لماذا يُعد التدريب على نقاط القوة وإغفال نقاط الضعف خطأ فادحاً؟

5 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

انتشرت في العقد الماضي فكرة مفادها أن ممارسات تغيير السلوك تكون في غاية الفعالية حين ينحصر تركيزها في دعم مواطن القوة الفطرية لدى المرء، لا معالجة مواطن ضعفه. وتنطبق هذه الفكرة على برامج تطوير القدرات القيادية وتطوير مهارات العاملين، إذ بات عرفاً أن تحظى مواطن القوة بتقدير خبراء الموارد البشرية وإدارة المواهب واهتمامهم،

وتُسفر عمليات البحث على جوجل عن فكرة “التدريب بناءً على مواطن القوة” عن أكثر من 45 مليون نتيجة. تقدم النتائج الأولى غالباً خدمات ذات صلة؛ ولا تشكك أي نتيجة أخرى تقريباً في الفكرة. ويباع على أمازون وحدها ما يقرب من 8,000 كتاب في هذا الموضوع منها عدة كتب سجلت أعلى المبيعات نشرتها شركة غالوب التي صممت أداة لتقييم مواطن القوة تسمى سترينغثز فايندر (StrengthsFinder)، يستخدمها اليوم 1.6 مليون موظف كل عام، وتستعين بها 467 شركة مدرجة ضمن قائمة فورتشن 500 . لم تعد كلمة “مواطن الضعف” مقبولة في رأي التيار السائد داخل أروقة الموارد البشرية، إذ يمتاز الموظفون في هذا المجال بتعدد “مكامن القوة” وامتلاك “فرص النجاح” أو القدرة على “مواجهة التحديات”، ولكنهم لا يذكرون شيئاً عن مواطن الضعف. بل تعتزم بعض الشركات شطب التقييمات السلبية.

ليس لدينا ما يدفعنا إلى توقع تراجع حالة الانبهار بمواطن القوة في المستقبل القريب، إلا أن المؤسسات والأفراد على حدٍّ سواء سيصبحون أفضل حالاً لو تراجعت بالفعل. لدينا 5 أسباب على الأقل للتشكيك في منهج تطوير القدرات القيادية الذي لا يركز إلا على مواطن القوة:

1. لا دليل علمي على جدوى هذا المنهج

على الرغم من القناعة الشائعة بفعاليته فهو لا يستند إلى أساس علمي. لم أعثر على دراسات علمية (أعني أبحاثاً منشورةً في مجلات مراجعة الأقران) تدعم الفكرة التي تقول إنّ ممارسات التطوير المهني تزداد فعاليتها إذا تجاهلت عيوب الفرد أو لم تقدم له تقييمات سلبية؛

لا شك في أن غياب الدليل لا ينفي صحة الفكرة، ولكنّ الفرضيات الأساسية لهذا المنهج القائم على تعزيز نقاط القوة لا تتفق مع نتائج الأبحاث الأكاديمية الراسخة. فعلى سبيل المثال، تظهِر أدلة تحليلات ميتا التجميعية أنّ التقييمات السلبية وضعف التقدير الذاتي للقدرات الشخصية يؤديان إلى تحسين الأداء. بالإضافة إلى ذلك، يستمر القادة ذوو الأداء العالي بتحسين أنفسهم من خلال تطوير مواطن قوة جديدة وعدم الاكتفاء بتعزيز القديم منها.

ثُمّ إنّه على الرغم من أنّ رواد حركة التطوير القائم على تعزيز مواطن القوة زعموا أنّ الفشل هو المصير المحتوم لبرامج التطوير والتدريب التقليدية التي لا تركز على تعزيز مواطن القوة، فتحليلات ميتا التجميعية العلمية تثبت أنها فعّالة جداً. تؤدي إجراءات التدخل النفسي أو تقديم التقييمات أو برامج تدريب المسؤولين التنفيذيين المعتادة إلى تحسين نتائج العمل، مثل الأداء الوظيفي، بما يعادل نصف الانحراف المعياري. وهذا يعني أنّ 70% من أفراد المجموعة الضابطة التي لم تتلق تقييمات أو تدريبات على الإطلاق كان أداؤهم أدنى من أداء المجموعة التجريبية. ما الفرق بين هذه النتائج ونتائج التدخل القائم على تعزيز مواطن القوة؟ ببساطة، لا نعلم. فلم نعثر حتى اليوم على دراسات محكّمة مستقلة تقدم دليلاً على صحة هذا المنهج (إن كنت تعرف دراسة من هذا القبيل فاذكرها لنا في قسم التعليقات).

2. يعطيك هذا المنهج إحساساً زائفاً بالكفاءة

تساعد المناهج القائمة على تعزيز مواطن القوة الأفراد على التعرف على نقاط القوة لديهم (مثل المهارات الأساسية، أو المواهب، أو المهارات الخاصة بالمهنة). وهذا هدف نبيل؛ فالموظفون غالباً يجهلون حقيقة قدراتهم الشخصية، ومن ثَم يعجزون عن تقييم أدائهم الخاص، لكن تلك المناهج تسعى إلى تقييمها من خلال مقارنة بعض مواطن القوة بالبعض الآخر لدى الشخص نفسه، بدلاً من مقارنتها بمجموعة معيارية أو بمعيار شامل للموظفين كلهم. وعلى هذا قد تكون أبرز مواطن قوتك استثنائية إما لأنك تملك أكثر بكثير مما يملكه غيرك، وإما لأن مواطن قوتك الأخرى ضعيفة جداً. لنقل مثلا إنني شخص كسول؛ ولكنني أيضاً أناني وغبي وضيق الأفق بدرجة أكبر، فهل يجعل هذا مني شخصاً مجتهداً؟

ينبغي أن تراعي أي محاولة جادة لقياس الموهبة “الوضع الحالي للفرد” وفقاً للأبعاد الرئيسية للموهبة، وهذا لا يتحقق في التقييم اللامعياري، لذلك فهو غير دقيق بل غير أخلاقي أيضاً؛ فهو لا يختلف عن قولك بأنّ الجميع بارعون، كل علي طريقته الخاصة. وكذلك فهو ينقل رسالة مضلِّلة بالكفاءة حتى لمن يفتقرون إليها، ولما كان معظم الناس يبالغون في تصوراتهم عن ذواتهم (لا سيما القادة، إذ يميلون إلى النرجسية أكثر من غيرهم)، فالتقييم القائم على مواطن القوة لا يدعم إلا الصورة الذاتية المضللة غالباً. إضافة إلى ذلك، لا بد من أن يتحقق التقييم الجادّ للكفاءة من قدرات الشخص في بيئة عمله. بعبارة أخرى، يُنظر إلى السمات الشخصية على أنها مواطن قوة في حال اتساقها مع دور الفرد أو مهام وظيفته داخل المؤسسة ومع أهداف المؤسسة أو إطار الكفاءات أيضاً، ولكنّ المناهج القائمة على تعزيز مواطن القوة وحدها تركز أكثر مما يجب على سمات الفرد خارج نطاق بيئة العمل.

3. يبدد الموارد على الموظفين ذوي الأداء الضعيف

تزعم المناهج القائمة على تعزيز مواطن القوة أنّ كل الموظفين يتمتعون بمواهب خاصة، ومن ثَمّ فكل منهم يستحق فرصة لتطوير قدراته. فشركة غالوب مثلاً، وهي شركة رائدةفي سوق التدريب على مواطن القوة، تشير في موقعها الإلكتروني إلى أنّ “لدى كل الموظفين مواطن قوة تساعدهم على إتقان أعمالهم اليومية تضم مزيجاً فريداً من المواهب والمعرفة والمهارات والخبرة، وتوفر لهم وللشركات أعظم الفرص للنجاح”. يسهل استيعاب الانجذاب الشائع لفكرة التطوير المهني القائم على مواطن القوة لاسيّما بين المروجين لممارساته (فهي توسع قاعدة عملائهم المحتملين).

ومع ذلك لمّا كان الموظفون أصحاب الأداء المتميز أهم بكثير من غيرهم؛ فستحقق الشركة أعلى عائد للاستثمار من برامجها التدريبية إذا ركزت موارد التطوير المهني عليهم وعلى الموظفين أصحاب الإمكانات العالية؛ فهم الذين يسهمون أو لديهم الاستعداد للإسهام في تحقيق أعلى العائدات للشركة. ومعنى هذا أن تركز الشركة على 20% فقط من الموظفين، فهم الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تحقيق 80% من الإيرادات أو الأرباح أو الإنتاجية (حسب تأثير باريتو الشهير)، وليس على كل العاملين في المؤسسة كما يدعي دائماً رواد الحركة القائمة على تعزيز مواطن القوة وحدها.

4. أضرار الإفراط في استخدام مواطن القوة

بصرف النظر عن فكرة توسط الأداء، فخير الأمور أوسطها. والنموذج العلمي لهذا المفهوم يعرف بتأثير “الإفراط في المفيد”، وهو يشير إلى أنه حتى الميزات تصبح ضارة إذا ما أسرفنا في استعمالها أو بالغنا في إظهارها. ومثال ذلك، يتحول الحرص المفرط على إتقان العمل والاعتناء بالتفاصيل إلى الهوس وطلب الكمال المدمِّرين؛ وتتحول الثقة المفرطة إلى ثقةٍ عمياء وغرور؛ ويتحول الطموح إلى جشع، والخيال إلى غرابة الأطوار.

تُشير الأبحاث عموماً إلى قلة وعي القادة بحقيقة سلوكاتهم الضارة، وإلى توافر عدد كبير من القادة الأكفاء الذين يتمتعون بمواطن قوة ظاهرة وتراجع أداؤهم بسبب عجزهم عن التخفيف من ميولهم المدمرة. على سبيل المثال، وفقاً لبعض التقديرات تشارك نسبة 40% من الشركات المدرجة في قائمة فورتشن 100 في أنشطة غير لائقة أو مناوئة للمجتمع أو غير أخلاقية، وكانت هذه الأنشطة من السوء بما يكفي لبثها في وسائل الإعلام. ولا يمكن لأحد أن يدّعي أنّ أشخاصاً من أمثال برنارد مادوف أو سيب بلاتر أو دونالد ترامب أو كريستينا كيرشنر تنقصهم مواطن القوة؛ ولكنّهم وقعوا في مشكلات كبيرة بسبب نقاط ضعفهم المتمثلة في مواطن القوة التي أفرطوا في استخدامها.

5. لا يعالج هذا المنهج المشكلات الحقيقية في أماكن العمل

يفيض منهج الاقتصار على تعزيز مواطن القوة بتفاؤل غير مبرر، مثله مثل معظم أدبيات تطوير القدرات القيادية التي استولت عليها صناعة مساعدة الذات، لكن الواقع لا يدعو إلى التفاؤل كثيراً. فكما أوجز الأستاذ بجامعة ستانفورد، جيفري فيفر، في كتابه الجديد: “إنّ أغلب أماكن العمل في الولايات المتحدة الأميركية والعالم (ثمة بعض الاستثناءات لبعض الأماكن المدرجة في قوائم أفضل أماكن العمل) مكتظة بالموظفين الساخطين والمنفصلين ذهنياً عن العمل الذين لا يثقون في قادتهم. والقادة أنفسهم على جميع المستويات يفقدون وظائفهم سريعاً؛ وأما صناعة القدرات القيادية فقد أخفقت، ويستمر فشلها في صناعة القادة المؤثرين الناجحين، بل أخفقت أيضاً في صناعة ما يكفي من المواهب لشغل المناصب القيادية الشاغرة”. ومن ثَم، يبدو تجاهل حدود قدراتنا وأوجه القصور لدينا أمراً غريباً وغير مسؤول فكرياً، وكما ذكر فولتير في روايته القصيرة “كانديد” (Candide)، إننا لا نكسب شيئاً من “الإصرار على أن الأمور كلها على خير ما يرام وهي على النقيض من ذلك تماماً”.

لن يعالج التفكير بالتمني وحده المشكلات الجسيمة التي نتعرض لها في مجال القيادة، وستفيدنا ممارسات تعزيز مواطن القوة إذا كانت تهدف إلى مساعدة الموظفين على “تحقيق ذواتهم” أو تعزيز جوانب معينة من رفاهتهم، أما إذا كنا نهدف إلى تعزيز الكفاءة والإنتاجية والفعالية لدى الموظفين فعلى المدراء وصناع القرار العمل على تخفيف مواطن الضعف لا تعزيز مواطن القوة وحسب.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .