لم تكن الحاجة إلى معالجة آثار التغير المناخي أكثر جلاءً من أي وقتٍ مضى. وفي الوقت الذي تسعى فيه الدول الموقعة على اتفاقية باريس للمناخ إلى حشد جهودها للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري وخفض الانبعاثات الكربونية على مستوى القطاعات، فإن الطاقة الكهربائية المتجددة لن تكون كافية وحدها. وعلى هذا النحو، ينبغي التركيز على توظيف مجموعة متنوعة من التقنيات لتلعب دوراً مهماً في تحقيق هذه الأهداف والتطلعات الطموحة، مثل تقنيات الهيدروجين منخفض الكربون، والطاقة الحيوية، واحتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه (CCUS).
وفي الحقيقة يمكن أن تستفيد الانبعاثات الكربونية في القطاعات التي يصعب تخفيف انبعاثاتها مثل النفط والغاز، أو الصلب، أو الألومنيوم، أو إنتاج الأسمنت، من تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه. وبحلول عام 2050، يجب إزالة ما يصل إلى 10 مليارات طن من ثاني أوكسيد الكربون من الغلاف الجوي سنوياً، وفقاً للتقديرات المتوسطة للعديد من سيناريوهات المسار نحو المحافظة على درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية والتي تأخذها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بعين الاعتبار.
ومع إمكانات تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، إلا أن التأخر في اعتمادها خفّض التوقعات، إذ إن هذه التقنية موجودة منذ عقود، إلا أنه لم تتمكن بعض الدول من إحراز تقدمٍ ملحوظ في تنفيذها وتطويرها إلا في السنوات العشر الماضية. ومع ذلك، وعلى الرغم من التطورات التي تحققت، فإنه لا يوجد حتى الآن إطار تقني واضح ومقبول دولياً لاعتماد تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه على نطاق واسع. ويمكن أن يُعزى ذلك إلى عوامل مختلفة، بما في ذلك التكاليف المرتفعة المرتبطة بتنفيذ هذه التقنية، وعدم وجود سياسات وحوافز حكومية شاملة، بالإضافة إلى الحاجة إلى مزيد من البحث والتطوير لتحسين مستوى الكفاءة وخفض التكاليف.
ويوجد حالياً حوالي 300 مشروع في مراحل إنجاز مختلفة عبر سلسلة القيمة الخاصة بتقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه. ومن بين هذه المشاريع، ثمة 35 مشروعاً فقط في مرحلة العمليات التجارية، وتحتجز مجتمعةً 45 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون. ويمثل هذا نحو 0.12% من إجمالي انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون العالمية خلال العام 2022، الذي وصلت فيه الانبعاثات العالمية لثاني أوكسيد الكربون الناجمة عن قطاع الطاقة إلى مستوى قياسي جديد يزيد عن 36.8 غيغا طن.
ومع وجود العديد من المشاريع قيد التطوير، فإن قدرة هذه التقنية الناشئة على تخفيف آثار التغير المناخي على المسار الصحيح لاحتجاز نحو 300 مليون طن متري سنوياً من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بحلول عام 2035، أي ما يمثل نحو 10 أضعاف السعة التشغيلية الحالية لتقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، لكنها تظل أقل بكثير من الهدف الذي حددته الوكالة الدولية للطاقة والمقدر بـ 4,000 مليون طن متري سنوياً من ثاني أوكسيد الكربون، والمطلوب بحلول عام 2035 لتحقيق أهداف مسار الـ 1.5 درجة مئوية.
خارطة الطريق لدفع عجلة الابتكار في تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه
وضعت دولة قطر هدفاً وطنياً طموحاً للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 25% بحلول عام 2030. وأصبح هذا الهدف أحد الأولويات الرئيسة لرؤية قطر الوطنية 2030، التي تركز على تسريع أهداف التنمية المستدامة والانتقال إلى اقتصاد متنوع قائم على المعرفة. وتؤكد دولة قطر من خلال هذه الأهداف الطموحة التزامها بمعالجة التغير المناخي والحد من تأثيره في البيئة.
وتتمتع دولة قطر، بصفتها مساهماً رئيساً في سوق الطاقة العالمية، بفرصة فريدة لريادة مشاريع تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه. وخطت الدولة الخليجية خطوات كبيرة في هذا المجال. وفي الآونة الأخيرة، تعاونت الشركات المحلية الرائدة في قطاع الطاقة مع شركات عالمية عملاقة لوضع خارطة طريق لتقنية احتجاز الكربون. بالإضافة إلى ذلك، استضافت قطر أول ملتقى لالتقاط الكربون وتخزينه واستخداماته في منطقة الشرق الأوسط، ما يسلّط الضوء على مدى تركيز الدولة على الاستفادة من هذه التقنية. وفي إطار جهودها للسيطرة على انبعاثات الكربون ودعم مبادرات خفض الانبعاثات الكربون، تستثمر قطر بشكل مكثّف في المرافق الخاصة بتقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه. وتخطط الدولة لتخزين أكثر من 11 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً بحلول عام 2035. ومع هذه السعة الضخمة، من المتوقع أن تلعب هذه المرافق دوراً مهماً في جهود إزالة الكربون في البلاد. ووفقاً لتقرير محلي رئيسي للاستدامة في عام 2022، تراكم في البلاد نحو 3.8 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون منذ عام 2019، وحتى نهاية عام 2021، بلغت السعة الإنتاجية نحو 2.2 مليون طن متري سنوياً.
ومن شأن وضع خارطة طريق شاملة لاحتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، ستتمكن دولة قطر من خفض الانبعاثات الكربونية، وتفعيل مساهمتها في مجال التعاون الإقليمي والدولي الهادف إلى تطوير تقنيات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه. وينبغي أن تتضمن خارطة الطريق هذه التركيز على مجالات البحث والتطوير، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، ودمج تقنيات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه في القطاعات الحالية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لقطر تسخير مكانتها الريادية عالمياً في مجال إنتاج الغاز الطبيعي لتشجيع اعتماد الهيدروجين الأزرق، والحد من الانبعاثات الكربونية بشكل أكبر، وتعزيز تبني بدائل الطاقة النظيفة.
يُعد تطوير تقنيات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه وتوسيع نطاق انتشارها أمراً بالغ الأهمية لتحقيق أهداف اتفاقية باريس. وتتمتع دولة قطر بالقدرة على ترسيخ ريادتها في هذا المجال، ولكن ذلك يتطلب التزاماً من جانب صنّاع السياسات والمعنيين في مختلف القطاعات. وستتمكن قطر من خلال وضع خارطة طريق شاملة لتوسيع نطاق انتشار هذه التقنية الواعدة إلى جانب تعزيز التعاون الإقليمي والعالمي أن تخطو خطوات كبيرة نحو مستقبل أكثر استدامة.
ولتوسيع نطاق مشاريع تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، يحتاج صنّاع السياسات والشركات في قطر إلى التعاون مع الشركاء على مستوى العالم لتسريع وتيرة العمل في أربع مجالات رئيسية:
- إنشاء سوق جذابة: يجب على صنّاع السياسات دعم نهج متقدم ومبسط فيما يتعلق بالمتطلبات التنظيمية ومنح الترخيص. وفي الوقت نفسه، ينبغي على الشركات وجميع الجهات الأخرى عبر سلسلة القيمة تفعيل جهودها للتعاون في المجالات التي تتوفر فيها اللوائح التنظيمية المطلوبة والحوافز. وعلى الصعيد العالمي، يمكن للحكومات تسريع وتيرة انتشار تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه بتقديم الحوافز الضريبية، والمنح، وغيرها من تدابير الدعم المالي، فضلاً عن تبسيط عمليات منح التصاريح من خلال توفير لوائح تنظيمية واضحة.
- تعزيز قيمة وتحفيز الطلب العالمي على المنتجات والخدمات منخفضة الكربون: يُعد التعاون العالمي والعمل الحكومي ضروريان لخلق بيئات مستقرة للاستثمارات في تقنيات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، والتي يتم تحقيقها بوضع لوائح تنظيمية واضحة ومتطورة. يُظهر بحثنا أنه يمكن زيادة قيمة المنتجات والخدمات منخفضة الكربون، بالتركيز العالمي على كثافة الكربون في المنتج، وسيكون بمثابة محفز وعامل تمكين رئيس في جهود الإزالة العميقة للكربون عبر سلاسل التوريد الكاملة للقطاعات.
- التعاون لتسريع وتيرة الإنجاز: مع توسع المراكز الخاصة بتقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه والمنظومات المشتركة على مستوى العالم، سيكون تعزيز الشراكات والتحالفات وتنفيذ مشاريع مشتركة على نحو سريع من الأمور المهمة لتحقيق النجاح على المدى البعيد. ويساعد التعاون بين الحكومات والمستثمرين والجهات الفاعلة على مستوى القطاعات على تقاسم المخاطر، وتجميع الموارد، وخلق وفورات الحجم، ما يؤدي في النهاية إلى تسريع تطوير تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه وتوسيع نطاق انتشارها.
- التركيز على تعزيز الابتكار التقني: مع توسع نطاق انتشار تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، سيكون من المهم للغاية ملاحظة انخفاض تكلفة التقنيات المستخدمة لفصل ثاني أوكسيد الكربون عن غازات الاحتباس الحراري الأخرى. ويجب التركيز بشكل أكبر على الطاقة التي تستهلكها تقنيات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، وتحديداً عند تطبيقها على تيارات غاز المداخن في الغلاف الجوي، ومن المحتمل أن يتطلب ذلك تقنيات مبتكرة وجديدة. وسيلعب البحث والتطوير دوراً حاسماً في تحديد الجيل القادم من هذه التقنيات المطلوبة.
وفي الوقت الذي يحشد فيه العالم جهوده للتصدي للتغير المناخي، من الضروري أن تستمر دول مثل قطر في تعزيز ريادتها في مجال تنفيذ الحلول المبتكرة مثل حلول تقنية احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه. وعلاوة على ذلك، تحتاج البلدان إلى التعاون في جهود البحث والتطوير، وتبادل المعرفة وأفضل الممارسات، لتسريع التقدم في هذا المجال. وفي نهاية المطاف، سيتطلب الاعتماد الواسع النطاق لهذه تقنية جهداً عالمياً بين البلدان في جميع أنحاء العالم وتعاونها معاً للحد من انبعاثات الكربون، ومكافحة التغير المناخي. ويمكن لدولة قطر بتبني نهج استباقي وتعزيز روح التعاون تمهيد الطريق لمستقبل أنظف وأكثر اخضراراً واستدامة للأجيال القادمة.