وبالعودة في الزمن كان هناك أيضاً مسّاحة زجاج السيارات البسيطة التي لا غنى عنها وغسّالة الصحون، وتلك ليست سوى عدد قليل من الابتكارات الكثيرة غير المزعزعة التي تم التوصّل إليها من خلال معالجة مشكلات حالية ولكنها غير مستكشَفة بحلول مستندة إلى السوق.
معالجة مشكلة ظهرت حديثاً. تؤدي التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والديموغرافية والتكنولوجية التي لها تأثير على المجتمع أو حياة الناس إلى ظهور مشكلات وفرص جديدة. وتقديم فعال لحاجة أو فرصة ناشئة، خارج حدود القطاع القائم، يفتح المجال أمام سوق جديدة غير مزعزعة. لنأخذ على سبيل المثال شركة "تونغ وي غروب" (Tongwei Group) الصينية لإنتاج الأعلاف المائية. أدى الضغط العالمي المتزايد للحصول على طاقة نظيفة منخفضة الكربون إلى خلق مسعى جديد في الصين للحصول مصادر الطاقة الخضراء، خاصة في المناطق الشرقية والوسطى حيث كان النشاط الصناعي مركزاً والطلب على الطاقة آخذاً في الارتفاع. هذه المناطق مكتظة بالسكان، مع تخصيص الأراضي الريفية للاستخدام الزراعي، ما يترك مساحة ضئيلة لمرافق إنتاج الطاقة الخضراء.
نظراً إلى هذه الحاجة الناشئة، شرعت تونغ وي غروب في إنشاء سوق جديدة تماماً وغير مزعزعة من خلال الاستفادة من أعمالها التي تخدم ملايين الأفدنة من المزارع السمكية في شرق الصين ووسطها. وعلى الرغم من أن تربية الأحياء المائية كانت بالفعل مصدراً مهماً للإيرادات للمزارعين الأفراد والحكومات المحلية، فقد قررت تونغ وي أنه يمكن مضاعفة القيمة الاقتصادية لموارد المياه هذه باستخدام المسطحات المائية غير المستغلَّة لإنتاج الطاقة الخضراء.
ولذلك أنشأت الشركة قطاعاً غير مزعزِع قائماً على الطاقة الكهروضوئية والإدارة المتكاملة لمصائد الأسماك، وقد جمع أساساً بين نظام مبتكَر لتربية الأحياء المائية في شكل أقفاص كانت قد طورته وبين نظام كهروضوئي قائم على الماء. كان للألواح الشمسية الموضوعة فوق الماء تأثير في خفض درجات حرارة المياه وتقليل التمثيل الضوئي وسرعة نمو الطحالب، ما عزز إنتاج المزارع السمكية. وفي الوقت نفسه، عملت تونغ وي على توليد الكهرباء باستخدام الألواح الشمسية. وكانت نتائج هذا الإنشاء غير المزعزع للأسواق هي: ارتفاع دخل مزارعي الأسماك، ومصدر جديد للطاقة الخضراء في تلك المناطق، والمزيد من الإيرادات الضريبية للحكومات المحلية، وأعمال جديدة مربحة للغاية لتونغ وي. لم تُزعزِع سوق تونغ وي الجديدة أحداً، كما أنها تتوسع بسرعة في جميع أنحاء الصين.
هناك سوق أخرى غير مزعزِعة: سوق الرياضات الإلكترونية. كان اهتمام الشباب بمشاهدة المحترفين الماهرين وهم يلعبون ألعاب الفيديو عبر الإنترنت يزداد بسرعة، سواء كانوا لاعبين أم لا. واستجابة لذلك، أنشأ صانعو ألعاب الفيديو ومنظمو الرياضات الإلكترونية من الأطراف الثالثة بطولات احترافية وجهاً لوجه يمكن فيها للاعبين الأكثر مهارة التنافس في فعاليات عالمية مثيرة تُقام في ساحات ضخمة بحضور ما يصل إلى 50 ألف شخص مع عرض تحركات اللاعبين على شاشات بانورامية. وأبرموا اتفاقيات مربحة لبث الفعاليات مباشرة في جميع أنحاء العالم، فأصبح يشاهدها ما يصل إلى 100 مليون معجب. وبهذه الطريقة، صُممت الرياضات الإلكترونية لتصبح رياضة جماهيرية مختلفة عن الألعاب نفسها. يحقق هذا القطاع اليوم أكثر من مليار دولار من الإيرادات ولديه نحو 175 مليون معجب حول العالم. ولم يُؤدِّ إنشاء هذا القطاع ونموه إلى الإطاحة بأي ألعاب موجودة أو قطاعات رياضية أخرى.
الأسئلة ذات الصلة هنا هي: ما المشكلات المسلَّم بها التي لم يُنشَأ قطاع لحلها والتي لاحظتها أنت أو شركتك أو واجهتها بشكل مباشر؟ ما المشكلات التي ظهرت حديثاً وتواجهها أنت أو مؤسستك ولم يتطرق إليها أي قطاع ويمكن أن تخلق فرصة حقيقية لك أو لأعمالك أو للعالم؟ هل تبحث بنشاط عن مشكلات جديدة تماماً لحلها وفرص جديدة لإنشاء أسواق؟ هل لديك آلية أو عملية أو أدوات للقيام بذلك بفعالية؟
بينما نسعى إلى التصدي للتحديات الكثيرة التي تواجه كوكبنا والبشرية، سنحتاج إلى حلول مبتكَرة منشئة للأسواق. ونعتقد أنها إذا كانت حلول غير مزعزِعة، فستساعد في سد الفجوة بين قطاع الأعمال والمجتمع، وجمع الناس معاً بدلاً من تفرقتهم.
يتمحور جزء كبير من الأعمال حول الاعتداء والخوف: التغلب على المنافسين أو سرقة حصة سوقية أو القيام بالزعزعة أو التعرض للزعزعة. يكره معظمنا تلك المشاعر والسلوكيات لأنها تملأنا بالقلق، وتجعلنا نشعر أننا تحت التهديد وأننا قد نتعرض للتهميش أو التدمير إذا لم نقم بالضربة الأولى. فهي نظرة إلى العالم قائمة على مبدأ الندرة. فماذا لو تمكنا من الانتقال من الخوف إلى الأمل، ومن عقلية الندرة إلى عقلية الوفرة؟ تشير فكرة أنه يمكننا إنشاء أسواق جديدة والنمو دون زعزعة الآخرين إلى أن الأعمال يجب ألا تكون لعبة مزعزِعة قائمة على الخوف يربح فيها طرف ويخسر الآخر.
من المؤكد أن الخوف يمكن أن يكون فعالاً. ويُعد مبدأ "زعزِع وإلا ستهلك" حافزاً قوياً للمؤسسات لاتخاذ إجراء، لكن الأمل في تقديم إسهام ذي محصلة إيجابية للأعمال والمجتمع قوي بالقدر نفسه. لهذا السبب من المهم فهم كلا طرفي الابتكار المُنشئ للأسواق والعمل وفقاً لهما، وأيضاً فهم السبب في أن الإنشاء غير المزعزع للأسواق يُعد عنصراً أساسياً مكملاً للزعزعة، فلكل منهما دور يؤديه في بناء مستقبل مشرق.