إن أعظم ما يُميّز الحياة المهنية في القرن الحادي والعشرين هي قدرتك على تقرير ما تريد فعله، فإذا كنت لا تحب وظيفتك، يمكنك تغييرها، وبينما يُعتبر هذا أمراً تحررياً إلى حد كبير، إلا أنه مخيف ومربك بسبب عدم معرفة إجابة السؤال المتكرر: كيف أترك وظيفتي لمتابعة حلمي بطريقة صحيحة؟ وذلك لأن التعقيد في المشهد الوظيفي اليوم هائل. وتتطلب إدارة حياتك المهنية التعامل مع الغموض وعدم اليقين وتعلّم بعض المهارات الأساسية حيال الانتقال من مجال لآخر. وبعد سنوات من البحث وتدريب الأشخاص على التحولات المهنية، إليك ما أوصي به:
كيف أترك وظيفتي لمتابعة حلمي
اتبع ما يثير شغفك واهتمامك
هذا هو الجزء الأكثر أهمية في استراتيجيتك، لأن الشغف والاهتمام هما البوصلة في حياتك المهنية، مثلما كان نجم الشمال للبحارة في الماضي. عليك الانتباه إلى ما يشغلك ويثيرك، وما الذي يبرز حالة التحدي فيك، وما يحفز عقلك ويوجهك نحو المهام والمواقف التي تُمكنك من التفوّق حتى على نفسك. هذا هو المكان الذي ستطلق فيه العنان لقدراتك.
لنأخذ حالة نوح تانن، الذي اعتاد أن يعمل مؤلفاً ومخرجاً إبداعياً في إحدى شركات الإعلان والتصميم. بمرور الوقت، شعر بالملل وعدم الرضا عن وظيفته، الأمر الذي جعل إبداعه أقل مما كان متوقعاً من وظيفة تحمل كلمة "إبداع" في مسماها الوظيفي. وفي إحدى الأمسيات، وأثناء محادثة بينه وبين صديق ومخطط حسابات ذي خبرة وخبير استراتيجي، سأله السؤال الذي أدى إلى إعادة النظر في سيرته المهنية بالكامل: ما هو مخطِّط الحسابات؟ وأجاب صديقه أنه يتعلق بفهم الجمهور، ومن هم، وماذا يهمهم وإجراء الأبحاث، ثم تقديمها بشكل موجز للفريق الإبداعي بغرض توضيح الإستراتيجية الأساسية الواجب عليهم استخدامها في تصميم الحملة الإعلانية. يقول نوح "بعد هذه المحادثة، كنت متحمساً جداً لدرجة أنني لم أستطع النوم".
أو لننظر في حالة كريس أندرسون، الذي كان مرهَقاً من عمله أستاذاً للعلوم السياسية، عندما أعطته زوجته نسخة من كتاب "موني بول" Moneyball. لقد كان مفتوناً باستخدام مؤلف الكتاب للإحصاءات في بناء فريق بيسبول فائز عبر تحديده لاعبين يتمتعون بإمكانات عالية تغفل عنهم الفرق الأخرى. وبصفته عالم اجتماع كمِّي قد لعب كرة قدم شبه احترافية في بلده الأصلي ألمانيا، جمعت الأفكار الواردة في الكتاب بين اهتمامين رئيسين له. كان كريس مفتوناً بفكرة تطبيق الأساليب التحليلية على كرة القدم.
زد من معرفتك بالعمل عبر البحث والتواصل
عندما أخبر نوح رؤساءه أنه يريد القيام بوظيفة مخطط حسابات، قالوا إن عليه تعلُّم ذلك بنفسه. بدأ بالاجتماع مع كل مخطِّط حسابات أو خبير استراتيجي يمكنه العثور عليه لنهل المعرفة منه. يقول "كان ذلك مفيداً بشكل لا يُصدَّق، وأصبح هؤلاء الأشخاص شبكة مهنية قيِّمة". وبناءً على نصيحة الصديق الذي جعله يسلك هذا المسار المهني، ارتاد أيضاً أحد المؤتمرات. يُضيف: "كان المؤتمر ملهماً تماماً كما كان حديثي الأول معه، وما زلت أستخدم بعض التقنيات التي تعلمتها هناك".
أما كريس، فأطلق مدونة لاستكشاف أفكاره حول تحليلات كرة القدم وتطويرها. كان يستمتع بالكتابة وسرعان ما بات لديه قرّاء. بدأ أشخاص من أندية كرة القدم البريطانية في الاتصال به لطرح الأسئلة، ومدفوعاً برغبته في الرد، بدأ يتحدث مع صديق حول تأليف كتاب عن الموضوع. عندما سأل صديقه عن سبب رغبته في تأليف كتاب، أجاب كريس: حلمي هو إدارة نادٍ حقيقي، لكنك لن تترك وظيفة أكاديمية ثابتة للقيام بذلك، أليس كذلك؟ وفي نهاية المطاف، فعلها.
جرِّب العمل عبر إدارة مشروع أو تقديم الاستشارات
كان التحدي الأول الذي واجهه نوح هو إقناع زملائه في العمل أنه مخطّط حسابات الآن، على الرغم من أنه لا يزال اسمياً مؤلف إعلانات/ مخرج إبداعي. يقول نوح: تعلمت صياغة أفكاري لشرح عمليتي البحث والتفكير ليفهم زملائي سبب توصيتي لاتباع مسار عمل محدد. واتفق بعض مدراء الحسابات على العمل مع نوح، وقد تمكنوا معاً من بيع بعض المشاريع لعملاء. يقول "كانت الإدارة، في حالة المشاريع الأكبر تجلب مختصين مستقلين من الخارج من وقت لآخر لكي أجلس معهم وأحصل على التوجيه منهم، وكان ذلك قيِّماً للغاية. أتذكر بشكل خاص معاناتي ذات يوم وسماعي لنصيحة من مختص تقول "عليك محاولة تفريغ هذا كله على الورق، وإخراج تلك الأصوات كلها من رأسك). وبدأت في كتابة قصاصات عشوائية تحوي أفكاراً، لينتهي المطاف بي لتكوين استراتيجية. لم أكن أعرف أنني تعلمت ما يكفي للخروج بتلك الاستراتيجية، لكن مَن نصحني كان قادراً عل رؤية ذلك".
كان كريس، ومَن شاركه في تأليف الكتاب، ديفيد سالي، يتعلمان الكثير عن تحليلات كرة القدم. ثم قررا إطلاق شركة استشارية لتقديم خدماتهما للفرق والمستثمرين الذين يتطلعون إلى الاستحواذ على أندية كرة قدم. ومنَحَه حصوله على إجازة من التدريس فرصة قضاء بعض الوقت في لندن، وهي عاصمة كرة القدم الاحترافية، في الفترة التي سبقت إصداره للكتاب، وكشفت أبحاثهما خلال مرحلة تأليف الكتاب أن عادات اتخاذ القرار في أندية كرة القدم غالباً ما تكون دون المستوى الأمثل، فقد كان السوق يحتاج إلى الأساليب التحليلية التي عرضها مع شريكه. يضيف كريس "كانت فترة تقديم المشورات رائعة للتعرف على الصناعة وما تضم من دون تحمل الالتزام الناتج عن توليك منصباً فيها، يمكنك أن تنهل المعلومات التي تريدها من دون تبعات. ولكن بعد ذلك وصلتُ إلى نقطة أردت فيها دخول المجال فعلاً، وليس فقط تقديم المشورة".
ابحث عن وظيفة تتيح لك القيام بعمل مثير، أو أنشئها
لم تقم شركة نوح بتعيينه أبداً في وظيفة تخطيط حساب بدوام كامل، لقد اعتقد أنه إذا كان سيتعين عليه اعتماد ذلك المسار المهني، فربما يكون من الأفضل له أن يعمل لحسابه الخاص، ويرى إن كان في إمكانه النجاح في مجال التخطيط للحسابات. يضيف، "استقلتُ في ديسمبر/ كانون الأول 2008، وبفضل شبكة مخطِّطي الحسابات التي بنيتها، عملت لحسابي الخاص مدة 35 ساعة في الأسبوع في شركة عالمية بحلول شهر فبراير/شباط (حتى في ظل الركود الاقتصادي). بعد القيام بذلك لمدة ثمانية أشهر تقريباً، علمتُ أن هناك العديد من أنواع الوظائف الاستراتيجية المختلفة، وأن الوظيفة التي أردتها كانت نادرة، وليست تلك التي حصلتُ عليها. لذلك أطلقتُ شركة للترويج للعلامات التجارية تحت اسم "روبرت" Rupert، حيث أضع معظم الاستراتيجية وتخطيط الحسابات".
كانت فكرة كريس الأصلية العمل مع المستثمرين الذين سيشترون النادي، ثم يقوم هو بإدارته، وهذا لم يحدث، إلا أن نادي "كوفنتري سيتي" Coventry City Football Club لكرة القدم تعامل مع كريس كمستشار، وعرض عليه في نهاية المطاف وظيفة نائب الرئيس التنفيذي والمدير الإداري. يدير كريس الآن عمليات النادي اليومية. إنها نقلة نوعية في حياته، تماماً كما حصل مع الفريق المميز في كتاب "موني بول" Moneyball.
استمر في التعلم من أجل معرفة إجابة سؤال كيف أترك وظيفتي لمتابعة حلمي
إدارة حياتك المهنية هو عمل لا يتوقف أبداً. يقوم نوح حالياً بتدريب نفسه ليكون مدير حسابات "إنه دور جديد بالنسبة لي، لكنني أحتاج لأن أكون أفضل في ذلك، لكي تستمر الشركة في النمو. اتصلتُ اليوم بصديقة لتلقي نصيحتها بشأن عميل صعب. في الأسبوع الماضي، تحدثتُ مع صديق في مبيعات التكنولوجيا لأتعلم كيف يدير علاقاته مع عملائه".
تُمثل استراتيجيات طرح الأسئلة والاستماع والحضور لكريس الاستراتيجيات الرئيسة لديه للتعلم. يضيف "إن الأكاديميين غير معتادين على الإصغاء، نظراً لأنهم اعتادوا على إعطاء الإجابات، أتعلم فقط عندما أسكت واستمع، أحاول أن أفهم كل جانب من جوانب ما نقوم به، وأحاول أن أكون حاضراً في كل جزء منه، أتجول وأفكر، وأطلب أن تُرسل لي نسخة من المحادثات إلى بريدي الإلكتروني لأتمكن من رؤية كل ما يجري في العمل. لقد كان ذلك مفيداً جداً لي، ثم يجب أن أطرح الأسئلة، لأن هناك أوقاتاً كثيرة لا أفهم ما يحدث فيها".
وفي نهاية الإجابة عن سؤال كيف أترك وظيفتي لمتابعة حلمي بطريقة صحيحة، لا يتطلب إنشاء مهنة مُرضية خطة كبيرة، كما توضح هذه الأمثلة، بل هي عملية متطورة باستمرار: اتبع اهتماماتك وأبحاثك وشبكتك، وجرب العمل بطريقة منخفضة المخاطر، وابحث عن وظيفة تُثير شغفك. ويتلخص نهج كريس في فعل ما يستمتع به. "أقول لنفسي: هذا ممتع، يمكنني القيام بذلك، سأكون بخير، أستمتع بالقيام بذلك، دعنا نرى ما مستقبل هذا". وبمجرد أن تعرف ما يُثير حماسك، ستخصص له الوقت الكافي، وبمجرد أن تخصص له الوقت الكافي، ستصبح بارعاً فيه، وبمجرد أن تصبح بارعاً فيه، سيدفع لك شخص ما مقابل القيام بذلك". يوافق نوح على ما سبق، مع تحذير واحد "إذا كان ما تقدمه قيّماً، ستكون هناك وظيفة لك، ولكن أحياناً قد يتوجب عليك استحداثها بنفسك".
اقرأ أيضاً: