ملخص: تميل أدمغتنا بطبيعتها إلى العمل بأسلوب يغلب عليه رد الفعل عند التعرض للضغط والتوتر؛ ويعني هذا أننا نلجأ غريزياً، في اللحظات العصيبة، إلى تبسيط خياراتنا وحصرها بالقرارات المتطرفة. فإذا وجدنا أنفسنا مضطرين إلى إبلاغ الآخرين بأخبار سيئة، فسوف نتحدث إما بطريقة مباشرة وقاسية للغاية وإما بطريقة غير مباشرة إلى درجة كبيرة. وإذا تعرضنا لضغط كبير في العمل، فإما أن نبالغ في توزيع المهام على الآخرين وإما أن ننفذ كل شيء بأنفسنا. وعندما نضطر إلى اتخاذ قرار ذي مخاطر عالية، فإما أن نعتمد أول فكرة تخطر على بالنا وإما أن ندخل في دوامة لا تنتهي من التحليلات والحسابات التي تجعلنا عاجزين عن اتخاذ أي قرار، أو ما يُسمى بالشلل التحليلي. إلا أنه ليس ثمة مشاكل معقدة في العالم تجعلنا أمام خيارين لا ثالث لهما (على الأقل) من الحلول الممكنة. إذا وجدت نفسك على مفترق طرق بين حلين متطرفين، فحاول أن تفترض أنهما حلان محدودا الفعالية، ثم التقط أنفاسك قليلاً، واشرع بعدها بإعداد قائمة أوسع من الخيارات. من المرجح أنك ستجد الحل الأفضل ضمن هذه القائمة الأوسع من الخيارات.
كانت إحدى كبار مسؤولي المبيعات التنفيذيين -ولنطلق عليها اسم دانييلا- تشعر بالإحباط؛ كانت تحاول تفويض المزيد من الصلاحيات إلى أفراد فريقها، ولكن ما أثار استياءها هو أن الكثير منهم وجد صعوبة في تقبّل المستويات الجديدة من الحرية التي أتاحتها لهم، مع أنهم طلبوا منها سابقاً أن تحمّلهم المزيد من المسؤوليات. تحدثت إليّ محاولة التنفيس عن غيظها، فقالت: "كنت أظن أن تفويض الآخرين بالمزيد من الصلاحيات سيتيح لي المزيد من الوقت للتركيز على عملي الخاص. ولكن، في كل مرة يخفقون فيها أجد نفسي أكفّ يدهم عن الأمر، فيستغرق مني إصلاح أخطائهم ضعف الوقت الذي كنت سأحتاج إليه لتنفيذ المطلوب بنفسي فحسب". وبما أنها شعرت بالإرهاق من نتائج الفشل الناجم عن أحد الخيارين المتطرفين، كان رد فعلها الغريزي أنها عادت إلى الخيار المتطرف الآخر.
تبيّن الأبحاث في مجال صناعة القرار أن أدمغتنا تميل بطبيعتها إلى العمل بأسلوب يغلب عليه رد الفعل عند التعرض للضغط والتوتر. وهذا يعني أن مَن يشغلون المواقع القيادية الذين يشعرون بالتوتر، مثل دانييلا، يلجؤون إلى الأسلوب الثنائي في اتخاذ القرارات، وهو ما يحد الخيارات المتاحة أمامهم. في اللحظات العصيبة، نميل إلى الاستنتاجات المتسرعة، بدلاً من أن نفكر على نحو أكثر انفتاحاً للعثور على المزيد من الخيارات وانتقاء الأفضل بينها. وعندما نواجه ظروفاً غير مألوفة لا تجدي معها أساليبنا المجربة والمثبتة، نحاول غريزياً مواجهة توترنا الطبيعي بتقليل خياراتنا وتبسيطها. ومن سوء الحظ، فإن محاولتنا هذه لفرض النظام على وضع عشوائي ومشوش تدفعنا إلى المبالغة في تبسيط الأشياء، وتصنيفها إلى أبيض وأسود أو خيارات متطرفة وشديدة التناقض.
يعمل اختصاصي تقويم العظام على معالجة المفاصل المصابة التي أدى تصلب عضلاتها إلى الحد من مجال حركتها، وبالطريقة نفسها، يجب أن يتفادى القادة الأثر الصاعق لحصر رؤيتهم بخيارين متطرفين ومتناقضين. يجب أن يتعلموا زيادة "نطاقهم الحركي" عبر مجموعة من التحديات القيادية والضغوط المتزايدة، لأن هذا يمنحهم مجموعة خيارات أكثر فعالية.
لندرس كيفية تحقيق هذه الفكرة في أربعة من المواقف المألوفة التي تتسبب بالتوتر.
تفويض الأعمال المهمة
هذه مشكلة دانييلا، وهي مشكلة شائعة. فالكثير من القادة يجدون صعوبة في التخلي عن حقوقهم الحصرية في اتخاذ القرارات. وتُعزى هذه الصعوبة في التخلي عن السلطة إلى الصورة السلبية التي ستقترن بهم عند إخفاق أحد المرؤوسين الأغرار في إنجاز المهمة التي كلفوه بها. أما أدهى مخاوفهم فهو أن أهميتهم ستتضاءل بسبب النجاح الذي يمكن أن يحققه المرؤوس! ولهذه الأسباب، يتمسك القادة بالسلطة، وبمستوى مرهق من السيطرة والتحكم. ولكن، في نهاية المطاف، يؤدي تكاثر المهام التي يُكلف بها القادة وتزايد صعوبة أدائها بالسرعة المناسبة إلى زيادة التوتر ووصوله إلى مستوى لا يمكن تحمله، ولهذا، تجبرهم المواقف الصعبة على منح مرؤوسيهم فرصة مواجهة تحديات جديدة. وهكذا، وبتفاؤل مبالغ فيه، يعرب القادة عن ثقتهم الكاملة بالموظفين، ويتركونهم دون مساعدة في حالة من التخبط الناجم عن النظرة المحدودة وقلة الخبرة. في معظم الحالات، لا يُعد هذا تكليفاً للمرؤوسين؛ بل تخلياً عنهم.
يجب أن يكون مستوى السلطة الذي يتخلى عنه القائد متوافقاً مع مستوى مهارة المرؤوس واستعداده لمواجهة الموقف الراهن، ويجب أن تبدأ العملية بحوار واضح بين القائد والموظف لتوضيح التوقعات وإجراء تقييم واقعي ونزيه لجاهزية الموظف للتعامل مع الموقف، وتوضيح الأسلوب الذي سيواصل فيه القائد مشاركته في العمل. في أغلب الأحيان، يتجاهل القادة هذه المرحلة التحضيرية المهمة بسبب الإحساس بالضرورات المُلحة. في الواقع، كلما كان المشروع أكثر حساسية وإلحاحاً، وجب التخطيط لتفويض السلطة بعناية أكبر.
كان هذا الأسلوب كفيلاً بمساعدة دانييلا على رؤية خيارات أخرى تختلف عن الخيارين المتعاكسين: "التفويض" و"السيطرة"، وبدلاً من هذين الخيارين يمكن لدانييلا أن تسأل نفسها: "في هذه المهمة، ما الأجزاء التي يستطيع أفراد فريقي تولي أمرها ويشعرون بثقة كافية للتعامل معها، وما الدور الذي يجب أن أؤديه لضمان نجاح هذا العمل؟"
إيصال الأخبار السيئة
يمثل إيصال الأخبار التي تسبب خيبة الأمل لدى الآخرين إحدى أصعب مهام القائد، في هذه الحالة، يميل القادة عادة إلى الاختيار بين التحدّث بأسلوب مباشر وقاسٍ للغاية، والتحدث بأسلوب حذر إلى درجة مبالغ فيها. رأيت العديد من القادة يضيعون وقتاً ثميناً على مقدمات طويلة ومحيّرة تهدف إلى تخفيف وقع الخبر، ورأيت قادة آخرين أيضاً يقنعون أنفسهم بأن التحدث مباشرة، على نحو يشبه "نزع اللصاقة الطبية بسرعة ودون تردد"، هو أفضل طريقة لإيصال الأخبار السيئة. لكن كلا الخيارين فاشل. يعود هذا إلى أن "تخفيف وقع الخبر" يؤدي في أغلب الأحيان إلى لغة غامضة وضعيفة الأثر وتترك المستمع في حالة من الارتباك والتوتر بسبب ما سمعه، أما طريقة نزع اللصاقة الطبية بسرعة فعادة ما تتطلب استخدام لغة قاسية وتتضمن أحكاماً قاطعة، بل ويمكن أن تكون حتى لغة مهينة، ما يدفع المستمع إلى التركيز على السلوك المسيء للقائد، لا الرسالة التي يجب إيصالها.
يجب على القائد تعلّم استخدام اللغة المباشرة والأسلوب الديبلوماسي في الوقت نفسه، بناءً على تأثير الخبر على المستمع. وإذا لم تتوافر لديه المرونة الكافية لإيصال الأخبار السيئة بالطريقة المناسبة، فسوف يواجه صعوبة أكبر حتى في التعامل مع النتيجة الحتمية لهذه الأخبار. وهنا، يمثِّل الاستعداد العنصر الرئيسي مجدداً. فإذا أمضى القائد ما يكفي من الوقت في إعداد الرسائل بدقة كي تحمل الدرجة الصحيحة من الديبلوماسية والصراحة على نحو مناسب لمن سيتلقى الخبر، فسوف يكون استعداده لما سيحدث بعد ذلك أفضل بكثير. يجب أن تعزل مشاعرك السلبية إزاء الموقف الدفاعي لمتلقي الخبر، مثل الشعور بالغضب أو الخوف، وتصوغ الرسالة بلغة واضحة ولا تتضمن إطلاق أي أحكام على المتلقي، وبطول لا يتجاوز جملتين أو ثلاث جمل. بعد ذلك، يجب أن توصل الرسالة خلال أول دقيقتين من الحوار، دون مقدمات طويلة، ودون أحاديث جانبية تهدف إلى التأخير أو تخفيف وطأة الخبر وتحفيز الاستعداد لما هو قادم. يمكن استخدام الفترة الباقية من الحوار لتأمل الخبر أو توجيه الأسئلة أو تفريغ المشاعر السلبية أو الاستيضاح، وحاول توجيه الحوار نحو احتياجات المتلقي، لا احتياجاتك أنت.
مواجهة القرارات العالية المخاطر
عند التعامل مع القرارات الروتينية، يمكن تصنيف معظم القادة إلى أحد الصنفين الآتيين: الصنف الأول من القادة يثق بغريزته ويتخذ القرارات بطريقة تعتمد بدرجة كبيرة على الحدس، أما الصنف الثاني من القادة فيميل إلى تحليل كل شيء ويسعى إلى دعم قراره بالكثير من البيانات. عادة ما تكون جودة القرار مستقلة إلى حد بعيد عن الأسلوب المفضل لدى القائد في اتخاذ القرار، لكن التوتر الناجم عن القرارات العالية المخاطر يمكن أن يدفع بالقادة إلى أقصى حدود ميولهم الطبيعية. وهكذا، يتحول القائد الذي يعتمد على الحدس إلى شخص متهور يتجاهل الحقائق المهمة، أما القائد الذي يميل إلى التحليل فيصاب بالشلل بسبب البيانات وغالباً ما يخفق في التوصل إلى أي قرار حاسم. عند تطبيق التركيبة الصحيحة من الأسلوبين السابقين -أي الحدس والبيانات- في تصميم الخيار، ستزداد ثقة المؤسسة في تنفيذه فور تحديده. حدد المخاطر الكامنة في السوابق المتعلقة بالقرار بوضوح، وأوضِح للجميع أنك تستوعبها بالكامل. تفحَّص مجموعات البيانات المتاحة وحدد الحقائق المتضاربة، وناقشها مع أصحاب المصلحة المناسبين (وتحديداً الرؤساء) لضمان التوافق في تفسير هذه المعلومات وفهمكم لها. اطلب مشورة الآخرين ممن تعاملوا مع قرارات مماثلة، ثم اتخذ قرارك.
حل مشكلة مستعصية
عندما يصاب القائد بالتوتر بسبب مشكلة مزمنة، غالباً ما يبدو له أن خياراته الوحيدة هي إما (1) الدفاع بشراسة عن حله المُقتَرَح بإصرار شديد، أو (2) تقديم الأفكار بطريقة موارِبة للغاية لتفادي أي إيحاء بالاستبدادية، وتشجيع الفريق على مواجهة التحدي مباشرة. تكمن المشكلة، مرة أخرى، في أن كلا الحلين لا ينفع؛ فإذا شعر المرؤوسون أن قائدهم مستبد فسوف يفقدون أي اهتمام بالفكرة بغض النظر عن إيجابياتها، وإذا شعروا أنه لا يثق بالفكرة فسوف يجدون صعوبة في تقبّل تجربتها: ليس من المجدي تعريض أنفسهم للمخاطر بتجربة فكرة يبدو أن القائد نفسه غير مقتنع تماماً بها.
التوازن المناسب بين التيقن بالفكرة والانفتاح على الأفكار الأخرى سيفتح المجال أمام الآخرين للمشاركة في وضع حل جديد وغير مُجَرّب، يُبنى على أساس أفضل أفكار القائد ويمكن تحسينه بالاعتماد على آراء الآخرين. يؤدي هذا العمل المشترك إلى منح القائد والفريق دفعة إيجابية، ويرفع مستوى جاهزية المؤسسة لتنفيذ الفكرة. يجب أن تعمل على خلق الظروف المناسبة لهذا الحوار الهادف إلى حل المشاكل بعناية وبدقة؛ حيث ينطلق الحوار بتوضيح استعصاء المشكلة وشرح الحلول السابقة الفاشلة وأسباب فشلها، ويجب أن توضِّح رغبتك في مشاركة الفريق لك في عملية اختيار الحل، وأن توضح دون مواربة أنك تبحث عن أفكار جديدة دون الدفاع عن الحلول السابقة الفاشلة أو تقديم نسخ معدّلة من هذه الحلول. إضافة إلى هذا، من المفيد وضع مجموعة مشتركة من المعايير القابلة للقياس التي تعتقد أنها تحدد ملامح الحل المقبول. وإذا كان لديك أي تحيزات مسبّقة تجاه حلول معينة غير مُجَرّبة، فيجب أن تتعامل معها بموضوعية وتطلب من أفراد الفريق التعامل معها مثلما يتعاملون مع الحلول التي يتوصلون إليها بأنفسهم. اطلب من الفريق التعبير عن أفكارهم. وبعد ذلك، استخدم المعايير المتفق عليها لتقييم جميع الأفكار، بما فيها أفكارك، والأهم هو أن توضّح جميع الافتراضات التي تعتمد عليها وجهات نظرك.
كلما كانت الظروف أصعب، أصبح وجود مجال واسع من الخيارات مفيداً أكثر للقائد. قد يؤدي اللجوء إلى الخيارات المتطرفة إلى خلق شعور لحظيّ بالراحة، ولكنه قد يؤدي إلى كارثة في المستقبل. ليس ثمة مشاكل معقدة في هذا العالم تجعلنا أمام خيارين لا ثالث لهما (على الأقل) من الحلول الممكنة. إذا وجدت نفسك على مفترق طرق بين حلين متطرفين، فحاول أن تفترض أنهما حلان محدودا الفعالية، ثم التقط أنفاسك قليلاً، واشرع بعدها بإعداد قائمة أوسع من الخيارات. من المرجح أنك ستجد الحل الأفضل ضمن هذه القائمة الأوسع من الخيارات.