شهد الاتحاد الأوروبي سلسلة من الأحداث العصيبة على مدى السنوات العشر الأخيرة، وقد كان كل حدث من تلك الأحداث بمثابة تهديد كبير طال استقراره. إذ تعرض الاتحاد الأوروبي أولاً إلى تداعيات الأزمة المالية بين عامي 2008 و2009، ويمكن القول أنه تم فرض التقشف على نحو سيئ على أعضاء الاتحاد الجنوبي، وبالترافق مع أزمة الهجرة، شجع ذلك على تشكل حركات شعبية معادية للاتحاد الأوروبي. ثم كان التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد نهائياً.
ويعود الفضل الذي لا يستهان به إلى ألمانيا في إبقاء الاتحاد الأوروبي متماسكاً إلى حد كبير وسط كل ما جرى. وبقيادة المستشارة أنجيلا ميركل، كانت ألمانيا في بعض الأحيان مستعدة لتحمل عبء غير متكافئ من تكاليف إدارة الأزمات. ولقد نفذت ما وصفه الاقتصادي تشارلز كيندلبيرغر يوماً بعبارته الشهيرة "الرشوة ولي الذراع" وهما لازمان للحفاظ على صمود التحالفات مثل الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أنها لم تكن قادرة دائماً على حشد الدعم بين الدول الأعضاء الأخرى بسبب موقفها (من أزمة اللاجئين على سبيل المثال)، إلا أنها كانت إلى حد معين الدولة "المهيمنة" في أوروبا، والهيمنة مصطلح يوناني قديم يميز العضو المسيطر في التحالف أو الاتحاد.
لسوء الحظ، فإنّ هذا الدور الذي وجدت ألمانيا نفسها مضطرة إلى تحمله بمفردها غير قابل للاستمرار، وهذا ما ذكرته في كتابي الذي نُشر مؤخراً. وباعتبارها "الأولى بين نظائرها"، تفتقر ألمانيا إلى الحضور المسيطر أو إلى حجم المزايا الذي يرافق عادة سياق العلاقات المهيمنة. وقد عانت فرنسا، شريك ألمانيا التقليدي في قيادة الاتحاد الأوروبي، من مشكلاتها الاقتصادية الخاصة منذ عام 2008، وتموضعت في الصفوف الخلفية في قيادة سياسة الاتحاد الأوروبي. وحتى قبل التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عملت بريطانيا، ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد، على النأي بنفسها عن الحلقة الداخلية للاتحاد الأوروبي من خلال البقاء خارج منطقة اليورو وخارج منطقة السفر دون حدود والمعروفة باسم منطقة شنغن.
والأكثر من ذلك، فإنّ إحجام ألمانيا عن الحد من معاناة الدول الأعضاء التي تعاني من ضائقة اقتصادية أدى إلى تفاقم أزمة منطقة اليورو عوضاً عن التخفيف منها، والتي كان يديرها في النهاية البنك المركزي الأوروبي وليس ألمانيا. كما وأدى إخفاق ألمانيا في التشاور فيما يتعلق بسياسة الهجرة إلى سعي عدد من الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي إلى مقاومة الدعوة إلى اتبّاع موقفها خلال أزمة اللاجئين. وإجمالاً، لا يمكنها إخضاع مطالبها الخاصة على حساب مطالب المجموعة بالقدر اللازم لإحداث حالة من الهيمنة وذلك من أجل الحفاظ على تحالفات شركائها.
وهذا يعني أنه إذا أراد الاتحاد الأوروبي النجاة من بداية أزمة جديدة (أو اندلاع أزمة حالية)، فإنه بحاجة إلى قيادة أقوى وأكثر شمولية مما توفره ألمانيا بمفردها. ونظراً إلى غياب وجود دولة أوروبية واحدة كبيرة بما يكفي لتولي دور الدولة المهيمنة منفردة، فمن الوارد أن تكون دولتان أو أكثر بحاجة إلى التكتل معاً لتشكيل ائتلاف مهيمن. وهنا ثلاثة خيارات يمكن أخذها بعين الاعتبار:
إحياء ائتلاف فرانكو ألماني
إنّ إحياء كوكبة القيادة التقليدية للاتحاد الأوروبي هو أمر ممكن سياسياً نظراً لانتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا في عام 2017 وعودة الائتلاف الكبير للأحزاب السياسية الألمانية في عام 2018. ويمكن للتعاون الفرانكو ألماني أن يبقى هو القوة المغناطيسية القوية في الاتحاد الأوروبي، ويمكن أن يوفر الاتفاق الثنائي، الفرانكو الألماني، نموذجاً لاتفاق اتحادي أكبر. لكن في هذه المرة، من المحتمل أن تنقلب الأدوار التقليدية، حيث إنّ باريس تتطلع إلى تسريع عجلة التغيير، بينما تسعى ألمانيا إلى إبطائها، خاصة ضمن تلك المبادرات التي تهدف إلى رفع حجم التحويلات المالية بين الدول الأعضاء في منطقة اليورو.
ائتلاف فايمار
وبينما يبدو الائتلاف الفرانكو ألماني المتجدد واضحاً، قد لا يكون له تأثير على حشد الدول الأعضاء في وسط وشرق أوروبا، وذلك نظراً للفجوة الكبيرة بين رؤيته الخاصة ورؤية الحكومتين البولندية والهنغارية على وجه التحديد. إنّ إقامة ائتلاف موسع يضم بولندا، الشريك الاسمي لفرنسا وألمانيا في "لقاء فايمار الثلاثي" الذي أسس بعد نهاية الحرب الباردة، قد يكون له شرعية أكبر. ولكن طالما يتولى حزب القانون والعدالة المحافظ والمناوئ للاتحاد الأوروبي الحكم في بولندا، فإنّ هذا الائتلاف لن يُبصر النور.
ائتلاف الهانزية الجديدة
لقد سمي الائتلاف الثالث المحتمل بعد رابطة القرون الوسطى للمدن التجارية الممتدة من هولندا في الغرب إلى بحر البلطيق في الشرق. وقد يضم هذا الائتلاف ألمانيا والدول الأعضاء الثماني في شمال أوروبا والتي بدأ وزراء مالية هذه الدول في عقد اجتماعات في أوائل عام 2018 من أجل مناقشة إجراء إصلاحات في منطقة اليورو. وفيما يخص السياسات النقدية والمالية وميزانية الاتحاد الأوروبي، فإنّ هذه الدول أقرب إلى ألمانيا من قرب ألمانيا إلى فرنسا. ومع ذلك، بالنظر إلى مواقعهم الجغرافية والأيديولوجية، فمن غير المحتمل أن يتمكنوا من دمج وحشد دعم أعضاء جنوب ووسط وشرق أوروبا، ومن غير المحتمل أيضاً أن تحد ألمانيا علاقتها مع فرنسا لصالحهم.
مستقبل غامض
مهما كان شكل الائتلاف، فإنّ أي ائتلاف جديد مهيمن سيواجه مهمة غير مستقرة. وقد تبلور الاتجاه القومي المناوئ للاتحاد الأوروبي إلى قوة سياسية رئيسة؛ والذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي واشتد زخمه خلال أزمة اللاجئين الأخيرة وسط معارضة عامة للاندماج الجماهيري والمخاوف قديمة العهد حول إضعاف الهوية الوطنية والعولمة.
في مختلف أنحاء أوروبا، حققت الأحزاب القومية الرافضة لتوحيد الدول الأوروبية مكاسب انتخابية هامة، وقد تولت السلطة في بعض الحالات، وأصبحت الصوت الرئيس المسموع للمعارضة في حالات أخرى، ما أجبر قادة الوسط على تكييف سياساتهم لاستعادة أصوات المحافظين. وعلى الرغم من استمرار وجود مقاومة قوية لأحزاب اليمين المتطرف، كما اتضح من خلال نصر ماكرون، إلا أنّ التأييد لحزب الجبهة الوطنية اليمينية في فرنسا هو أشد من أي وقت مضى. وإذا فشل الرئيس ماكرون في تحقيق ما يسعى إليه من خلال جهوده المبذولة في إصلاح الاقتصاد الفرنسي وإنعاشه، فقد يكون اليمين المتطرف في موقع جيد للاستفادة من ذلك الفشل.
والوضع في ألمانيا مماثل، فقد أصبح الحزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) في العام الماضي أول حزب يميني متطرف يفوز بمقاعد في البرلمان الفيدرالي الألماني منذ عام 1953. وبعد أن حصد 12.6% من نسبة الأصوات، أصبح الآن أكبر حزب معارض في البلاد يضغط على أحزاب اليمين المعتدلة لتأييد الآراء الرافضة للاتحاد الأوروبي.
إنّ أوروبا بحاجة إلى بطل جديد، ولاسيما في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن دون دعم قوي من قيادة مهيمنة وسائدة سياسياً أو ائتلاف مهيمن، فإنّ خطر انهيار الاتحاد في ظل الأزمات الجديدة هو أمر حقيقي للغاية، ولم نعد نملك الكثير من الوقت لإحلال الاستقرار في قيادة مهيمنة. في الوقت الحالي، هناك فرصة تمتد من سنتين إلى أربع سنوات، على الأكثر، قبل الانتخابات الفرنسية والألمانية المقبلة. فإذا لم ينتهز القادة الحاليون لهذه الدول الفرصة لتوحيد أوروبا أكثر، فإنّ الأزمة الكبيرة القادمة قد تكون مؤشراً إلى بداية النهاية للمشروع الذي مضى عليه 70 عاماً والذي حافظ على السلام في أوروبا الغربية، وعزز الديموقراطية فيها، وساعدها على تحقيق النمو والازدهار من خلال إبقاء اقتصادات ومجتمعات الدول الأوروبية مفتوحة على بعضها البعض.