أسهمت الدراسات الإنسانية بمختلف فروعها في تعزيز إنتاجية الأفراد من خلال تزويدهم بمجموعة من الأدوات ساعدتهم في إدارة وقتهم وجُهدهم، على غرار تقنية بومودورو لإدارة الوقت ومصفوفة إنجاز المهام، ويهدف هذا الحقل من العلوم الإنسانية إلى تحسين حياة الأفراد وجعلهم ينجزون أكثر في أمد أقصر وبتوتر أقل.
ومع تسارع ثورة تكنولوجيا المعلومات، سُخرت العديد من التطبيقات والبرمجيات الإلكترونية لرفع كفاءة الأفراد أكثر وتوجيههم مباشرة لتحقيق الأهداف المسطرة، وبدأت هذه الوسائل التكنولوجية بالكمبيوتر وما زالت تتطور في عصر تكنولوجيا الجيل الخامس وإنترنت الأشياء.
بمقدار ما حسّنت هذه الثورة التكنولوجية القدرة على الإنجاز وسهّلت المعاملات وأداء مختلف المهمات، أسهمت من جهة أخرى في خلق حالة من التشتت لدى الكثير من خلال إدمان منصات التواصل الاجتماعي، وربط مستخدميها بدوائر لا متناهية من الأحداث يُجبر خلالها العقل اللاواعي على اللهث خلفها من دون إدراك، فظهرت مصطلحات جديدة تصف هذه الأوضاع غير المألوفة عند أسلافنا، مثل "الخوف من أن يفوتنا شيء ما (FOMO)"، وهو مصطلح يصف حالة القلق والإثارة التي يشعر بها الشخص حول حدث حاصل في مكان آخر ولا يمكنه الوصول إليه ولديه الرغبة في الاطلاع عليه، ومصطلح "الخوف من فقدان الهاتف المحمول (Nomophobia. NOMO)" الذي يصف الرهاب المرضي الذي يصيب المراهقين على نحو خاص، إذ تصيبهم حالة من القلق والفزع والتوتر عندما لا يكون هاتفهم الذكي معهم، ومصطلح "الخوف من فقدان الاتصال بالإنترنت (FOBO)" الذي يصف موجات الهلع التي تنتاب البعض جراء القلق من انقطاع اتصالهم بالعالم الخارجي عبر شبكة الإنترنت.
اتسعت ظاهرة الإدمان الإلكتروني أو التعلق الإلكتروني كما يحلو للبعض تسميته، لتصبح ظاهرة عالمية إذ أطلق عليها الكاتب فرانسيس بووث "التشتت الرقمي" في كتابه الذي يحمل عنوان "مصيدة التشتت".
إن معضلة التشتت الرقمي تتجاوز الساعات المهدرة إلى فرض حالة إجبارية تنغص الاسترخاء وتقتلع جذور الصفاء الذهني، إذ ومع هذا التشتت المستمر، يستحيل الوصول إلى حالة "اليقظة الذهنية" أو الخلوة مع الذات، ويصعب تنفيذ أيّ مراجعة ذاتية قد تسهم في تعزيز نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف لدى الفرد، إضافة لتضييع الوقت الذي سينعكس دون شك سلباً على انجازاتنا المأمولة.
تقول مؤلفة كتاب "لا تفعل شيئاً" (Do Nothing) سيليست هيدلي: "عندما يسقط المرء على الأريكة متعباً بعد يوم عمل طويل ويبدأ في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، فلا ينبغي أن يظن حينها أنه يسدي معروفاً لدماغه المتعب"، فالكاتبة تؤكد على وجود فرق بين الاسترخاء الذي يتبع العمل، وتبديل عمل بعمل آخر، إذ يعدّ تصفح منصات التواصل الاجتماعي بمثابة نشاط ذهني موازي لنشاط ذلك العمل الشاق، و بطبيعة الحال يبعد الدماغ عن حالة الراحة و التأمل و استجماع القوة.
في مقال لمؤلف كتاب "كيف تكون أكثر إنتاجية في عالم مشتت" كريس بيلي، أكدّ أن "الشخص العادي يتشتت أو يُقاطع مرة كل 40 ثانية عند العمل على جهاز الكمبيوتر". بمعنى أننا لا يمكننا العمل لمدة دقيقة واحدة من دون أن نصرف انتباهنا إلى شيء آخر. بالتأكيد، قد يكون من السهل أحياناً العودة إلى المسار الصحيح، لكن عندما ينحرف انتباهنا عن مساره تماماً، فإن الأمر قد يستغرق أكثر من 20 دقيقة لإعادة التركيز.
توجد مجموعة من الحلول اقترحها المختصون للتغلب على التشتت الرقمي، على غرار ما اقترحه عالم النفس لاري روزين، والخبيرة بشؤون التكنولوجيا أليكساندرا صامويل، في مقالهما "التغلب على تشتت الانتباه بسبب الأجهزة الرقمية"، وفيه يقترحان إن تخصيص فترات لا يكون الإنسان متصلاً بشبكة الإنترنت كفيلاً بخلق مساحة للدماغ، قد تكون منطلقاً للتخفيف من حمى الإشعارات و كفيلة بخلق بعض التوازن لحياتنا، كما يقترحان أن نبتعد عن سيل المعلومات وأن نركز على المزيد من الأنشطة التي تمدنا بالطاقة، حيث إن الطريقة الفضلى لمحاربة التشتت الرقمي الناجم عن الأجهزة الرقمية هي استعمال الأدوات الرقمية بطريقة استراتيجية. استعملوا الأتمتة، وفلاتر الرسائل الإلكترونية، وتطبيقات قراءة الأخبار، وأدوات التحديد المسبق لمواعيد نشر المنشورات وغير ذلك من الأدوات التي تبسط عملية تقرير الأشياء التي تحتاج إلى انتباهكم.