نظراً لسعي العالم بأسره إلى التصدي لفيروس لا يفهم طبيعته تمام المعرفة، وفي ظل هبوط أسواق الأسهم وارتفاعها، ونتيجة حالة عدم الاستقرار التي تعصف بالمؤسسات السياسية في شتى أنحاء العالم، من الطبيعي ألا نكون قادرين على التنبؤ بمستقبل الشركات الصغيرة والمتوسطة ما بعد جائحة "كوفيد-19".
ومع ذلك، وسط كل ذلك الغموض الذي يكتنف العالم، نجد أن أحد التوجهات بقي ثابتاً. إذ تعدّ الشركات الصغيرة والمتوسطة جزءاً من قطاع الأعمال سريع النمو والمتخصص في "تعزيز الإنتاجية وتحقيق نمو أكثر شمولاً والقدرة على التكيف مع التوجهات الكبرى"، وجاء ذلك بحسب تقرير "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية".
ونظراً لأن جائحة "كوفيد-19" كانت العامل المحفز للعديد من التوجهات الكبرى في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك زيادة العمل من المنزل واستخدام التكنولوجيا، تُعتبر الشركات الصغيرة والمتوسطة في وضع مثالي للاستفادة من تلك التوجهات، وتُعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة إحدى المواطن الرئيسة للشركات الصغيرة والمتوسطة الرائدة في الساحة العالمية.
من الصعب المبالغة في تقدير تأثير الشركات الصغيرة والمتوسطة على الاقتصاد الإماراتي: فحوالي 94% من الشركات المسجلة هي شركات ناشئة توظّف 86% من قوة العمل في القطاع الخاص، في حين تشكّل الشركات الصغيرة والمتوسطة وحدها 40% من الناتج المحلي الإجمالي لمدينة دبي، وعلى هذا النحو، أعلنت حكومة الإمارات العربية المتحدة علناً عن طموحها في تعزيز أداء قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة في المستقبل، ومن هذا المنظور، من المحتمل أن يكون القطاع مستعداً للازدهار بالفعل في مرحلة ما بعد جائحة "كوفيد-19".
أربعة حوافز تجعل من دولة الإمارات أفضل حاضنة لمشاريع ريادة الأعمال:
التوجيه الحكومي
تُدرك حكومة الإمارات العربية المتحدة مدى أهمية الشركات الصغيرة والمتوسطة في نمو الاقتصاد. وتقدم مبادرة الحكومة التي تحمل اسم "البرنامج الوطني للشركات الصغيرة والمتوسطة" الدعم المالي لرواد الأعمال لمساعدتهم في تنمية أفكارهم والتغلب على العقبات.
وبتوجيه من "مجلس الشركات الصغيرة والمتوسطة" الإماراتي الذي يضم مجموعة من الخبراء المعيّنين من قبل الحكومة، يمكن تقسيم البرنامج إلى ثلاثة مشاريع مهمة:
- الدعم المالي: يمنح التمويل الحكومي المباشر الشركات الناشئة الوسائل اللازمة لتجاوز عاصفة المناخ الاقتصادي غير المستقر من خلال تقديم المنح وتدابير الضرائب المدعومة.
- تبادل المعرفة: يحصل المشاركون على إمكانية الوصول إلى الخبرات التجارية من خلال ورش العمل والندوات، إضافة إلى قاعدة بيانات متخصصة تحتوي على معلومات السوق.
- استخدام الأساليب والمرافق المتطورة: يوفر البرنامج تقنيات وأدوات عمل رائدة توفر لرواد الأعمال نقطة انطلاق نحو تحقيق أهدافهم.
ويُمثّل ذلك الدعم من حكومة الإمارات رمزاً لرغبتها في أن تكون في طليعة قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة العالمية. وينطوي دور الدولة على المساعدة في تأميم مؤسسات مرنة وقابلة للتطوير ومعدّة للتعامل مع متطلبات عالم ما بعد جائحة "كوفيد-19" سريع التغيير، وذلك من خلال تجميع أفضل الموارد والمواهب في برنامج واحد يمكن الوصول إليه.
المشاريع الاجتماعية
بصرف النظر عن المشاركة الحكومية، تفتخر دولة الإمارات العربية المتحدة باحتضانها قطاع ريادة الأعمال الاجتماعية المزدهر، مع استعداد العديد من الشركات لتطوير الشركات الصغيرة والمتوسطة الناشئة وتقديم الدعم لها.
ومثل الحكومة، تركّز تلك الشركات على تزويد الشركات الناشئة بالأدوات اللازمة للازدهار في مرحلة متقلبة، ولكن مع اختلاف رئيسي واحد، ألا وهو التزامها بوضع خطة عمل خاصة تحدد متطلبات كل مؤسسة بدقة لقيادتها إلى النجاح.
وتُعتبر "الهلال للمشاريع الابتكارية"، المنصة المعنية بابتكار الأعمال العاملة تحت مظلة الهلال للمشاريع، مثالاً بارزاً على ذلك النوع من المشاريع الاستثمارية. إذ تركز الشركة على تطوير واحتضان أعمال ناجحة وقابلة للنمو والتوسع وتخلق أثراً اجتماعياً إيجابياً ومستداماً، إضافة إلى إعدادها للتعامل مع ظروف التسويق المتقلّبة. وتحقق المنصة ذلك من خلال طريقتين رئيستين، ألا وهما تعزيز المرونة وضمان النمو المستدام.
وأصبحت الشركات الناشئة التي تخضع لإدراة منصة الهلال للمشاريع الابتكارية، أكثر قوة نتيجة تدابير خفض التكاليف الفاعلة، مثل الإدارة الأخلاقية للمخلفات واستيراد المواد. كما أنها تتوافق مع المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة الرئيسية التي تجعل منها آفاقاً استثمارية أكثر جاذبية.
وتضم المحفظة الاستثمارية التابعة لمنصة "الهلال للمشاريع الابتكارية" شركات ناشئة في قطاعات الأغذية والمشروبات، والملابس الصناعية، والنقل المستدام والتي طورت استراتيجيات تهدف إلى الازدهار في عالم الأعمال الذي تعصف به الأزمات. وتقدّم شركتها الناشئة "أيون" (Ion) حلولاً للنقل المستدام في المعركة المستمرة للحد من انبعاثات الكربون، في حين تركز شركة شمال على تطوير لباس العمل المُكيّف حسب احتياجات العمل في دول "مجلس التعاون الخليجي" التي تتميز بمناخها الحار والتي قد تصل درجات الحرارة فيها إلى أكثر من 45 درجة مئوية.
ويُعد مشهد الشركات الناشئة النابض بالحياة في الإمارات العربية المتحدة بيئة مثالية للشركات تتيح لها الاستثمار في الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال تقديم التوجيه الاستراتيجي في القطاعات ذات الأهمية المتزايدة في مرحلة ما بعد جائحة "كوفيد-19".
التركيز على التكنولوجيا
لقد أسفرت جائحة "كوفيد-19" عن تسريع وتيرة التطور التكنولوجي. ومع زيادة احتمال استخدام المستهلكين الخدمات الرقمية بدلاً من إجراء الأنشطة وجهاً لوجه، من الضروري أن تتبنى الشركات الناشئة الابتكار الرقمي.
وتستفيد الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات العربية المتحدة من دخولها المجال الرقمي الطموح في عام 2020 مع توقعات بزيادة الاستثمار في المستقبل القريب. وسيكون الذكاء الاصطناعي في طليعة عقلية الأعمال في الدولة، إذ من المتوقع أن يولّد ذلك القطاع 2.9 تريليون دولار من قيمة الأعمال على مستوى العالم بحلول عام 2021؛ وتأمل دولة الإمارات العربية المتحدة أن تكون إحدى الدول الرائدة في الشرق الأوسط عندما يتعلق الأمر بتبني حلول الذكاء الاصطناعي. ويهدف برنامج الذكاء الاصطناعي الذي طورته الحكومة إلى جعل دولة الإمارات مركزاً تقنياً رئيسياً، ويتيح للشركات الصغيرة والمتوسطة دمج الذكاء الاصطناعي منخفض التكلفة في خطط أعمالها، مثل روبوتات الدردشة والتعلم الآلي، وهو ما يُسفر عن زيادة الإنتاجية وخدمة الزبائن بشكل كبير.
وتُعتبر التكنولوجيا المالية أيضاً إحدى التقنيات التي تبنتها دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تجمع مشاريع مثل "فين تك هايف" (Fintech Hive) بين مجالات التكنولوجيا والتمويل، موحدة بذلك الشركات من القطاعين وموفرة لها التوجيه والتمويل. وتقدمت المئات من الشركات الناشئة في الإمارات العربية المتحدة بطلب للحصول على برنامج "فين تك هايف" في عام 2020، وهو ما يعكس الطلب المتزايد على الشركات الصغيرة والمتوسطة من هذا النوع.
ومع تهاوي الاقتصاد العالمي في أسوأ جائحة في القرن، تسعى الشركات وراء الراحة التي يوفرها الابتكار الرقمي لتحصل على التوجيه اللازم في ظل هذا الوضع الاقتصادي المتقلّب. كما أن مكانة دولة الإمارات العربية المتحدة باعتبارها حاضنة للنمو التكنولوجي يجعلها موطناً مثالياً للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تتطلع إلى الاستفادة من التكنولوجيا في عملياتها.
التنمية المستدامة
أدى تفشي جائحة "كوفيد-19" إلى زيادة الطلب المرتفع بالفعل على التنمية المستدامة. وكان لإجراءات الإغلاق العام تأثير اقتصادي شديد في جميع أنحاء العالم، إلا أنها سلّطت الضوء أيضاً على بعض الآثار البيئية الإيجابية، فقد أشار تقرير صادر عن "مركز أبحاث الطاقة والهواء النقي" (Centre for Research on Energy and Clean Air) في أبريل/نيسان إلى انخفاض حالات الوفاة المرتبطة بتلوث الهواء بمقدار 11,000 حالة في عام 2020 مقارنة بالعام السابق، وذلك بسبب انخفاض استخدام الوقود الأحفوري في أوروبا نتيجة لفرض إجراءات الحجر المنزلي.
كما عززت إجراءات الإغلاق العام أيضاً من تطور مفاهيم مثل الرأسمالية الخضراء التي تهيمن على جداول أعمال الشركات الكبرى لتعكس الطلب العام على العيش في كوكب أنظف. وقد أظهرت حكومة الإمارات العربية المتحدة التزاماً بالقضايا ذات الصلة، وأنشأت "اللجنة الوطنية لأهداف التنمية الاستراتيجية" في عام 2017، وكشف تقرير شركة "أوليفر وايمان" (Oliver Wyman report) الأخير الأسلوب الذي تتخذه الدولة لتصبح رائدة في عمليات الأعمال النظيفة.
غالباً ما تكون الشركات الصغيرة والمتوسطة شركات عضوية بطبيعتها وتبدي اهتمامها بالمخاوف البيئية والأخلاقية، مثل تلك الشركات الفرعية والمدرجة في دليل منصة "الهلال للمشاريع الابتكارية". وتُعدّ مثيلات تلك الشركات في الإمارات العربية المتحدة مؤهلة للاستفادة من المبادرات الحكومية التقدمية، مثل "صندوق دبي الأخضر"، وهو مشروع بقيمة مليار درهم يهدف إلى تمويل المشاريع البيئية بأسعار فائدة منخفضة. ويمكن للشركات الصغيرة والمتوسطة أيضاً التقدم بطلب للحصول على تمويل من مصادر مختلفة من القطاع الخاص، مثل تسهيلات القروض الخضراء من شركة "مصدر" (Masdar) التي تُعتبر الأولى في الشرق الأوسط.
وتمثّل تلك المشاريع دليلاً على أهمية التركيز على الوعي البيئي باعتباره أمراً ضرورياً للشركات الصغيرة والمتوسطة الجديدة؛ وتوفر دولة الإمارات العربية المتحدة الظروف المثالية لمثل تلك الكيانات لمساعدتها في مواصلة أعمالها التجارية.
حاضنة ريادة الأعمال المحلية
يُعدّ تحليل "بيستل" (PESTLE) طريقة رئيسية لتقييم مدى ملاءمة الدولة للأعمال التجارية، ذلك لأنه يأخذ في الاعتبار العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي تساهم في النجاح. ويبدو أن دولة الإمارات العربية المتحدة حصلت على درجات عالية في العديد من تلك المجالات من خلال ما يلي:
1- التمويل الحكومي الذي يوفر ثقلاً سياسياً واقتصادياً لفرص نجاح المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فضلاً عن تعزيز الخبرة والتمويل في القطاع الخاص.
2- الالتزام بالاستدامة وعالم أعمال أكثر اخضراراً في مرحلة ما بعد جائحة "كوفيد-19"
3- مواكبة التقدم التكنولوجي، مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية.
وتساهم تلك العوامل مجتمعة في جعل الإمارات العربية المتحدة حاضنة لمواهب الشركات الصغيرة والمتوسطة في عام 2020، كما أنها تمدّ رواد الأعمال الطموحين بشعور بالاستقرار في أعقاب جائحة "كوفيد-19"، الأمر الذي سيؤدي إلى تعزيز فرص الازدهار والتطور أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة بعد جائحة فيروس "كوفيد-19".