في البداية، دعونا ننظر في المواقف الآتية:
الموقف الأول: يضع جرّاح ملفاً شخصياً عبر الإنترنت، يضم مؤهلاته وخبرته لاستقدام المرضى، لكنه لا يوضح نسب وفيات المرضى لديه. وبعد وفاة أحد مرضاه في غرفة العمليات، تُعيّن أسرة المتوفى محامياً، فيكتشف الأخير أن الجراح أخفى بيان الوفيات عن عمد.
الموقف الثاني: شخص ما يأكل في مطعم، ويرى جرذاً يجري أمامه. وبينما هو يغادر، يدرك أن المطعم لم يعلّق لوحة تبين بشكل واضح الامتثال لمعايير الصحة العامة والانتهاكات المتعلقة بها.
نعيش الآن كمستهلكين ومواطنين في عصر الإنترنت، لذلك نستطيع الوصول إلى المعلومات بشكل أسرع من السابق، خاصة إذا تعلق الأمر بقرار شرائي، أو قرار يؤثر على الصحة والسلامة والرفاهية. فعلى سبيل المثال، نستطيع، عبر مواقع إلكترونية مثل "يلب" (Yelp)، و"تريب أدفايزر" (TripAdvisor)، و"أمازون"، التجول بين مئات التقييمات لمطعم أو فندق أو أي منتج معروض للبيع. لذلك، بات الأفراد والمؤسسات يأخذون على عاتقهم هذه الأيام المشاركة بمجموعة من البيانات عن خدماتهم ومنتجاتهم عبر الإنترنت.
ومن الناحية النظرية، يمكن للمسوقين الاستفادة من تلك الوفرة من المعلومات في إخفاء حقائق وأرقام لا يريدون للمستهلكين أن يعرفوها. إذ قد يخفي ذلك الجراح نسب معدل الوفيات الزائد عن الحد الطبيعي حتى لا يخسر المرضى. وقد يخفي ذاك المطعم المعلومات المتعلقة بمستويات النظافة العامة حتى لا يُنفر عنه الزبائن.
وتوضح هذه الأمثلة كيف يمكن أن يكون ما هو مخفي لا يقلّ أهمية عما يصرح به. والسؤال هنا: "كيف يتصرف المستهلكون عندما يخفي المسوّقون عنهم معلومات لها صلة بقراراتهم الشرائية؟".
ونحن نظن أن المستهلكين لا يأبهون لما يخفيه المسوّقون حقاً. إذ وجدنا، من خلال سلسلة من الاختبارات بشكل عام، أن 1,700 شخص من العينات التي كانت لدينا كانوا متسامحين بشأن المعلومات المخفية بشكل متعمد. وتتناقض تلك النسبة مع القواعد العقلية السائدة لمجموعة ضخمة من الأبحاث الاقتصادية التي تطورت عبر عقود.
كيف يمكن للمعلومات أن تكشف الأمر
لقد درس واضعو نظرية الألعاب الآلية التي يجب أن تسير بها "لعبة" التواصل والإفصاح بين المستهلكين والمسوقين، وكيف يجب أن يتفهم المستهلكون دلالات المعلومات المفقودة (أي المعلومات التي يخفيها المسوقون). فقد وضعوا نظريات بناءً على عملية كشف المعلومات، مفادها أن المستهلكين سينتبهون عندما يتم إخفاء معلومات عنهم، فيستدلون باستدلالات ذكية على تلك المقاصد.
وسنوضح الآلية التي يجب أن تسير بها عملية كشف المعلومات: لنفترض أننا نصنف في بلدنا نسب وفيات المرضى عند الأطباء بمقياس من خمس نقاط، يتدرج من الأسوأ (نجمة واحدة) إلى الأفضل (خمس نجوم). ويوضع هذا المقياس في ملف الطبيب عبر الإنترنت. فإن أخفى جراح مقياس نسبة الوفيات هذا من ملفه، ماذا يجب أن يستنتج المريض؟ من الناحية المنطقية، سيستدل المرضى أن هذا الطبيب لديه نسبة أقل من خمس نجوم، وإلا ما كان ليخفي التقييم. ولكن هل هذا يعني أن هذا الجراح حصل على مستوى أربع نجوم مثلاً؟ الجواب لا، اعتماداً على نظرية الألعاب هذه. لأنه بالمنطق أيضاً، أي طبيب من مستوى خمس نجوم سيفصح عن ملفه، وأي طبيب لا يكشف ملفه فمستواه من نجمة واحدة إلى أربع نجوم. لهذا السبب، سيكشف الأطباء الحاصلون على أربع نجوم ملفاتهم، لأنهم الأفضل ضمن هذا المستوى (من نجمة لأربع نجوم)، وهم يريدون أن يعرف المرضى ذلك، حتى لا يفترضون أنهم أقل. ويجري الأمر على المنوال ذاته، في حال أبرز الأطباء الحاصلون على ثلاث نجوم ملفاتهم المتعلقة بنسب الوفيات لديهم، لأنهم لا يريدون أن يظن المرضى أنهم أقل من ذلك. فحلّ المسألة الآن واضح، الجراحون من مستوى خمسة حتى نجمتين سوف يكشفون ملفاتهم. لأن المرضى - حسب تلك نظرية الألعاب - سترى أن كل جراح لا يكشف ملفه يملك نجمة واحدة.
وهكذا، يعطينا هذا المبدأ دلالة على أن المستهلكين سيتوجسون إلى أقصى حد من المعلومات المخفية. فإذا لم يكشف أحد مصنعي الهواتف الذكية عن عمر بطارية الهاتف، فلن يرغب المستهلك على الأغلب بذاك الهاتف (إن كان شأن عمر البطارية يعنيه كثيراً). وبالمثل، إن لم يبيّن صاحب مطعم نسبة النظافة العامة لديه، فالزبون لن يأكل هناك (إن كان الزبون يهمه أمر الأمراض). وكما أوضحنا، إن لم يكشف أيضاً جراح نسبة وفيات المرضى لديه، فالمرضى سيذهبون إلى جراح آخر (إن كان المريض يريد تقليل مخاطر الوفاة).
مسؤولية الثقة الزائدة
ورغم هذه النظرية المعتمدة على المنطق، لم تثبت هذه التكهنات صحتها من خلال دراساتنا. فعندما وضعنا مبدأ إخفاء المعلومات في الاختبار، وجدنا أن المستهلكين ساذجون، وواثقون كثيراً بمزود الخدمات الذي يخفي معلومات ضرورية متعلقة بقرارات شرائهم.
ففي إحدى التجارب التي أشرفنا عليها عبر الإنترنت، طلبنا من 493 مواطناً أميركياً اعتبار أنفسهم مرضى يختارون طبيباً بناءً على ملفه عبر الإنترنت. وكانت ملفات الأطباء تحتوي على تقييمات مرضاهم بشأن خمسة عناصر رعاية مهمة لديه: جودة الرعاية، وجدارته بالثقة، والجاهزية، ومهارة التعامل مع المريض، والقيمة. ورأى المواطنون متوسط النسب لكل الأطباء في البلدة، تبعاً لتلك الاعتبارات الخمسة السالفة الذكر. ثم رأوا ملفاً فردياً يضم أربعة فقط من تلك التصنيفات الخمسة. وتم إخبار ثلث المستجيبين أن العنصر المفقود تم إخفاؤه بشكل عشوائي. (وضعت هذه الحالة لقياس تأثير المعلومات المخفية بتجرد عن أي غاية، ولم تحجب من قبل المزود). وأُخبر ثلث آخر أن الطبيب لم يقدّم النسبة المخفية. وأُخبر الثلث الأخير أن الطبيب رفض تزويد الناس بالنسبة المخفية.
وكانت النتيجة كالتالي: إذ حكم المستجيبون على الطبيب الذي لم يقدم معلومات عن نفسه بأنه جيد، بطبيعة الحال، في التقييم الناقص، تماماً كالحالة الأولى، حيث أُخفيت النسبة بشكل عشوائي. وعندما رفض الطبيب تقديم النسبة المخفية، لم يرغب المستجيبون في اختياره، لكنهم لم يصنفوه على أنه سيء كما هو متوقع من وجهة نظر صناعة القرار العقلاني. وبشكل عام، لم يُعر المستجيبون اهتماماً أو أهمية للمعلومات الضرورية المخفية عنهم.
وفي تجربة أخرى، أردنا اختبار مدى أهمية الإفصاح عن البيانات بالنسبة للمستهلكين، خاصة إن كانت مهمة بدورها لقرارتهم الشرائية. وأردنا قياس المدى المسموح الذي يستطيع فيه البائع، أو مقدم الخدمة، إخفاء المعلومات المهمة، وهو الأمر الذي يخبرنا بدوره أيضاً إن كان المستهلك يحتاج إلى أن حماية من مزودي الخدمة عديمي الضمير.
وفي هذه التجربة عبر الإنترنت أيضاً، طلبنا من 1,104 من المواطنين الأميركيين توضيح إلى أي مدى يمكن اختيار طبيب معين (وليكن اسمه غرين). ويحتوي ملف د. غرين على نسب التقييمات الخمسة للرعاية التي استخدمناها في التجربة السابقة. وقسّمنا المشاركين إلى فئتين، الأولى كُشف لها هذه التقييمات، والثانية تم حجب بعضها. فبالنسبة للمشاركين في الفئة الأولى، كانت النسب في المتطلبات الخمسة معروضة. ويمكن القول إن جدارة الطبيب بالثقة هي الأمر الأكثر أهمية في التصنيفات الخمسة، وكانت معروضة على مقياس من 51 إلى 99، إذ نال الطبيب 3 مستويات مختلفة في الملفات المعروضة، أحدها مستوى منخفض (52)، وآخر متوسط (75)، والأخير كان مرتفعاً (99). ولم يكن أمراً مفاجئاً أن الملف ذا المستوى الأعلى لجدارة الطبيب بالثقة كان الأكثر اختياراً من قبل المشاركين.
أما بالنسبة للمشاركين من الفئة الثانية، فإن نسبة جدارة الطبيب بالثقة كانت مخفية. وعرضنا ذلك بطرق مختلفة: إما (1) مساحة فارغة تماماً مكان الصف الذي من المفترض أن يضم نسب الجدارة بالثقة، أو (2) كُتبت عبارة تقييم "الجدارة بالثقة" لكن المساحة فارغة أمامها، أو (3) كُتبت عبارة تقييم "الجدارة بالثقة" وأمامها عبارة "الطبيب لم يزودنا بالمعلومات"، أو (4) كُتبت عبارة تقييم "الجدارة بالثقة" وأمامها عبارة "الطبيب رفض تزويدنا بالمعلومات".
ولكن المثير للاهتمام هنا، أن المشاركين في الفئة الثانية الذين لم يروا تقييم الطبيب الجدير بالثقة كانوا ميالين إلى اختيار دكتور غرين، مثل الأشخاص في الفئة الأولى الذين رأوا أن د. خضر لديه نقاط متوسطة من الجدارة بالثقة. بعبارات أخرى، كان الإخفاء يماثل المستوى المتوسط أكثر من المستوى الضعيف. والجدير بالذكر هنا أن نوع عدم الإفصاح أثّر على قرارات الناس (على سبيل المثال، كان المشاركون أقل اختياراً للطبيب غرين، عندما رأوا الطبيب رفض التزويد بالمعلومات عن نفسه في نقاط الجدارة بالثقة). وحتى في حالات رفض الإفصاح، كان الناس يتجهون إلى ذاك الطبيب، أكثر من الذي كشف عن حاله، ولديه نتيجة أقل من 52 فيما يخص الجدارة بالثقة.
وأصبح واضحاً أنه من الأفضل للطبيب غرين رفض الإفصاح عن نسبة الجدارة بالثقة من أن يُظهر مستوى متدنياً في ذلك. وهذا يقودونا إلى أنه، في بعض الظروف، يصبح إخفاء المعلومات المتدنية قليلاً سياسة ناجحة لمزودي الخدمات للناس، وأن المستهلكين هم الأكثر عرضة للأذى من هذه السياسة.
لفت الانتباه إلى عدم الإفصاح
في عام 2015، اقترح النائب في مجلس الشيوخ عن ولاية كارولاينا الشمالية، توم تيليز، أن القانون الذي يطالب الموظفين بغسل أيديهم بعد الخروج من دورة المياه ليس ضرورياً. فأوضح خلال حديث له في مركز "بابارتيزين بوليسي" (Bipartisan Policy Center): "ليس لدي مشكلة مع شركة "ستاربكس" (Starbucks) إذا قررت الانسحاب من هذه السياسة، طالما أنها وضعت لائحة تقول إنها لا تطالب موظفيها بغسل أيديهم بعد الخروج من دورة المياه، فحينها سيتولى السوق التعامل مع هذا الأمر".
في تلك الليلة، كان الممثلون الكوميديون يتدربون للرد على اقتراحه، على الرغم من أن هذا الأمر كان متوافقاً مع توقعات نظرية الألعاب فيما يخص الإفصاح عن الأشياء. فهو يريد القول إنه إن كان مطلوباً من المطاعم والمقاهي نشر سياسة غسل اليدين، فلا حاجة للحكومة بتوصية ذلك. وإذا أراد أصحاب المطاعم الانسحاب من ذلك، فما عليهم فقط إلا الكشف عن ذلك. وحينها، سيتجه المستهلكون الذين يهمّهم أمر النظافة العامة فقط نحو المطاعم التي تنشر سياسة غسل اليدين هذه.
ورغم التوقعات الذكية والمنطقية لنظرية الألعاب، لا يمكننا الاعتماد على أن الناس سيلاحظون المعلومات المخفية، أو يخرجون باستدلالات سليمة عن سبب إخفائها. وحتى إن لاحظوا أن هناك عدم إفصاح في أمر ما، فلا يخطر ببالهم أن مندوب المبيعات أو المسوِّق لديه خبث يخفيه، إلا إذا كان الأمر المخفي مثيراً بشكل ملحوظ.
وبالتالي، نوصي هنا أن يُطالَب مقدمو المنتجات والخدمات بضرورة الإفصاح عن المعلومات ذات الأهمية والقيّمة بالنسبة لقرار المستهلك، إلا إذا كانت هناك طريقة سهلة للتنبيه إلى أن أمراً مخفياً بشكل مقصود. وهكذا، ستُطالب "ستاربكس" التي تنسحب من سياسة غسل الموظف يديه بوضع إشارة دائمة لتدل على هذا الأمر، وسيطالب الطبيب بالإفصاح عن بيانات أدائه إن كان الأمر ذا أهمية بالنسبة لصحة المرضى.