في أوائل العقد الأول من الألفية الثانية، وجدت شركة "ليغو" (LEGO) نفسها على حافة الإفلاس في مواجهة المنافسة المتزايدة من قبل ألعاب الفيديو وشبكة الإنترنت. واستمر الصراع الذي تواجهه إلى أن اتخذت خطوة شكلت نقطة انعطاف كبيرة لها، وتفوقت على شركة "ماتيل" (Mattel) لتصبح أكبر شركة مصنعة للألعاب في العالم. كان هذا التحول قائماً أساساً على تغيير جوهري في طريقة تعامل شركة "ليغو" مع زبائنها، فعلى مدى أكثر من 75 عاماً من تاريخها، كانت الشركة تصنع الألعاب لزبائنها بناء على عملية ابتكار مغلقة فقط. ولكنها تعلمت في العقد الماضي أن تعتمد على مجتمع معجبيها.
تمثلت إحدى السمات المميزة للعقد الماضي في تضاؤل تحكم الشركات بتفاعلات الزبائن. وفي حين كان المسوقون هم من يطلقون أغلبية التفاعلات التي قد تحصل بين الشركات وعملائها، أصبح اليوم بإمكان مستخدمي منصة "تويتش" (Twitch) التمتع بحوار سلس مع لاعبين آخرين على الإنترنت. وبإمكان معجبي أواني الطبخ "إنستانت بوت" (Instant Pot) تبادل الأخبار عن تجاربهم الناجحة (والفاشلة) في الطبخ ضمن مجموعات متخصصة على "فيسبوك". كما يمكن لجامعي الأحذية الرياضية ومعجبيها التعليق على أحدث أحذية "نايكي" (Nike) عبر "إنستغرام"، كل ذلك من دون التعامل مباشرة مع الشركات نفسها.
أدى فهم شركة "ليغو" لهذا الأمر إلى نجاحها واستعادة مكانتها في سوق الألعاب. ففي عام 2008، أطلقت منصة "ليغو آيدياز" (LEGO Ideas)، التي تسمح لأنصارها بتقديم أفكار جديدة لألعاب "ليغو"، ويصوت عليها بقية المعجبين، ثم يراجع موظفو الشركة الأفكار التي تحصد أعلى قدر من الأصوات. ثم تحول الفكرة المختارة إلى لعبة جديدة تطرح في الأسواق، ويحصل صاحب الفكرة على نسبة 1% من ريعها. ازداد عدد المشاركين في هذا المجتمع إلى أكثر من مليون مستخدم، وتم تقديم أكثر من 26 ألف فكرة لمنتج جديد، أنتج منها 28 لعبة جديدة، بما فيها مجموعة "نساء ناسا" (Women of NASA) وجهاز بيانو من قطع الليغو يمكن العزف عليه. وبذلك، أدت منصة "ليغو آيدياز" إلى نجاح الشركة التي بلغ عمرها 87 عاماً بالتحول من البناء لأجل الزبائن إلى البناء مع مجتمع متفاعل.
في بحثنا الذي أجريناه على الشركات التي تبني أعمالها على المجتمعات مثل "ليغو"، عرفنا أن المجتمعات الحقيقية ليست مجرد مجموعات من الزبائن، بل هي مجموعات من الأشخاص الذين يجتمعون باستمرار حول ما يهمهم. وهذا ينطبق على شركة "بورش" (Porsche) التي ساعدناها على التحول من التحدث مع جمهورها عبر الإعلانات والتسويق إلى إنشاء مكان مخصص لأهم معجبيها كي يتواصل بعضهم مع بعض مباشرة على التطبيقات وفي النوادي. وتتيح الشركة عبر برنامجها "رودز" (ROADS) لسائقيها الشغوفين التواصل فيما بينهم والتوصية بشوارع معينة والتحدث عن حبهم للقيادة.
على مدى العقد الماضي، طُرحت عدة برامج تقنية ضرورية لبناء المجتمعات، وفي العقد القادم، سيصبح التعاون مع الزبائن أسهل وسيتمتع بأهمية حيوية أكثر. ومن أجل الاستجابة لهذا التحول واحتضانه، نقترح عليك التفكير بثلاثة دروس أساسية، ألا وهي:
الدرس الأول: اعتزم منح زبائنك الثقة.
فكر ببناء المجتمع على أنه مجموعة خطوات تدريجية لمبادرات التعاون الكبيرة والصغيرة التي تتطلب ثقة الشركة أو القائد. خذ مثلاً قرار مؤسسة "تيد" (TED) للاستثمار في مؤتمرات "تيد إكس" (TEDx). كانت مؤسسة "تيد" قد أسست كمؤسسة مؤتمرات تتيح مشاركة المدعوين فقط عام 1984. وفي عام 2009، اتخذت قراراً جريئاً بطرح "تيد إكس" وتشجيع المتطوعين على تنظيم مؤتمرات بأسلوب تيد في مدنهم بصورة مستقلة. وبذلك، سمحت لأعداد الحضور الهائلة بالمشاركة، بمن فيهم من لم يكن بإمكانهم تحمل رسوم مؤتمرات "تيد" المركزية الموجهة للنخبة (التي بلغت 10 آلاف دولار في عروض عام 2018).
وقبل إطلاق "تيد إكس"، كانت مؤسسة "تيد" تنظم العملية بأكملها، ولكن أدرك القادة أنهم إذا استمروا بتقديم فعاليات خاصة موجهة لجمهور معين فقط، فإن أثرها سيصبح مستقراً في نهاية المطاف، ومن خلال منح المجتمع الخارجي الثقة والقوة، تمكنوا من نشر الأفكار على نطاق ملفت للنظر. فعقدت أكثر من 30 ألف فعالية "لتيد إكس" في العقد الأخير بمشاركة فريق دعم من المقر الرئيسي لا يتجاوز عدد أفراده 20 شخصاً.
وفي حوارنا مع جاي هيراتي، المدير التنفيذي في "تيد إكس"، سألناه عن سبب وجود "تيد إكس" وازدهارها على الرغم من فشل كثير من شركات الإعلام الأخرى في بناء مجتمع مع جمهورها. فقال لنا: "أساساً، يثق كريس أندرسون (رئيس مؤسسة تيد) في الناس كثيراً. وهو يعتبر الأمر متعلق بالعثور على الأشخاص الأكثر شغفاً بشأن مؤسسة (تيد)، الذين يحبون ما نقوم به بحق ويؤمنون بنشر الأفكار. وبذلك، ستولي الثقة للأشخاص الذين يدعمونك أكثر، ولن تشعر بالهلع".
هناك شركات لا ترغب ببساطة في هذه العلاقة المتبادلة مع زبائنها، في وقت سابق من هذا العام، تحدثنا مع موظفة في منصب إداري رفيع المستوى في شركة مستحضرات تجميل وألبسة فاخرة. وقالت لنا إن استراتيجية المجتمع لم تبد منطقية لعلامة الشركة التجارية، لماذا؟ لأن زبائن هذه الشركة يرغبون في أن تصنع لهم منتجات فاخرة. تساعد هذه الفكرة على توضيح ما يجب أن تفهمه الشركات التي ترغب في بناء المجتمعات، ألا وهو: يتصرف الشركاء في الملكية على نحو يختلف عن تصرف الزبائن العاديين، فهم من سينبهك عندما تسيء الحكم على التوجهات الرائجة. وقد ترى بعض الشركات خطورة في ذلك، ولكنه في الحقيقة سيقلل من الخطورة إذا تم التعامل معه كما ينبغي. وإذا لم تفهم الدليل على ضرورة تغيير المنتج، فسيساعدك الشركاء في الملكية على فهمه.
الدرس الثاني: ابدأ "بالعنصر البشري" وليس "بالمنتج".
لا يتعلق بناء المجتمع بما يمكن للمؤسسة تحقيقه وحدها، وإنما هو تجسيد لما يمكن للمؤسسة تحقيقه بالتعاون مع مجموعة من الأشخاص الشغوفين. وقد تعرفت شركة "ليغو" بواسطة منصتها "ليغو آيدياز" على العنصر البشري النشيط، المتمثل في أنصارها من المراهقين والبالغين الذين كرسوا أنفسهم بالفعل لتوليد أفكار يحلمون بها لمجموعات ألعاب "ليغو" جديدة. وعززت منصة "ليغو آيدياز" ما أراد أفراد المجتمع فعله بطبيعة الحال، وهو أمر يتماشى مع مصالح شركة "ليغو" الخاصة.
لم تحاول "ليغو" استحضار التحفيز من فراغ، وتجازف الشركات التي تقفز إلى الأساليب من دون التوقف لتحديد هدف المجتمع ببناء مجتمع لن يشارك فيه أحد. وكثيراً ما تضع هذه المؤسسات جهود بناء المجتمع تحت مظلة وظيفة الوسيط، كالتسويق أو وسائل الإعلام الاجتماعية أو إدارة المنتجات، أو الدعم من دون استراتيجية فعّالة. وبذلك تكون المبادرات الناتجة خاضعة لإدارة المؤسسة لا المجتمع.
ويجب عليك عوضاً عن ذلك البدء بتحديد مشاركين فطنين (أو من تعتقد أنهم كذلك). إن بناء المجتمع هو ممارسة مستمرة قائمة على الثقة والتعاون مع مجموعة محددة من الأشخاص الشغوفين الذين يمدون علامتك التجارية بالطاقة، وربما كانوا يشاركون فعلاً بطرق لم تدركها بعد. وقد يبدأ دعم هؤلاء الأشخاص كمسؤولية خاضعة لأحد أقسام المؤسسة، ولكنه في أفضل الأحوال يصبح جهداً مشتركاً بين الوظائف يهدف لدعم مجموعة أساسية من المساهمين.
الدرس الثالث: فكر بتعاون مستدام، لا باستثمار قصير الأجل.
تتمتع منصتا "تويتش" و"إنستغرام" بمجتمعين مزدهرين لعبا دوراً أساسياً في مراحل نموها الأولى. وتم الاستحواذ على المنصتين وأصبحت كل منهما تابعة لشركة أم (أمازون وفيسبوك). ولكنهما سلكتا مسارين مختلفين تماماً في استثمار مجتمعيهما.
كانت منصة "إنستغرام" فيما مضى المفضلة في بناء المجتمعات، وكما يشرح الشريك في تأسيسها كيفن سيستروم: "يمكن لأي أحد إنشاء برنامج لمشاركة الصور، ولكن لا يمكن لأي أحد إنشاء مجتمع. وإذا تمكنت من حماية هذا الأصل وتغذيته وإنمائه، وكان منتجك جيداً، فستكون قد أنشأت شيئاً يتمتع بقيمة أكبر من قيمة منتج عظيم في مجتمع سيئ". ولكن في الأعوام الأخيرة، خفضت الشركة استثماراتها في المجتمع. وألغت فريق المجتمع العالمي، وخفضت استثمارها في رواية القصص بشأن أفراد المجتمع الشغوفين، وحولت دعم الزبائن إلى التشغيل الآلي. ومنذ عدة أعوام مضت، أوقفت دعمها لمنصة "إنستا ميتس" (InstaMeets)، واللقاءات التي كان يعدها المستخدمون المتحمسون بصورة مستقلة. حتى أنها ألغت جملة "المجتمع أولاً" من بيان قيم الشركة. ومع ذلك، على المدى القصير، يستمر صافي ربح الشركة في النمو أكثر فأكثر. (كانت زميلتنا بيلي من ضمن الفريق الأول "لإنستغرام").
وفي المقابل، استمرت منصة "تويتش" في تخصيص استثمارات عميقة في مجتمعها على الرغم من نموها المستمر. ويعمل برنامجها "سفير تويتش" على تدريب المستخدمين ونقلهم إلى مقر الشركة من أجل التحدث مباشرة مع فرق الإنتاج والبيانات، وتتم مشاركة أفكار المنتجات الجديدة مع أفراد المجتمع قبل شحنها. ويستمر فريق تويتش في تسليط الضوء على المستخدمين المميزين في منتجاتهم ومقالاتهم، كما استثمروا في سلسلة سريعة النمو من اللقاءات حول العالم.
لماذا تستمر "تويتش" في الاستثمار في هذه العلاقات على الرغم من أنها وصلت إلى هذا الحجم بالفعل؟ قالت لنا إيرين واين، رئيسة تسويق المجتمع في "تويتش": "يملك مجتمعنا آراء قوية بشأن ما نفعله في المقر، لأنهم يقضون وقتاً طويلاً في استخدام منصتنا... منذ ستة أعوام مضت، كان هناك أكثر من 50 مليون مستخدم للموقع. والآن ازداد هذا العدد أربعة أضعاف، ويجب أن نستمر فيما نفعله. هذا لا يعني أن ازدياد عدد أعضاء مجتمعنا سيؤدي إلى تناقص أهمية آرائهم". إن شغف مجتمع "تويتش" مميز، فأفراده يبذلون وقتهم لمناصرة المنصة وتنظيم الفعاليات لصالحها. ولذلك، تستمر "تويتش" بالظهور لمستخدميها وتعرض عليهم مستوى أعلى من الرعاية، وتبني منتجاتها معهم وليس لأجلهم فحسب، على الرغم من أنهم وصلوا إلى حجم تحلم به جميع الشركات (أكثر من مليون مستخدم في الموقع في أي لحظة).
في الأيام الأولى لمنصة "إنستغرام" كان هناك مجتمع متنام، ولكن لم يكن استمراره مضموناً. وفي المقابل، تستمر "تويتش" بالاستثمار في العلاقات الوطيدة مع زبائنها. يمكن للشركة الاستمرار في ازدهارها من دون الاستثمار في مجتمعها، كما هو حال "إنستغرام" حتى اليوم. ولكن إذا لم تعمل على إدامة علاقاتك فأنت تجازف بتحميل نفسك ديناً للمجتمع. وبالنسبة لمعظم الشركات، يعتبر ولاء مجموعة من الزبائن أحد أهم الأصول التي تستحق الدفاع عنها.
ولن يكون المجتمع مجتمعاً إذا لم يستمر عدد أفراده بالتزايد. ولذلك، إذا رغبت الشركات ببناء المجتمعات، يجب عليها هي أيضاً أن تستمر بالظهور، يجب أن تكون مثابرة. لا يمكن قياس العائد على الاستثمار في المجتمع على نحو فوري أو واضح كما هو الحال في الأساليب الأخرى، مثل الإعلان الرقمي. ولكن احذر، الشركات التي لا تقوم باستثمارات مستدامة حقيقية، عبر بذل الموارد والوقت من أجل تغذية العلاقات مع أكثر زبائنها شغفاً، لن تنجح في بناء المجتمع ببساطة، فهي لن تجني أكثر مما تزرعه.
وبالنسبة لكثير من المؤسسات، يعني تأسيس مجتمع تأسيس قدرات جديدة، وهو طريق ديمقراطي وليس استبدادياً لبناء العلاقات مع الزبائن، ويتطلب الثقة بدلاً من التحكم، والالتزام بدلاً من التهور.
استلهم من مؤسسات مثل "ليغو" و"تيد إكس" و"تويتش"، وابدأ التعاون مع زبائنك بطرح السؤال التالي:
هل تأمل شركتنا اليوم تحقيق الأفضل عند الافتتاح الكبير؟ أم هل نبني الثقة مع الزبائن من خلال عملياتنا؟ هل يعرف فريقنا الإجابات عن الأسئلة: من الذين نريد الاستثمار فيهم؟ ولماذا يرغب هؤلاء الأشخاص بالتجمع؟
هل استمرينا باستثمارنا الأولي في هذا المجتمع؟ متى وكيف؟
ومع دخولنا في العقد الجديد، سيتصرف زبائنك عنك في كل الأحوال، وسيحركون التفاعلات بأنفسهم. فإما أن تقف جانباً، أو أن تمارس دوراً فاعلاً من خلال تعزيزهم.