قصة تأسيس أول شركة ناشئة عربية مليارية تخصصت في تمويل ذوي الدخل المحدود

6 دقيقة
إم إن تي حالاً

لطالما حلمت بإنشاء مشروع يجمع أمرين قلّما اجتمعا في المشاريع السائدة من حولي: الأول أن يكون المشروع مربحاً والثاني أن يُقدم خدمة اجتماعية وحلولاً لمشاكل تعيشها مجتمعاتنا النامية. كانت التكنولوجيا المالية، وتحديداً تمويل المشاريع المتناهية الصغر، هي المفتاح الذي وجدته لتحقيق هذا الحلم. حينما كنت طالباً أدرس علم الاجتماع في عام 2003، أجريت بحثاً عن أثر التمويل المتناهي الصغر على المقترضين في مصر، وحينها قررت أن هذه هي الخدمة التي سأقدمها للمجتمع، لأخوض بعدها عدة تجارب بداية من "مشروعي" و"تساهيل" و"رصيدي" إلى أن وصلتُ إلى شركة إم إن تي حالاً (MNT-Halan) التي باتت واحدة من أهم المؤسسات التمويلية في مصر والمنطقة برُمتها.

ولادة الإلهام

في عام 2017، دعاني أحد كبار المستثمرين إلى إندونيسيا لزيارة شركة غوجِك (Gojek)، وهي منصة تكنولوجية متعددة الخدمات بحسب الطلب، وحينها أبهرتني الشركة والخدمات التي تقدمها للمواطن البسيط، ونموها السريع في تقديم خدمات متنوعة، من نقل الأفراد إلى توصيل الطعام إلى المدفوعات الرقمية. في هذه الرحلة، التي اعتبرُها شرارة انطلاق حالاً، قابلت العديد من المستثمرين، وكانت "التكنولوجيا" دائماً العامل المشترك وكلمة السر في نجاح مشاريعهم؛ حينها أدركت أننا في وسط ثورة تكنولوجية حقيقية.

خلال رحلة العودة من إندونيسيا إلى مصر، أتذكّر أن كل ما شغل تفكيري على متن الطائرة هو ضرورة العثور على شريك خبير في التكنولوجيا، ليكمّلني في الوقت الذي لم أكن خبيراً بها، حتى وجدت ضالتي في شريكي أحمد محسن، الذي اقتنع بالفكرة وآمن بها معي، لتنطلق هنا شركة حالاً.

دشنّا شركة جديدة، تخصصت في قطاع النقل التشاركي (Ride-Hailing)، وإن كانت رؤيتنا حينها أن الشركة لن تتوقف عند هذا القطاع، إذ حلمنا بتطبيق متكامل يقدم تشكيلة واسعة من الخدمات. حققت الشركة نجاحاً في قطاع النقل وبنت قاعدة عملاء بالملايين، ثم توسعنا في خدمات مثل التجارة الإلكترونية، التي لاقت نجاحاً سريعاً أيضاً، حتى اقترحنا بيع المنتجات بالتقسيط بدلاً من الدفع الفوري، ونجحت الفكرة، إذ وجدت تكاملاً بين شركة تمويلي التي بدأتها في عام 2010، وقاعدة العملاء التي بنتها شركة حالاً خلال رحلتها في قطاع النقل.

يوم لن تنساه الشركة

في فترة كانت فيها الشركة تُحقق نجاحاً باهراً في قطاعي النقل والتجارة الإلكترونية، وتحديداً في أغسطس/آب 2019، اتخذتُ قراراً بتغيير القطاع تماماً والتوجه نحو التكنولوجيا المالية. واجهنا معارضة من الكثيرين من داخل الشركة وخارجها، ولا سيّما أن الشركة كانت تحقق أرباحاً وتتمتع بقاعدة عملاء كبيرة، وتلقينا نصائح باتباع النهج السائد حينها وهو الإنفاق أكثر لتحقيق نمو أكبر، غير أنني قرأت السوق مبكراً، وعرفت أن الاستمرار في هذا النهج سيضعنا في مشكلة كبيرة. فقد وجدت أنا وفريقي أن الثغرة الأساسية التي تحتاج إلى الملء هي نسبة المصريين الذين لا يحصلون على الخدمات المصرفية والمالية اللازمة بسبب عدم امتلاكهم حسابات بنكية، إذ بلغ عددهم نحو 20 مليون مصري من إجمالي 66.4 مليون بالغ (16 سنة وأكبر) بنهاية عام 2023. وهو الأمر الذي أدى إلى تحويل نموذج عملنا في حالاً للانتقال من حل أحد أعراض المشكلة وهو النقل التشاركي عبر طرق دفع ميسرة إلى الإسهام في حل المشكلة الرئيسية التي هي عدم توافر الشمول المالي لنسبة كبيرة من المواطنين البالغين.

ارتفع نطاق الشمول المالي حالياً ارتفاعاً ملحوظاً مقارنة بالوقت الذي فكرت فيه إنشاء الشركة، ذلك أن الحكومة المصرية خطت خلال السنوات المنصرمة خطوات كبيرة في هذا المجال عزّزت الشمول المالي بمعدل نمو إجمالي قدره 174% خلال الفترة من 2016 إلى 2023. في عام 2021 على سبيل المثال، بلغ نسبة المصريين الذين لا يحصلون على الخدمات المصرفية  نحو 30 مليون مصري بالغ، أي كان هناك 30 مليون مصري لا يملكون الحق في حفظ أموالهم وإدارتها بشكل آمن، ما قد يعرضهم للسرقة والاحتيال، أو يحرمهم حق تقسيط مشترياتهم أو طلب تمويل مشروعاتهم الصغيرة، ويواجهون صعوبة في تلقي مدفوعاتهم سواء فيما يتعلق بالأجور أو حتى تحويلات الأقارب والأهل إلى جانب الحرمان من بعض المزايا الحكومية، مثل مدفوعات الضمان الاجتماعي أو استرداد الضرائب وغيرها.

كان التحدي في أثناء إنشاء حالاً للتكنولوجيا المالية هو تأسيس برمجيات البنك الأساسية (Core Banking Software)، وبالفعل عكف الفريق خمسة عشر شهراً لبناء هذه التكنولوجيا، لنستيقظ في يوم 1 يناير/كانون الثاني عام 2021، وهو يوم لن تنساه الشركة، بتطبيق جديد ونظام جديد وخدمة جديدة.

كان الأمر مخاطرة كبيرة، فيكفي أن تعرف أن البنوك حينما تُجري مجرد تحديث لأنظمتها القائمة، قد تؤدي العملية إلى تعطُّل بعض الخدمات، لكن نحن أطلقنا نظاماً جديداً تماماً للعملاء في هذا اليوم. فعلنا ذلك، ونحن موقنون بحجم المخاطرة وحجم الإرهاق اللذين ينطوي عليهما الأمر، ولكن نوقن في الوقت نفسه أنه السبيل الوحيد لتحقيق رؤيتنا.

انطلقنا ببنية تحتية قوية تسمح بخدمة ملايين العملاء في وقت واحد مع توفير أمن سيبراني عالي الجودة، وخدمات مرنة ومخصصة، إذ نؤمن بأن أساس النجاح هو ابتكار منتج تمويلي مخصص ليلائم احتياجات الأفراد المتنوعة، وهكذا غيّرنا الحمض النووي لشركة حالاً، لتصبح الآن واحدة من أكبر شركات التمويل المتناهي الصغر (Microfinance).

كيف أسهمت حالاً في تسهيل حياة المواطن؟

يتعدى سكان مصر 110 ملايين نسمة، وتبلغ نسبة الفقر بينهم وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء نحو 29.7%، مع مساحة زراعية إجمالية تُقدر بنحو 9.7 ملايين فدان، يعمل بها نحو 5.4 ملايين عامل مصري، لذلك كانت فكرة تسهيل التمويلات للمواطن البسيط واعدة في السوق المصرية، واستطاعت جذب عدد كبير من العملاء في فترة بسيطة، إذ ساعدت حالاً نحو 3.5 ملايين عميل في تسهيل معيشتهم سواء بمشاريع صغيرة أو بقروض استهلاكية، واختصرت عليهم عمليات كانت لتأخذ أياماً وزيارات ذهاباً وعودة إلى البنوك، إضافة إلى ذلك، جعلت التمويل في متناول كل شخص حرفياً بغض النظر عن قدرته الشرائية. فعلى سبيل المثال، حينما يرغب مزارع في الحصول على تمويل لزيادة عدد أبقاره أو تحسين تغذيتهم، يتطلب ذلك بالطريقة التقليدية فتح حساب بنكي، ما يستدعي الذهاب إلى أقرب فرع للبنك الذي ليس بالضرورة أن يكون في قريته، إلى جانب شعوره غالباً بعدم الألفة داخل أروقة البنك "الرسمية"، والإجراءات المعقدة التي ربما يصعب على مواطن بسيط فهمها. ما فعله تطبيق حالاً، أنه اختصر كل ذلك في خطوات بسيطة، فأي مواطن يحمل هوية شخصية يستطيع التسجيل على التطبيق، ومن ثم اختيار نوع القرض سواء كان قرضاً استهلاكياً أو قرضاً لتمويل مشروع. وتتميز الإجراءات بالسرعة والمرونة، فمثلاً لدينا منتج تمويلي من صنف "موافقة آنية"، استفاد منه نحو 30 ألف عميل، إذ يُوَافَق على القرض بمجرد تقديم الطلب عليه.

شارك تطبيق حالاً في ملايين من قصص النجاح، إذ قدم قروضاً تجاوزت قيمتها ملياري دولار، مثل إحدى السيدات كانت لها عربة لبيع الخضروات، واستطاعت "تنويع منتجاتها" وتوسيع نشاطها ليشمل الفاكهة، وشخص آخر كان يمتلك محلاً صغيراً لبيع المواد الغذائية بات لديه 4 محال بفضل حالاً، ومزارع كانت لديه بقرة واحدة والآن يملك مجموعة من الأبقار ضمن مزرعته ويستغلها في التجارة، ومن القصص الجميلة أيضاً أننا استطعنا المساعدة في توفير مصاريف الأعراس للكثير من الشباب، وحتى إن بعض العرائس اعتمدن على تطبيق حالاً لشراء "جهاز العُرس".

رحلة خروج منتج تمويلي 

لا نتوقف عن إطلاق المنتجات وفقاً لحاجة السوق، إذ بمجرد أن نلمس الحاجة إلى خدمة معينة في السوق، يتولى الفريق التقني المسؤولية ليصمم منتجاً بناءً على تجربة المستخدم، حيث نُطلق المنتج داخلياً أولاً، ثم يُطلق لـ 20% من المستخدمين، ونتلقى التعليقات والتقييمات، وإذا سار كل شيء على نحو صحيح، نطلق المنتج النهائي لعموم العملاء. فعلى سبيل المثال، واحدة من أكثر المشاكل التي تواجه المواطن في مصر الآن، رغبته في الادخار وفي الوقت نفسه خوفه من أن يُفقده التضخم قيمة مدخراته، إذ عانى المواطن المصري مؤخراً بسبب تعويم الجنيه المصري نحو 4 مرات في السنوات الثلاث الأخيرة، ما جعل قيمة مدخرات المواطن في تناقص مستمر أمام ارتفاع أسعار السلع والخدمات. فشرع المصريون في البحث عن تجميد مدخراتهم في أصول مثل الذهب لحفظ قيمتها، غير أنه يحتاج إلى مبلغ كبير دُفعة واحدة، لذلك، أتحنا عبر التطبيق خيار شراء الذهب، كما وفرنا برنامج التأمين على الحياة وسط برامجنا التمويلية؛ أي دون حاجة العميل إلى دفع رسوم التأمين. كما ستطلق قريباً خدمة "الجمعية"، وهي نظام قائم على الادخار التشاركي، إذ يدفع عدة أشخاص مبلغاً محدداً شهرياً (أو أسبوعياً بحسب رغبة المتشاركين)، على أن يحصل كل مشارك على مجموع ما تم تحصيله مرة واحدة، وفق ترتيب يتفق عليه المشاركون، دون أي نوع من أنواع الفوائد أو الأرباح (مثلاً يشارك 10 أشخاص بدفع 100 دولار كل شهر، فيحصل "س" على 1,000 دولار في الشهر الأول، ويحصل "ص" على مبلغ مماثل في الشهر الثاني، وهكذا حتى يكتمل عددهم فتنتهي الجمعية). نتعاون أيضاً في حالاً الآن مع شركة نوكيا، لتوزيع هواتف ذكية بالتقسيط، بحيث إذا لم يسدد العميل القسط الشهري، يغلق الهاتف آلياً، لتصبح أسهل طريقة لامتلاك هاتف بأربعة دولارات شهرياً.

لا نخشى التخلف عن السداد

هناك مخاوف دائماً في مجال الإقراض بشأن التخلف عن السداد، لكني شخصياً، أؤمن بأن طبيعة البشر تميل إلى الأمانة؛ أي أن العملاء لديهم الرغبة في السداد، والرغبة هنا أهم بالنسبة لي من القدرة، فما دامت الرغبة موجودة، ستأتي القدرة عاجلاً أو آجلاً، لذلك نتبع نظام الحافز الإيجابي بدلاً من الترهيب حتى نشجع العميل على سداد الأقساط بانتظام، فبدلاً من التهديد بعواقب عدم السداد، نتبع الطريقة التي ثبت أنها الأكثر فعالية في دفع العملاء لسداد الأقساط وجعلهم أكثراً ولاءً وارتباطاً بالشركة، وهي الحوافز الإيجابية، فعلى سبيل المثال نخبر العملاء بأن سداد القرض في موعده يؤهلهم للحصول على نقاط مكافآت أو خصومات أو زيادة في حجم القرض لاحقاً، إلى جانب اتباع طرق التذكير المعتادة عبر إشعارات التطبيق ورسائل التذكير.

استطعنا خلال فترة قصيرة أن نصبح لاعباً أساسياً في قطاع التكنولوجيا المالية بمصر، عبر امتلاك رؤية واضحة مفادها تقديم خدمات مالية متكاملة للعميل البسيط، وثقافة عمل مرنة تعتمد على العمل الجماعي وتقديم الدعم وعدم إلقاء اللوم، لتمتلك حالاً الآن محفظة خدمات مصرفية تفوق ما يُقدمه ثلاثة أرباع بنوك مصر.

ومؤخراً، نسعى إلى التوسع واختراق أسواق جديدة وتقديم خدماتنا إلى دول أخرى في قارة إفريقيا، وتحديداً الدول التي يوجد بها عدد كبير من السكان الذين لا يملكون حسابات مصرفية ولكنهم يحتاجون إلى خدمات التمويل المصغرة؛ أي الدول القريبة من مصر اجتماعياً واقتصادياً، إضافة إلى خطتنا للتوسع أيضاً في الدول التي يكثر فيها المغتربون المصريون الذين يحوّلون أموالهم بصورة منتظمة إلى مصر.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .