تحلية المياه في السعودية: ابتكارات مستمرة من زمن “الكنداسة”

4 دقيقة
تحلية المياه
(مصدر الصورة: هارفارد بزنس ريفيو، تصميم: محمد المحمود)

ملخص: مع تفاقم أزمة نقص المياه الصالحة للشرب نتيجة للتغيرات المناخية والاحتباس الحراري، تتجه الحكومات لحلول قائمة على الابتكارات الحديثة، لا سيما في المناطق التي تكون فيها أزمة المياه حادة وخطيرة. المملكة العربية السعودية تُعد من أبرز اللاعبين العالميين في مجال تحلية مياه البحر، إذ تتجاوز قدرتها الإنتاجية 9 ملايين متر مكعب يومياً. يُسلط المقال الضوء على ابتكارين تستخدمهما المملكة بكفاءة عالية لتوليد المياه الصالحة للشرب والحفاظ على البيئة في الوقت نفسه: 1. تقنية التقطير القائمة على الطاقة النظيفة، 2. تقنية التناضح العكسي.

مع مطلع القرن التاسع عشر وتحديداً عام 1905، غرقت إحدى سفن الدولة العثمانية بسبب ارتطامها بالشعب المرجانية القريبة من سواحل مدينة جدة، فقرر حاكم المدينة نقل آلة التقطير التي كانت موجودة على السفينة إلى اليابسة وتثبيتها بالقرب من ميناء جدة، لتُصبح أول وحدة لتحلية المياه في تاريخ المملكة، وأطلق عليها السكان المحليون اسم "الكنداسة"، اشتقاقاً من اسمها اللاتيني (Condenster)؛ أي "المكثّف"، واستبشر الناس بها خيراً على الرغم من سعة إنتاجها الضعيفة آنذاك (300 متر مكعب يومياً فقط). وفي عام 1928، أمر الملك عبد العزيز، رحمه الله، بإنشاء وحدتين لتحلية مياه البحر تعملان بتقنية "التكثيف" نفسها، لتكونا النواة الأولى لما أصبح فيما بعد "المؤسسة العامة لتحلية المياه". وبعد عقود من التوسّع وبذل الاستثمارات الضخمة، أصبحت السعودية تشكّل أكثر من 22% من إجمالي إنتاج المياه المحلاة عالمياً، وتتجاوز قدرتها الإنتاجية للمياه المحلاة 9 ملايين متر مكعب يومياً، وهو إنجاز ما كان ليتحقق دون دعم حكومي هائل عبر مختلف هيئاته، وعلى رأسها هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار.

تهدد مشكلة ندرة المياه نمط عيش مجتمعات كثيرة حول العالم وفُرصها في تحقيق التنمية، إذ يعاني نحو 4 مليارات نسمة نقص المياه مدة شهر واحد على الأقل في السنة، ومن المتوقع أن يواجه 1.8 مليار شخص شحاً حاداً في المياه عام 2025. إن منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق التي تعاني ندرة المياه على مستوى العالم، فبحسب الإسكوا، يعيش 390 مليون شخص في المنطقة العربية في بلدان تعاني ندرة المياه. وبحسب تحليل جديد صادر عن معهد الموارد العالمية شمل 167 دولة، فإن 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط من المحتمل أن تكون الأكثر تعرضاً للإجهاد المائي في عام 2040. (ويعني المصطلح زيادة الطلب على المياه الصالحة للاستخدام البشري أكثر من توافرها في منطقة محددة).

ويزيد التغير المناخي من تفاقم أزمة المياه في المنطقة، إذ ترجح تقارير البنك الدولي أن تخسر المنطقة 14% من ناتجها المحلي بحلول 2050 بسبب ندرة المياه المرتبطة بالمناخ، إذ أشارت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) إلى اتجاه مقلق نحو ارتفاع درجات الحرارة وجفاف أكبر في الشرق الأوسط، ما يؤدي إلى تفاقم الضغط على موارد المياه، ومن المتوقع أن تخسر المنطقة 75% من مياهها العذبة، إذا ارتفعت درجات الحرارة بمقدار 4 درجات مئوية.

وتضاف إلى ندرة المياه، مشكلة الاستخدام غير المستدام، فقرابة 82% من المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يجري استخدامها بكفاءة، على الرغم من زيادة الطلب على المياه وانخفاض العرض.

وتبرز تحلية المياه بوصفها نقطة تحول في حل أزمة نقص المياه، إذ تسهم في استدامة إمدادات المياه حتى في فترات الجفاف، وتقلل الضغط على مصادر المياه الجوفية، كما تدعم الأنشطة الزراعية والصناعية وتعزز الأمن المائي والقدرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ. وتسهم دول الخليج في جهود تحلية المياه في العالم، وتولد نحو 40% من إجمالي المياه المحلاة عالمياً عبر أكثر من 400 محطة تحلية إقليمية، في حين تمتلك المملكة العربية السعودية أكبر محطات التحلية على مستوى العالم، وتنتج نحو 20% من المياه المحلاة في العالم.

هدف خفض تكاليف إنتاج المياه بنسبة 50% بحلول عام 2035

ساعدت التطورات التكنولوجية مثل التناضح العكسي والتقطير المتعدد التأثيرات على تحسين كفاءة تحلية المياه في استخدام الطاقة، وتبرز جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بوصفها من المؤسسات الفاعلة في تطوير تقنيات مبتكرة لتحلية المياه تساعد على خفض تكاليف التشغيل، إذ تهدف إلى خفض تكاليف إنتاج المياه بنسبة 50% بحلول عام 2035، وذلك عبر مجموعة من الابتكارات التي نجحت في تحقيقها بفضل دعم الأبحاث والمبادرات الريادية بالتعاون مع المؤسسات ذات الصلة، ومن بين هذه الابتكارات تحلية المياه بالتقطير المعتمد على الطاقة الشمسية، التي نالت على إثره براءة اختراع من مكتب الاختراعات بالولايات المتحدة الأميركية. ومن أهم ميزات هذا الابتكار اعتماده على طاقة نظيفة، ألا وهي الطاقة الشمسية المتوافرة بكثرة في المملكة العربية السعودية، وانخفاض تكلفة المواد المصنوعة منها المقطرات نفسها بالإضافة إلى سهولة نقلها وتشغيلها، لذا فإن متوسط عمرها التشغيلي يتراوح بين 20 و30 عاماً، كما يمكن استخدام البحيرات الطبيعية أو الاصطناعية في حالات المقطرات الكبيرة مصباتٍ للمياه المُحلاة، أضف إلى ذلك، إمكانية تقطير المياه من عدة مصادر على اختلافها: ماء البحر أو المياه الجوفية أو المياه المستخدمة في المنازل وغيرها. وتؤدي عملية التقطير إلى الحصول على ماء مقطر نقي، ويجري استخدام المحلول الملحي المتبقي بعد التبخر لإنتاج مادة الملح.

تقنية التناضح العكسي (RO)

تشكّل تقنية التناضح العكسي مستقبل تحلية مياه البحر، فهي تمثل مستقبل إنتاج مياه الشرب للمجتمعات الساحلية وحاجيات المياه للكثير من المدن عبر العالم، وهي مستخدمة بالفعل بكثافة في عدد من الدول، على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، وهي أكبر 3 دول منتجة لمياه الشرب المحلاة بهذه التقنية في العالم.

تقوم تقنية التناضح العكسي على فصل جزيئات مياه البحر عن الأملاح التي تتركز عادة بنسبة تتراوح بين 3 و3.5%، وذلك عبر استخدام غشاء منفّذ تحت ضغط عالٍ. عمل مركز الأبحاث البينية للأغشية وأمن المياه بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، على تطوير أداء أغشية التناضح العكسي (RO) من خلال عملية ضبط كيميائي مبتكرة لطبقة الغشاء النشطة، وكشفت نتائج الاختبارات العلمية عن قدرة الغشاء الجديد على تحقيق معدل رفض للملح بنسبة 98% وتدفق نفاذ بنسبة 25% أعلى من الأغشية التقليدية، كما تسهم مقاومة التلوث عبر الغشاء الجديد في تقليل الحاجة إلى الصيانة والاستبدال، وبالتالي خفض تكاليف التشغيل وضمان كفاءة الغشاء على المدى الطويل وتوفير نسبة 25% من المياه وصيانة أقل.

إن جعل عملية تحلية المياه أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة من خلال تحسين أداء أغشية التناضح العكسي يعزز أنظمة إدارة المياه بفعالية واستدامة أكثر، ويمهد لتقديم حلول واعدة للتحديات المائية العالمية، منها الجمع بين تكنولوجيا الطاقة الشمسية وتكنولوجيا تحلية المياه لاستدامة إنتاج المياه، إذ تستخدم أنظمة تحلية المياه بالطاقة الشمسية الألواح الكهروضوئية لتشغيل عمليات تحلية المياه، ما يقلل من استهلاك الطاقة وانبعاثات الغازات الدفيئة.

تتطلب مشكلة نقص المياه مواصلة دعم الأبحاث والتطوير في تقنيات تحلية المياه لتحقيق مستقبل أكثر استدامة في إدارة المياه، كما يحتاج تعميم هذه التقنيات وتسريع تبنّيها إلى وعي بأهمية التعاون والعمل المشترك بين المواطنين والباحثين والمؤسسات والشركات.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي