مضى 50 عاماً منذ أحداث مايو/أيار 1968، عندما مرّت فرنسا بفترة اضطرابات أهلية، ومضى عام واحد منذ انتخاب مرشح التيار الوسط الإصلاحي إيمانويل ماكرون كرئيس للبلاد. وقد تميزت ذكرى هاتين المناسبتين في البلاد بعدد من الإضرابات والتجمعات والاعتصامات التي أتت كردّ فعل على أجندة ماكرون الاقتصادية، حيث تظاهر الطلاب والموظفون والمتقاعدون واستهدفوا محطات القطارات والخطوط الجوية ودور العجزة والجامعات والمكاتب الحكومية. وأدت هذه التظاهرات إلى خسارة الرئيس التنفيذي للخطوط الجوية الفرنسية وظيفته، إذ استقال بعد رفض العاملين عرضه لزيادة الأجور بنسبة 7% على مدى أربع سنوات (تريد النقابات زيادة فورية بنسبة 6%). ليس هذا الأمر مفاجئاً إطلاقاً نسبة لبلد معروف بنقاباته القوية وتمسكه القوي بالحقوق الاجتماعية.
ولكن هذه المرة، تبدو الأمور مختلفة.
في عام 1995، شلّ إضراب القطارات فرنسا بأكملها، وأرغم الحكومة على التراجع عن التعديل المقترح على قطاع سكك الحديد. ولكنّ الاضطرابات الحالية، برغم حجمها الكبير، لا تضاهي الإضرابات السابقة، ولا يبدو أنّ الحكومة مستعدة للاستجابة لمطالب المتظاهرين. ويطالب منظمو الحركة بتقريب الأهداف بين من يعارضون التعديلات الرامية لفتح أبواب المنافسة في قطاع السكك الحديدية، ومن يعارضون السماح للجامعات العمومية بالتشدد أكثر في فرزهم للمتقدمين، ومن يريدون زيادة في الأجور أو يعارضون تعديلات ماكرون على نظام العمل والضرائب. ولكن حتى الآن ما زالت هذه المناشدات عاجزة عن حشد الجماهير الشعبية أو تعطيل البلاد بصورة ملحوظة.
لم لا؟ بداية، بالرغم من الاستياء الذي تشهده بعض القطاعات، إلا أنّ الاقتصاد الفرنسي ليس سيئاً جداً، فقد بلغت نسبة نموّ الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي 1.9%، ونسبة البطالة تتناقص ببطء، والأموال العامة تتحسن بصورة أسرع من المتوقع. أضف إلى ذلك أنّ التقنيات الحديثة تساعد على تخفيف أثر إضرابات النقل من خلال إتاحة العمل من المنازل أو مشاركة السيارات. وأخيراً، وبحسب الاستفتاءات، يستمرّ المواطنون بدعم جهود الحكومة لتنفيذ الإصلاحات الموعودة منذ زمن. وبعد عام من انتخاب ماكرون، كتبت جريدة لو موند أنه: "صامد في استفتاءات الرأي العام على الرغم من نقاط الضعف". والآن، تتناقص فرص النقابات في تحقيق نصر مع اقتراب دخول فصل الصيف ومضي عدة أيام على الإضرابات. (بالطبع، أثبت الرفض المفاجئ لاتفاق الخطوط الجوية الفرنسية وجود الأمل دائماً).
والسبب الثاني الذي يقلل احتمالات نجاح التظاهرات في إحباط تعديلات ماكرون هو أنّ نقابات العمل نفسها تتغير أيضاً. في العام 2017، قبل انتخاب ماكرون مباشرة، خسرت الكونفيدرالية العامة للعمل نفوذها التاريخي، حيث تفوّق عليها اتحاد العمل الفرنسي الديمقراطي الوسطي المعتدل في انتخابات ممثلي العمال. وأيضاً، حتى لو اعتُبرت النقابات الفرنسية قوية جداً، إلا أنها ضعيفة تماماً فيما يخصّ العضوية، كحال النقابات في الولايات المتحدة. إذ لا تتجاوز نسبة الموظفين المنتمين إليها في فرنسا 11% (مقارنة بنسبة 10% في الولايات المتحدة و15% في أستراليا و26% في كندا، و67% في السويد)، وستنخفض النسبة أكثر إذا ركزنا على القطاع الخاص فقط.
وما يجعل النقابات الفرنسية مختلفة عن نقابات الولايات المتحدة هو وجود اتفاقية على مستوى القطاعات تشمل جميع العاملين تقريباً، وهي تحدد الأجور الدنيا والحقوق الأساسية الأخرى. وبفضل توسيع نطاق الإتفاقيات الخاصة لتشمل جميع الموظفين والشركات، أصبحت نقابات العمال قادرة على ممارسة سلطة أوسع مما تسمح به نسب عضوياتها الضئيلة. أي أنها على الرغم عدم امتلاكها لعدد أعضاء كبير إلا أنّ الإتفاقات التي تجريها تنطبق على كل موظف في القطاع. ومع ذلك يتزايد استغلال ضآلة عدد أعضاء النقابات في التشكيك بقدرتها على تمثيل فئة كبيرة من الناس أو أي فئة تتجاوز قاعدتهم الضيقة.
يتعاطف الشعب الفرنسي بصورة كبيرة مع النقابات على الرغم من أنّ الإضرابات الأخيرة تبدو غير قادرة على إرغام ماكرون على إجراء تنازلات هامة. وقد صرّح 43% من المواطنين الفرنسيين في العام 2010 عن ثقتهم بنقابات العمل مقارنة بنسبة 25% فقط في الولايات المتحدة، برغم أنّ المدراء في فرنسا يعتبرون جودة علاقات العمل في البلاد منخفضة جداً.
ومن البديهي أنّ ماكرون جعل علاقات العمل محوراً لتعديلاته، فهو يرغب أن يصعّب على النقابات توسيع اتفاقياتها الجماعية خارج نطاق أعضائها. ويقدم تعديله المقترح إمكانية تفاوض الشركات التي لديها أقلّ من 20 موظفاً على اتفاقية جماعية حتى في غياب مفوض نقابي، بشرط أن تنال الاتفاقية تأييد ثلثي الموظفين على الأقلّ. كما يتيح للشركات التي لديها بين 20 إلى 50 موظفاً التفاوض مع ممثل منتخب حتى إن لم تكلفه النقابات صراحة. وما تخشاه النقابات هو أنّ هذه المبادرات ستهدد نفوذهم وستؤدي إلى وقوع انتهاكات من قِبل أصحاب العمل الذين لديهم قدرة أكبر على التفاوض من الموظفين.
يعتقد بعض المراقبين بإمكانية الاستفادة من هذه التعديلات في تطوير وإنعاش نقابات العمل، إذ يمكن أن يمنح التعديل الموظفين حوافز أكبر للانضمام إليها بدلاً من البقاء مستقلّين في الاتفاقيات على مستوى القطاعات. بالإضافة إلى أنّ تقريب المفاوضات من مكان العمل قد يحسن جودة علاقات العمل، حيث ستكون النقابات والموظفين أكثر ميلاً للتفاوض على اتفاقيات ملموسة وعملية بعيداً عن الرمزية السياسية التي تتسم بها المفاوضات على المستوى الوطني عادة. ولكن لا تنظر جميع نقابات العمل في فرنسا إلى التعديلات بهذه الطريقة.
على الرغم من بقاء هذه الإضرابات بالنسبة لمعظم المراقبين الأجانب سمة فرنسية نموذجية (لدرجة تصويرها في عمل فني مثير للجدل معروض في البناء الذي التقى فيه القادة الأوربيون في بروكسل منذ بضعة سنوات)، إلا أنّ أحوال النقابات الفرنسية تتبدل أيضاً على ما يبدو. إذ أنها حتى الآن عاجزة عن تعطيل الأمور بصورة كافية لإرغام ماكرون على التنازل، وسيكون السؤال التالي عما إن كانت لديها القوة الكافية لمنعه عن تغيير طريقة عملها.