لطالما تساءل الخبراء الاقتصاديون والباحثون عبر التاريخ عن العلاقة ما بين الادخار والاستثمار،حيث يقول الباحثون في مدرسة شيكاغو للاقتصاد أنه على عكس نظرية كينز، فإن مفهوم الادخار مختلف عن مفهوم الاستثمار، إذ يعرفون الادخار على أنه الاحتفاظ بمبلغ من المال لأجل الاستهلاك المستقبلي، في حين يعرفون الاستثمار على أنه إنفاق مبلغ من المال في شراء الأصول التي يمكنها توليد المال في المستقبل، كالأسهم والعقارات. إلا أن باحثين آخرين يدعمون رأي جون مينارد كينز في أن الادخار والاستثمار متساويان، فقد شدد كينز في كتابه عن "النظرية العامة للتوظيف والفوائد والمال" على أن: "إجمالي الادخار يعادل إجمالي الاستثمار دوماً، وبالتالي فإن تحقق المساواة بين الادخار والاستثمار هو شرط للتوازن".
على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين خبراء الاقتصاد، فلا خلاف على العلاقة بين الادخار والاستثمار والاستهلاك. إذ تقول نظرية دورة الحياة التي طورها فرانكو موديلياني عام 1957 أن الفرد ينفق المال ويدخره وفقاً للموارد المتوفرة لديه طيلة حياته، ما يؤدي إلى توليد دوافع مختلفة للادخار لديه. فدافعية التقاعد، تؤدي للادخار عندما يكون الدخل مرتفعاً، وتتمثل في توقع انخفاض الدخل أثناء فترة التقاعد؛ والدافعية الوقائية، تتمثل في الادخار بهدف الاستعداد للصدمات السلبية المحتملة على الدخل أو الاحتياجات؛ ودافعية الاكتناز تتمثل في الادخار عندما تكون الأرباح المتوقعة مرتفعة.
يصنف الادخار في سياق الاقتصاد الكلي إلى ثلاث فئات، وهي الادخار الخاص، وهو إجمالي المدخرات على مستوى الأسرة والشركة ضمن النظام الاقتصادي؛ والادخار العام، وهو المدخرات على مستوى الحكومات؛ والادخار الوطني، وهو مجموع الادخارين الخاص والعام.
لطالما كانت هناك علاقة إيجابية بين مستوى الادخار في دولة ما ونسبة نموها الاقتصادي. فالادخار يؤدي إلى تراكم رأسمال ثابت يمكن استخدامه بعدد لا يحصى من الطرق، بدءاً من الاستثمار في التقنية وصولاً إلى إنشاء معامل جديدة. ويؤدي هذا الفائض القابل للاستثمار في النظام الاقتصادي بدوره إلى النمو الاقتصادي. ولطالما تحدثت المؤلفات الاقتصادية المدعومة بمجموعة واسعة من نماذج الاقتصاد القياسي عن الدور الحيوي للادخار في التنمية الاقتصادية للدول.
والادخار الأسري هو أداة مهمة في أي نظام اقتصادي، وله دور حاسم في تحفيز التنمية الاقتصادية المستدامة. وقد رأينا عبر التاريخ أن الدول التي ترتفع فيها نسبة الادخار الأسري تتمتع بنمو اقتصادي مرتفع أيضاً. على سبيل المثال، تتمتع الصين بنسبة مرتفعة من الادخار الأسري، وهي أعلى من المعدل العالمي، في حين تشهد جنوب أفريقيا مستوى متدن من الادخار الأسري مترافق مع مستوى متدن أيضاً من النمو الاقتصادي.
تبين البيانات الإحصائية أن نسبة الادخار الأسري في كثير من الدول تنخفض عاماً بعد عام. وبسبب عوامل مثل شيخوخة السكان ونقص الثقافة المالية وتفضيلات المستهلكين والإجراءات والسياسات التي تتبعها الحكومات، تراجعت نسب الادخار المنزلي بدرجة كبيرة أثناء العقد الماضي في كثير من الأنظمة الاقتصادية الكبرى، ومنها أستراليا والمملكة المتحدة. والمملكة العربية السعودية أيضاً هي إحدى الدول التي تشهد تضاؤل نسبة الادخار المنزلي بسبب عوامل محددة نناقشها في هذا المقال بالتفصيل.
أجرت الهيئة العامة للإحصاء في الرياض استقصاء حول الدخل والإنفاق الأسريين، وكشفنا من خلال تحليله عن تراجع في نسبة الادخار الأسري في المملكة العربية السعودية. كما كشف هذا الاستقصاء، الذي ينشر كل خمسة أعوام، عن أحد الأسباب الرئيسية لهذا الانخفاض متمثلاً في الزيادة غير المتكافئة في كل من الاستهلاك والدخل الشهريين في الأعوام العشر الأخيرة. إذ يبين الاستقصاء أنه في حين ارتفع متوسط الدخل الشهري ما بين عامي 2007 و2018 من 14,084 ريال سعودي إلى 14,823 ريال، أي بنسبة 5.3%، ازداد الإنفاق الاستهلاكي الشهري للأسرة من 10,522 ريال إلى 14,584 ريال، أي بنسبة 38.6% في نفس الفترة. كما شهد متوسط الادخار الأسري انخفاضاً كبيراً بنسبة 27.7% ما بين عامي 2013 و2018. فمن بين دول مجموعة العشرين، كانت الصين تترأس نسب الادخار الأسري بنسبة بلغت 36.1% (عام 2016)، بينما كانت المملكة العربية السعودية من بين الدول ذات النسب الأدنى، إذ بلغ الادخار الأسري فيها نسبة 1.6% منذ عام 2018.
اتخذت عدة دول حول العالم، ومنها المملكة العربية السعودية بعض التدابير سعياً لتعزيز الادخار الأسري. في عام 2017، أطلق مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي "رؤية 2030" مع عشرة برامج تنفيذية تشمل برنامج تطوير القطاع المالي الذي يهدف إلى تنمية الاقتصاد الوطني وإنشاء قطاع خدمات مالية متنوع النشاط. يتمثل أحد المحاور الرئيسية لهذا البرنامج في تعزيز التخطيط المالي وتحفيز الادخار. ومن أجل تحسين الادخار الأسري في المملكة، يهدف برنامج تطوير القطاع المالي لتنويع منتجات الادخار المتوفرة في السوق وتأسيس هيئة مخصصة لتعزيز الثقافة المالية وتقوية المنظومة البيئية المتكاملة للادخار في المملكة. كما يهدف البرنامج أيضاً إلى زيادة نسبة الادخار الأسري في المملكة كنسبة من الدخل المتاح، لتصل إلى نسبة 7.5% في العام الجاري.
يتأثر الادخار الأسري بعدة عوامل في المملكة العربية السعودية، كما يلي:
1- تدني مستوى الثقافة المالية مقارنة بالدول الأخرى
على المستوى العالمي، يقدر أن ثلثي السكان البالغين يفتقدون المعارف المالية الأساسية، وهناك تفاوت كبير في توزعها وخصوصاً بين المجموعات ذات الدخل المتدني. ويسود نقص الثقافة المالية على نطاق واسع بين السكان في المملكة العربية السعودية. وبحسب ورقة بحث صدرت مؤخراً، فإن معظم سكان المملكة يفتقدون المعرفة حول المفاهيم الأساسية عن التخطيط المالي. على الرغم من أن المشاركين في الاستقصاء الخاص بالبحث أبدوا مستوى أعلى من المتوسط بقليل من القدرة على "الوفاء بالالتزامات المالية"، فإن المستوى لا يزال أدنى من المتوسط المقبول عالمياً. وتتمثل عواقب هذا الأمر في أن الأفراد غالباً ما يجدون صعوبة في سداد التزاماتهم المالية في نهاية كل شهر، ما يؤدي إلى لجوئهم إلى أشخاص آخرين للحصول على المساعدة المالية، أو للاستدانة بصورة مقلقة أكثر.
2- ميل الناس إلى الإنفاق لا الادخار
في حين يميل الناس في الدول الأخرى إلى الادخار، نظراً لأسباب شخصية كالتخطيط للتقاعد، والظروف غير المتوقعة كالأزمات الاقتصادية والبطالة، يستمر الناس في المملكة العربية السعودية بعاداتهم في الإنفاق، وذلك بسبب تفاؤلهم بالمستقبل. تسود هذه السمة على الجيل الأصغر في المملكة، وهو يميل للاستهلاك أكثر نظراً لقناعته الخاطئة بأن الدولة ستستمر بدعمه مالياً حتى في الظروف الاقتصادية الصعبة.
3- توزع الفئات العمرية
من خلال تحليل استقصاء الهيئة العامة للإحصاء حول الإنفاق والدخل الأسريين، تمكنا من التحقق من نمط الاستهلاك لدى المواطنين السعوديين. كما توضح البيانات، فإن سلوك الادخار لدى الناس في المملكة العربية السعودية يصف استمرار انخفاض مستويات الادخار لدى الأفراد في المرحلة العمرية المتوسطة، ويتماشى ذلك مع نظرية دورة الحياة نوعاً ما. في عام 2018، بلغ متوسط الادخار لدى السعوديين في الشريحة العمرية 40 - 49 عاماً، نسبة -4%، في حين بلغت لدى الشريحة العمرية 25 - 29 عاماً نسبة 2%، ولدى الشريحة العمرية 30 - 35 عاماً نسبة 4%. وبلغ المتوسط الكلي لنسبة الادخار لدى السعوديين نسبة -14%.
بالنظر إلى العوامل التي تؤثر على الادخار الأسري في المملكة العربية السعودية، وضعنا بعض الاقتراحات الأساسية والتوجيهات المستقبلية من أجل تحسين نسبة الادخار المنزلي في المملكة العربية السعودية.
1- تقديم مبادرات متعلقة بالسياسية العامة قائمة على المميزات السلوكية للأسر.
لدى المملكة العربية السعودية فرصة للاستفادة من الاقتصاد السلوكي من أجل تعزيز ادخارها الوطني. ويمكن لراسمي السياسات في المملكة اكتساب بعض الأفكار من مبادرات الدول الأخرى التي أثبتت نجاحها في تعزيز العقلية القائمة على الادخار.
أ. تحفيز نشوء ثقافة الادخار عن طريق إجراء تجارب سلوكية صغيرة الحجم. يمكن للمملكة العربية السعودية إجراء تجارب عشوائية صغيرة الحجم وخاضعة للتحكم بهدف فهم سلوك الادخار لدى مواطنيها. ونظراً للتنوع السكاني في المملكة، فإن إجراء تجارب سلوكية صغيرة الحجم قد يولد أفكاراً مفيدة ويمهد الطريق لطرح منتجات تجارية ملموسة في مرحلة لاحقة. على سبيل المثال، يمكن أن تجري المملكة تجربة بهدف فهم تأثير جماعات النظراء في قرارات الادخار التي يتخذها الأفراد.
ب. إنشاء هيئة ناظمة للإشراف على تقدم التجارب السلوكية. يمكن أن تؤسس المملكة هيئة إشراف لتعزيز مبادئ توجيهية محددة، ومنها ما يتعلق بنوع التجارب السلوكية المسموحة ومراقبة تقدمها وطلب اتخاذ إجراءات تصحيحية عند اللزوم. وبالتالي، يمكن الاستفادة من الاقتصاد السلوكي في فهم الميزات السلوكية للسكان، ما سيساعد المملكة العربية السعودية على تصميم سياسات خاصة باحتياجات مواطنيها. وهذا بدوره سيوقع أثراً إيجابياً على حجم الادخار في المملكة.
2- زيادة الثقافة المالية من أجل تعزيز الادخار
أ. تقديم برامج توعية مصممة خصيصاً.
أولاً، يمكن للمؤسسات المالية، كالمصارف، استضافة ندوات مخصصة لمجموعات معينة تشمل طلاب المدارس والجامعات، والمهنيين، والفئات متوسطة الدخل، وربات المنازل، والمتقاعدين وغيرهم. يمكن أن تركز هذه الندوات على تثقيف هذه المجموعات المستهدفة حول مخططات الادخار المتبعة التي تلبي احتياجاتهم.
ثانياً، كما يمكن ابتكار استراتيجية قائمة على الهدف. على سبيل المثال، يمكن لراسمي السياسات استهداف الشباب في المملكة وطرح برامج تشجعهم على زيادة الادخار من أجل تلبية احتياجاتهم التعليمية.
ب. إنشاء هيئة للإشراف على حركة الثقافة المالية في المملكة.
كما هو موضح في برنامج تطوير القطاع المالي، نؤمن أن تأسيس هيئة مخصصة للثقافة المالية سيساعد الحكومة في إدارة الثقافة المالية الكلية إلى جانب تتبع التقدم في المبادرات المتعددة.
3- زيادة البيانات المنشورة حول الادخار الأسري من أجل تطوير الاستراتيجيات المناسبة.
تعيين هيئة لمراقبة نسبة الادخار الأسري في المملكة. يمكن أن تعين المملكة العربية السعودية هيئة موجودة مسبقاً للعمل إلى جانب الهيئة العامة للإحصاء والهيئتين المحدثتين للإشراف على التجارب السلوكية وحركة الثقافة المالية. يمكن لهذه الهيئة قياس تأثير المبادرتين الأخريين (التجارب السلوكية والثقافة المالية) على قرارات الادخار لدى الناس ونشره. أضف إلى ذلك أنه إذا تقلصت الفجوة بين استقصاءين متتاليين، فسيتمكن راسمو السياسات من ابتكار استراتيجيات ملموسة من أجل تعزيز ثقافة الادخار في المملكة.