تقرير خاص

احتراف سعودي في خدمة الملايين: قصة نجاح تتكرر سنوياً

5 دقيقة

ملخص: اعتمدت السعودية نموذجاً إدارياً متكاملاً لإدارة الحشود في موسم الحج والعمرة، يجمع بين البنية التحتية الذكية، والتحول الرقمي، والاستثمار في رأس المال البشري، بما يضمن تجربة آمنة ومنسقة لضيوف الرحمن ويحقق مستهدفات رؤية 2030. يعكس هذا النموذج قدرة المملكة على دمج التكنولوجيا والخبرة البشرية لتحقيق الكفاءة التشغيلية والسلامة.

  • البنية التحتية الذكية: تم تطوير مكة والمدينة بأنظمة ذكية لرصد حركة الحشود باستخدام الذكاء الاصطناعي والكاميرات المتصلة بمراكز تحكم مركزية، مع تنظيم مسارات الزوار لضمان الانسيابية وتقليل المخاطر.
  • التحول الرقمي وتجربة الزوار: تطبيق "نسك" يتيح الحجز المسبق، إدارة التنقلات، إصدار التأشيرات، وتوفير المعلومات بالإرشادات المتعددة اللغات، مما حسّن تجربة ملايين الزوار وزاد رضاهم بشكل ملحوظ.
  • إدارة العمليات ورأس المال البشري: استثمرت المملكة في تدريب فرق متخصصة لإدارة الحشود والاستجابة للطوارئ، مع تمكين المشرفين من تعديل العمليات لحظياً باستخدام أنظمة متصلة، ما عزز الكفاءة والسلامة ورفع جودة الخدمات.

تستقبل المملكة العربية السعودية أكبر تجمع بشري سنوياً من 180 جنسية مختلفة لأداء مناسك الحج والعمرة. ومنذ وقت مبكر، أدركت السعودية أن التجمعات البشرية العالية الكثافة قد تتحول إلى تحديات تمس حياة الملايين إذا لم تدر بطريقة منظمة، فلم تقتصر خدمة ضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين على استقبالهم فقط، بل اعتبرتها منظومة وطنية يجب أن تجمع فيها بين التخطيط الاستراتيجي والإدارة الذكية للحشود.

من هذا المنطلق، طورت السعودية نظاماً إدارياً واضحاً يستند إلى القيادة الاستباقية والتخطيط الاستراتيجي. وأدارت استقبال الحشود بوصفها عملية تشغيلية كبرى، مدعومة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتحليل الفوري للبيانات، والتنسيق الدقيق بين الجهات الحكومية والأمنية والصحية للعمل بتناغم تام، بهدف تحليل تحركات الحشود، ووضع خطط طوارئ مرنة تخدمها.

وقد أثبتت هذه المنهجية فاعليتها عملياً، إذ استطاعت السعودية إدارة تنقل 1.8 مليون حاج في عام 2024، ووصلت نسبة رضا الحجاج إلى 91%. وتحت مظلة برنامج خدمة ضيوف الرحمن، وهو أحد برامج تحقيق رؤية 2030، تتطلع السعودية إلى تحقيق هدفها الاستراتيجي الطموح بتطوير البنية التحتية، وتطوير سلسلة الخدمات كافة في نقاط التلاقي جميعها مع الزوار، لتتمتع بطاقة استيعابية قادرة على استقبال أكثر من 30 مليون حاج ومعتمر سنوياً بحلول عام 2030، مع ضمان تقديم تجربة سلسة وآمنة لضيوف الرحمن.

3 ركائز إدارية لتحقيق المستهدفات

من خلال إدارة حشود المعتمرين والحجاج، رسخت السعودية ثقافة إدارية تعتمد على الإتقان والمسؤولية. ولتحقيق مستهدفاتها المتعلقة بزيادة عدد ضيوف الرحمن، لا سيما بعد قرب مرور 10 أعوام إلى إطلاق رؤية 2030، استثمرت في تطوير البنية التحتية الذكية للمشاعر المقدسة، وأنظمة النقل المتكاملة، والخدمات الرقمية الموحدة، بما يتيح إدارة دقيقة للحشود في أوقات الذروة بأعلى درجات الكفاءة والانسيابية.

البنية التحتية الذكية: من إدارة المرافق إلى إدارة التجربة

تحولت مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى نموذجين عالميين في إدارة التجمعات البشرية الفائقة الكثافة؛ لذا اعتمدت السعودية نهجاً قائماً على التكامل بين البنيتين المادية والرقمية، لم تعد التطورات في المسجد الحرام أو المسجد النبوي مجرد توسعات عمرانية، بل أصبحت مكونات ضمن نظام ذكي يرصد الحركة ويتنبأ بالتدفقات البشرية باستخدام الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة. وحرصت من خلال التنظيم المكاني على ضمان حركة ضيوف الرحمن بطريقة منسقة أحادية الاتجاه، بهدف القضاء على مخاطر الحركة العكسية التي شكلت أحد أبرز تحديات إدارة الحشود في الماضي.

وقد مثل قطار الحرمين السريع وقطار المشاعر المقدسة، وممرات النقل الحديثة واللافتات الرقمية والإرشادات الصوتية، جزءاً من استراتيجية أوسع لإدارة الحشود من خلال تعزيز سلسلة القيمة التشغيلية، التي تجمع بين البنية التحتية والموارد البشرية والأنظمة الرقمية في منظومة واحدة متجانسة.

وقد عكست الإدارة الذكية لموسم الحج آلية عمل المنظومة المتقدمة لإدارة الحشود. وأوضحت دراسة بعنوان "إدارة المملكة العربية السعودية لموسم الحج من خلال الذكاء الاصطناعي والاستدامة" أن الأنظمة الذكية لتحليل البيانات، والاستشعار عن بعد، ومراقبة الحشود، والتنبؤ بمناطق الازدحام، وفرت رؤى لحظية من خلال الأقمار الصناعية مكنت الجهات المعنية من اتخاذ قرارات استباقية وسريعة أسهمت في تيسير الحركة وضمان الأمن والسلامة. كما أدت الكاميرات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في رصد الكثافة البشرية. إذ تربط نحو 8.5 آلاف كاميرا بمركز تحكم مركزي يدعم اتخاذ القرارات الفورية. كما أتاحت طريقة إدارة مسارات الحركة تدفق الطائفين والساعين داخل المسجد الحرام بناءً على بيانات لحظية من شبكة متطورة تضم 11 جهاز استشعار موزعاً على 5 مداخل رئيسية، ونحو 1,490 كاميرا ذكية متخصصة في تحليل ديناميكية التجمعات حول البوابات والسلالم والمصاعد والجسور بدقة عالية.

ومن هذا التكامل التقني، امتد التحول الرقمي إلى تجربة المعتمرين والحجاج نفسها، من خلال تطبيق "اعتمرنا" الذي تطور إلى تطبيق "نسك"، ليصبح أداة استراتيجية تعمل ضمن بيئة عملية تعكس النقلة المعرفية في الأداء المؤسسي، وتعزز الكفاءة التشغيلية لإدارة ملايين البشر في الزمان والمكان نفسيهما. وقد أشارت دراسة بعنوان "التنبؤ برضا الحجاج والزوار من خلال استخدام تطبيقات الهواتف الذكية في المشاعر المقدسة خلال جائحة كوفيد-19" إلى أن التطبيقات الرقمية ساعدت على تحسين خدمات الزوار، وتسهيل الإجراءات، وخفض مشاعر التوتر المرتبطة بالتنقل وسط الحشود.

ومكن تطبيق "نسك" مستخدميه من حجز المواعيد المسبقة للدخول إلى الروضة الشريفة والمسجد الحرام، واختيار الأوقات المناسبة لتجنب الازدحام. كما وفر خدمات شاملة، ضمت إصدار التأشيرات الإلكترونية، وحجز الإقامة، وإدارة التنقلات والمواصلات، واستعراض المعلومات الدينية والإرشادية بـ 10 لغات مختلفة، ما جعل تجربة الحجاج والمعتمرين أكثر تنظيماً وسهولة. وأسهم التحليل الذكي للبيانات في توزيع الكثافات البشرية لنحو 13 مليون زائر للروضة الشريفة، كما ارتفعت نسبة الرضا من 57% في عام 2022 إلى 81% في 2024. وعكس هذا الأداء نجاح الاستراتيجية الإدارية في تحويل الحلول الرقمية إلى أدوات قيادة تشغيلية تحقق الانسيابية الميدانية والضبط الأمني.

إدارة العمليات والاستثمار في رأس المال البشري

يمثل الاستثمار في الكفاءات بعداً استراتيجياً للحوكمة التشغيلية، إذ يسهم في بناء فرق قادرة على إدارة الحشود، والاستجابة للطوارئ، وتقديم تجربة ميدانية تواكب تطلعات الحجاج والمعتمرين في أثناء أداء المناسك. وفي هذا السياق، استثمرت السعودية في تطوير رأس المال البشري من خلال برامج تدريبية متقدمة، تستهدف بناء فرق متخصصة لتعزيز قدرتها على مواجهة التحديات التشغيلية الطارئة، واتخاذ القرارات الدقيقة تحت الضغط، وتقديم خدمة ميدانية مرنة. وفي عام 2024، جرى تنفيذ أكثر من 474 ساعة تدريبية متخصصة، شملت مجالات إدارة الحشود، والاستجابة للطوارئ، والتفاعل مع الزوار، واتخاذ القرار في بيئات معقدة، ما أسهم في ترسيخ ثقافة احترافية عالية المستوى.

واليوم، يضم فريق الروضة الشريفة 311 متخصصاً مؤهلاً، بينهم 89 امرأة، يعملون على إدارة العمليات اليومية بدقة، ما يعكس التوازن بين التمكين القيادي والتنوع المؤسسي، ويؤكد الالتزام بالارتقاء المستمر بجودة الخدمات. كما يعتمد المشرفون الميدانيون على أجهزة محمولة متصلة بالنظام المركزي لمتابعة معدلات الحجز على "نسك" وأوقات الانتظار لحظياً، ما يتيح لهم إجراء تعديلات تشغيلية فورية ودقيقة استناداً إلى مستوى الازدحام الفعلي، بما يعزز الاستجابة الذكية في الوقت الحقيقي.

وبالتالي، تجمع هذه المنظومة المتكاملة بين الاستثمار المؤسسي في الكفاءات، والتدريب المتخصص، والتحول الرقمي، والأمن المتقدم، ما يمثل نموذجاً صلباً للحوكمة التشغيلية الحديثة، حيث تتكامل الخبرات البشرية مع التكنولوجيا لزيادة كفاءة العمليات، وتعزيز رضا الزوار، وضمان سلامتهم، وتحقيق التميز المؤسسي المستدام في إدارة الحشود خلال موسم الحج والعمرة.

تلبية التطلعات في قلب المنظومة

حرصت السعودية على تخطي تطلعات ضيوف الرحمن لضمان تمتعهم بتجربة متكاملة، من خلال إدارة ذكية تستند إلى بنية تحتية مصممة لإدارة الحشود والحركة، وفريق عمليات مدرب بوضوح خاصة على بروتوكولات الطوارئ؛ لتوفير تجربة مصممة بعناية تراعي الرفاهة والتنوع والراحة في كل مرحلة من مراحل أداء المناسك.

وقد شكل تطوير جسر الجمرات نموذجاً عالمياً في كيفية إدارة الحشود في أكثر البيئات كثافة، بطريقة تخدم الملايين من ضيوف الرحمن الوافدين لرمي الجمرات في فترة زمنية ضيقة. لذا، يعد من أكثر الأماكن حساسية من حيث المخاطر الأمنية خلال موسم الحج.

كان الجسر طابقاً واحداً ما فاقم تحديات الازدحام وضعف الرؤية وتدفقات الحركة العكسية، إذ اعتاد العديد من الحجاج العودة إلى مخيماتهم بعد أداء هذه الشعيرة في مواجهة موجات من الحجاج المتجهين إلى الجمرات لتأديتها، ما رفع احتمالية حدوث تصادم مباشر.

لحل هذا التحدي، شرعت الحكومة السعودية في إعادة البنية التحتية للجسر بالكامل من خلال مشروع تطوير واسع يجمع بين التوسعة الهندسية، والدراسات التشغيلية، واستخدام أدوات المحاكاة المتقدمة لإدارة الحشود. نتيجة لذلك، أصبح الجسر مكوناً من 8 طوابق مترابطة بـ 16 مدخلاً ومخرجاً لمناطق المساكن في منى، مسارات أحادية الاتجاه تقضي على مخاطر التصادم والتداخل. ومع إدماج أنظمة التكييف والتهوية الحديثة.

وقد أسهمت هذه الجهود في جعل الجسر أكثر أماناً، وتحول من نقطة اختناق محتملة إلى ممر آمن وانسيابي لملايين الحجاج.

ختاماً، تبرهن إدارة الحشود والتجربة الميدانية للحجاج والمعتمرين على الفلسفة الإدارية بالتكامل مع 60 جهة حكومية تعمل في جميع نقاط الالتقاء مع الحاج والمعتمر، والمبنية على قوة البنية التحتية الذكية، وتطوير الكوادر البشرية، وأهمية التحول الرقمي، والتحكم الاستباقي القائم على التنبؤ والتحليل، لتشكل قصة نجاح تتكرر سنوياً، وتثبت أن الاحتراف السعودي في خدمة الملايين يشكل نهجاً مؤسسياً راسخاً قادراً على الاستدامة والتطوير المستمر، بما يلبي تطلعات الحشود ويضمن سلامتها.

 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي