من الناحية النظرية، يبدو الابتكار القائم على التعهيد الجماعي منطقياً للغاية. فإذا كان وجود شخصين يعملان على أمر واحد أفضل من وجود شخص واحد يعمل عليه، فما المانع أن يكون عدد مَن يعملون عليه 20 ألفاً، مثلاً؟ ومن المؤكد أنّ لدى بعض هؤلاء الأشخاص من خارج الشركة حلولاً مبتكرة للمشكلة التي تواجهها. لكنّ هذه البرامج، في الممارسة العملية، لم تنجح - في الغالب - بالقدر المأمول. وفي أغلب الأحيان، تضمحل حتى أفضل الأفكار الناتجة عن التعهيد الجماعي في خضم تعقيدات المصاعب اللوجستية والسياسات الداخلية وعدم الأمان المهني.
وخير مثال على ذلك يتمثل في تجربة التعهيد الجماعي التي أجرتها جمعية صناعة الهندسية الميكانيكية (VDMA)، وهي جمعية صناعية تمثل أكثر من 3,200 شركة هندسة ميكانيكية ألمانية، حيث حددت الجمعية ستة تحديات تقنية عالقة تواجه أعضاءها، ووجهت دعوة مفتوحة على الصعيد العالمي التماساً لحلول لها. وأسفرت المبادرة عن عشرات الحلول من الأفكار العملية للتصدي للتحديات المختلفة. لكن في نهاية الأمر، لم يطبق أعضاء جمعية صناعة الهندسية الميكانيكية أي حل من هذه الحلول. إذ رفضت جميع المؤسسات البالغ عددها 3,200 مؤسسة استخدام أي حل لم يتم ابتكاره داخلها.
بل إن وكالة "ناسا" واجهت ردود فعل أقوى عندما حاولت تجريب الابتكار القائم على التعهيد الجماعي الخارجي، حيث اعتبر بعض العلماء العاملين بالوكالة المبادرة بمثابة إهانة لهم. ففي نهاية المطاف، يرون أنهم التحقوا بوكالة "ناسا" للتصدي للتحديات المهمة بأنفسهم.
وحتى عندما تكون الشركات أكثر انفتاحاً للأفكار الخارجية، يتطلب تحويل الفكرة إلى حل يمكن تسويقه الكثير من الخطوات الإضافية التي يصعب تجاوز معظمها. ويتمثل أحد المقاييس التي تبين مدى صعوبة هذه الأفكار الخارجية في فشل شركة "كويركي" (Quirky)، وهي شركة ناشئة تركز بالكامل على الاختراعات القائمة على التشاور الخارجي، حيث إنها أشهرت إفلاسها في عام 2015، وتعود أسباب إفلاسها، جزئياً، إلى أن الشركة لم تضع مطلقاً نظاماً لتحويل اختراعاتها إلى منتجات.
ولتجنب هذا النوع من المنزلقات بين الاختراع والتنفيذ، استحدثت اللجنة الدولية للصليب الأحمر نهجاً جديداً إزاء الأفكار القائمة على التعهيد الجماعي. إذ إنها صممت مشروعها "إنيبل ميكاثون" (Enable Makeathon) ليس للتوصل إلى أفكار سديدة لمنتجات من شأنها مساعدة أصحاب الهمم (ذوي الاحتياجات الخاصة) فقط، بل أيضاً للتأكد من وصول هذه الأفكار إلى السوق.
ويبلي هذا النهج، حتى الآن، بلاء حسناً. إذ أسفر مشروع "إنيبل ميكاثون" عن تأسيس عدد من الشركات الناشئة الواعدة، التي تتضمن:
- شركة "موبيليتي" (Mobility)، وهي شركة ناشئة تبيع مقاعد زهيدة التكلفة صممت للمساعدة في تصحيح جلسة الأطفال المصابين بالشلل الدماغي.
- شركة "آسك بلي" (AskBlee)، التي تقدم خدمة لغة الإشارة التي تجيب عن الأسئلة، والمقدمة للأشخاص الصم في الهند، البالغ عددهم 65 مليون شخص.
- شركة "أمبارو" (Amparo)، التي طورت "تجويف الثقة" (Confidence Socket)، وهو نوع جديد من ملحقات الأطراف الصناعية بالجزء الأسفل من الساق التي يسهل تركيبها ويعتبر ارتداؤها مريحاً بدرجة أكبر.
- شركة "تورش إت" (Torch-It)، التي تصنّع عصا افتراضية للمكفوفين توفر لهم معلومات عن المسافة وهوية العقبات على بُعد عشر أقدام إلى إحدى عشرة قدماً إلى الأمام.
وأدركت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنها، لكي تتجنب ما لحق بجمعية صناعة الهندسية الميكانيكية ووكالة "ناسا" وشركة "كويركي"، سيتعين عليها التصدي للشكوك الداخلية إزاء الأفكار القائمة على التعهيد الجماعي منذ البداية. وكان ذلك يعني أن دور التعهيد الجماعي الخارجي يجب أن يتجاوز الجزء الشائق المتمثل في استنباط الأفكار فحسب. وهكذا، سيتعين على المخترعين المشاركة في توسيع نطاق الفكرة.
ويعلم الموظفون المتمرسون في جميع الشركات الناشئة أن الفكرة لا تمثل سوى البداية. ويتطلب طرح منتج في الأسواق عدداً من الخطوات الإضافية التي تحظى بالقدر نفسه من الأهمية، والتي ليس من السهل لمؤسسة قائمة اتخاذها، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمنتج رائد بحق.
وكان ذلك الأمر ينطبق بدرجة أكبر على حالة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لأنها منظمة غير حكومية تقدم خدمات صحية وإنسانية، وليست شركة تصنيع. وأدرك المدراء التنفيذيون للجنة الدولية للصليب الأحمر أنه على الرغم من أن المنظمة في وضع يسمح لها بابتدار مسابقة للاختراعات لمساعدة أصحاب الهمم، إلا أنها لا تتمتع بالقدرات الداخلية التي تكفل لها المضي في تطوير هذه الأفكار وطرحها في السوق. وتعيّن على اللجنة الدولية للصليب الأحمر، للتغلب على هذه العقبة، استحداث نوع جديد من مبادرات الابتكار التي لم تقدح فحسب شرارة المقترحات الخلاقة، بل كانت تحوّلها أيضاً إلى منتجات عملية من شأنها الوصول إلى الأسواق التي تعاني من نقص الخدمات، والتي غالباً ما تجد التجاهل.
وتعاونت اللجنة، للتصدي لهذه التحديات، مع المؤسسات ذات المصلحة في المشكلة المعنية لسد فجوات الخبرات الفنية والموارد في سلسلة الابتكار، ولمساعدة المشاركين في طرح منتجاتهم في السوق. على سبيل المثال، درّب هؤلاء الشركاء أولئك المشاركين في مجال التفكير التصميمي وكيفية وضع خطة العمل وكيفية إيجاد المستثمرين، والأمر الأكثر أهمية، كيفية تحويل أفكارهم إلى منتجات حقيقية بوضع مسار يفضي إلى السوق عبر القنوات القائمة. وبالمثل، تعاونت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع العديد من برامج حاضنات الأعمال (مثل: "آرتيلاب" (Artilab) و"فاب لابس" ’Fablabs‘) للمساعدة في توسيع نطاق الحلول والتصدي للتحديات التي لم تكن في الحسبان في السوق.
وتعلّم مدراء مشروع "إنيبل ميكاثون" بعض الدروس المهمة الأخرى في أول مسابقتين عقدوهما كذلك، منها:
البدء بالفِرق. قضى المنظمون، في العام الأول من المسابقة، الكثير من الوقت في مساعدة المستثمرين كل على حدة على تشكيل فِرق تطوير المنتجات. وببداية العام الثاني من المسابقة، قرر المدراء إلغاء هذه الخطوة وعدم السماح إلا للمستثمرين الذين لديهم فِرق لتطوير المنتجات بالتقديم للمسابقة.
وضع خطة عمل. يحظى الابتكار بفرصة أكبر بكثير في تطبيقه إذا ما كان يرتكز على أساس اقتصادي متين. وببداية النسخة الثانية من المسابقة، شجع منظمو مشروع "إنيبل ميكاثون" المتقدمين على تقديم أفكارهم مصحوبة بخطة عمل تستخدم منهجية "إطار نموذج الأعمال" (Business Model Canvas). وخصصت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أيضاً لكل فريق رائد أعمال متمرس بصفته موجهاً له في شؤون الأعمال. وقد ساعد الموجهون الفِرق في صقل نماذج العمل وخطط التسويق وتوقعات التكلفة والعائد التي أدرجت في عروضهم المقدمة في الجولة الأولى من المسابقة.
الالتقاء بصورة شخصية. نُقل الفائزون بالمسابقة إلى مخيّم للتوصل المشترك للأفكار وتجريبها، حيث أتيحت لهم فيه فرصة العمل معاً على أفكارهم وفرصة مقابلة مجموعة من الأشخاص المصابين بالإعاقة التي يأمل الفريق في معالجتها. وكان بوسع الفريق الحصول على ملاحظات العملاء المرتقبين حول المنتج. ويمكن أيضاً أن يأخذ أصحاب الهمم هؤلاء الفريق في رحلات ميدانية ليبينوا لهم كيف يبدو الأمر عندما تتعايش مع نوع معين من الإعاقة. والتقى كل فريق الأشخاص المعنيين الآخرين الذين يتمتعون بشكل من أشكال التواصل مع المجتمع الذي اختاروه من أصحاب الهمم، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية والعاملون في مجال المساعدات الإنسانية والمستثمرون. وقد ساعدت هذه الخطوة الفريق في زيادة تعزيز فكرتهم الابتكارية وتقليل احتمالية أن يشعر هؤلاء الأشخاص المعنيون بالخطر من المبتكرين الخارجيين فيما بعد.
الحد من المخاطر التي تتعرض لها عندما يكون بوسعك ذلك. ألحقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الفائزين بالمسابقة، لمساعدتهم في التفكير على نحو عملي بشأن ترجمة الحلول التي توصلوا إليها، بالعديد من برامج حاضنات الأعمال القائمة التي تساعد الشركات الناشئة في توسيع نطاق حلولها. وتتلقى الفِرق أيضاً، في هذه المخيمات، التدريب على المهارات الخاصة مثل التفكير التصميمي الذي من شأنه مساعدة أعضائها على أن يصبحوا رواد أعمال ناجحين.
تمهيد الطريق نحو السوق. عرّفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بشكل استباقي، الفائزين بالمسابقة على الجهات الفاعلة الرئيسة في قطاعاتهم المحددة، والتي يمكنها مساعدتهم في الوصول إلى السوق. وكانت الجهات الفاعلة هذه تشمل: الموزعين المحتملين والاتحادات الخاصة بالقطاعات المختلفة والشركات المحلية التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر التي يمكن أن ترغب في تخزين المنتجات التي يصنعها الفائزون.
وتشير الأرقام إلى أن دعم تطور مجموعة من الفائزين بالأفكار الخلاقة يعتبر نهجاً للابتكار القائم على التعهيد الجماعي أكثر من اعتباره مجرد نهج لغربلة الأفكار: حيث لم يتفحص منظمو مشروع "إنيبل ميكاثون"، في الدورة الأخيرة من المشروع، الآلاف من المقترحات واختاروا - بدلاً من ذلك - 16 فريقاً تعتبر الأكثر تبشيراً بالنجاح من أصل 116 طلباً مقدماً (يوجد 11 فريقاً منها في مدينة بانغلور وخمسة فِرق في لندن). وقد كان 15 فريقاً من هذه الفِرق الـ 16 قادراً على وضع نموذج أولي عملي، وهو ما يمثل مردوداً مرتفعاً بصورة استثنائية عندما تضع في الاعتبار أن أصحاب رأس المال الاستثماري يجدون الجدوى في أقل من نسبة 1% (0.7%) من المقترحات التي يراجعونها.