إن التوصل لطريقة من أجل حث مزيد من المواطنين على تلقي لقاح الإنفلونزا السنوي هي مشكلة مستعصية في الولايات المتحدة: فمنذ عام 2010، لم ترتفع نسبة الأميركيين البالغين الذين يتلقون تطعيماً ضد الإنفلونزا عن 46%، بل وانخفضت خلال تلك الفترة إلى 37% في عام 2017. تُقدر التكاليف الطبية المباشرة الناجمة عن الإنفلونزا بعشرات المليارات من الدولارات كل عام، بينما ترتفع التكاليف الاجتماعية أكثر من هذا بسبب خسارة ملايين الساعات من العمل ومليارات الدولارات من الإيرادات.
حققت معظم الإجراءات التدخلية التي استهدفت أفكار المرضى ومشاعرهم نجاحاً كبيراً. إلا أن المرضى ليسوا الحل الوحيد لزيادة معدلات التطعيم، فمقدمو الرعاية الصحية لهم تأثير ملحوظ على سلوك المرضى: حيث أثبتت إحدى الدراسات أن 99% من المرضى يقبلون تلقي لقاح الإنفلونزا عقب توصية الطبيب. لكن كيف يمكن تحفيز الأطباء المشغولين لتطعيم المزيد من مرضاهم؟ للإجابة عن هذا السؤال، أجرينا تجربة عشوائية محكومة لمعرفة ما إن كان تقديم المحفزات المالية أم خلق مناخ من المنافسة عن طريق إبلاغ العيادات بتصنيف أدائها مقارنةً بالعيادات الأخرى، كان له الأثر الأكبر. وكانت المفاجأة أننا اكتشفنا أن الاستراتيجية الثانية هي الأكثر فاعلية.
لتنفيذ التجربة، تعاونا مع شركة "فاكسكير" (VaxCare) التكنولوجية التي تهدف إلى "تحسين تجربة التطعيم" عن طريق العمل مع مراكز الرعاية الصحية لتنسيق الخدمات اللوجستية للتطعيم. قسمنا عشوائياً 145 مركز رعاية صحية موزعاً عبر تسع ولايات أميركية مختلفة إلى ثلاث مجموعات. تلقت مراكز المجموعة الأولى محفزات مالية لزيادة عدد تطعيمات الإنفلونزا المعطاة مقارنةً بالعام الماضي: حيث تقاضت مبالغ إضافية عن جميع اللقاحات المعطاة إذا حققت معدل الزيادة المستهدف. وتم تقييم مراكز المجموعة الثانية على نفس الأساس، فيما عدا أنها أُبلغت بتصنيفها هي فقط (بينما حُجبت هويات المراكز الأخرى في التصنيف). أما المجموعة الثالثة فكانت المحكومة: لم تتلق المراكز الصحية في هذه المجموعة محفزات مالية لزيادة عدد المرضى المُطعَّمين، ولا حصلت على تصنيف مقارنةً بالمراكز الأخرى.
بدأنا الدراسة في أغسطس من عام 2018. وبحلول شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، ثبت نجاح تجربتنا: فإجمالي عدد لقاحات الإنفلونزا الذي أعطته المجموعتان الأولى والثانية قد زاد بنحو 6% في المتوسط، مقارنة بإجمالي عدد اللقاحات الذي أعطته المجموعة الثالثة المحكومة. وهناك نتيجة أخرى ذات دلالة مهمة: فعدد اللقاحات الذي أعطته المراكز الطبية الحاصلة على تصنيف للأداء قد ارتفع بنحو 10%، في حين أن عدد اللقاحات الذي أعطته المراكز الطبية الحاصلة على محفزات مالية لم يرتفع أكثر من 1%.
تقدم تجربتنا بخصوص لقاحات الإنفلونزا أربعة دروس عامة لقادة مؤسسات الرعاية الصحية من أجل تحسين الصحة العامة:
1. على الرغم من فائدة المحفزات المالية في بعض الأوقات والأماكن، فكر أو استكشف ما إن كانت المحفزات غير المالية ربما أكثر فاعلية في سياق تشغيلي معين لتحقيق النتيجة المرجوة. في عالم اليوم سريع الوتيرة، غالباً ما يكون انتباهنا هو أكثر مواردنا ندرة، والمال ليس دائماً أكثر الطرق فاعلية لتركيز انتباهنا على تحقيق أهداف معينة.
2. طبّق بجدية نصيحة "بيتر دراكر" القائلة: "كل ما هو خاضع للقياس، يمكن إدارته". في حالة لقاحات الإنفلونزا، لم تكن المقاييس عالية المستوى كافية: فقد دأب مركز مكافحة الأمراض والأوبئة والوقاية منها في الولايات المتحدة على قياس الامتثال لتلقي لقاح الإنفلونزا بوجه عام على مدى سنوات دون أي أثر يُذكر. لكن حسبما أثبتت دراستنا، فإن قياس أداء الأفراد مقارنة بمجموعة من النظراء، ثم مشاركة تلك المعلومة بطريقة يمكنهم استيعابها ومن ثم استخدامها لتطوير أنفسهم، يمكن أن يكون له أثر كبير. بعبارة أخرى: اجعل الأمر شخصياً.
3. تأكد أيهما أكثر ملاءمة: مشاركة التقييم بصورة شخصية أم بصورة علنية؟ يمكن أن يكون التقييم العلني مفيداً لمشاركة أفضل الممارسات: فهو يوضح على الملأ أصحاب الأداء المرتفع، مما يتيح للآخرين اللجوء إليهم طلباً للمشورة. لكن في المواقف التي قد يهدد فيها إعلان نتائج الجميع على الملأ بإحراج الأفراد، متسبباً في عزوفهم عن المشاركة في المبادرة، فقد يكون التقييم على انفراد هو الحل الأمثل. لذا عند اختيار القادة كيفية تقديم التقييم، يجب عليهم التفكير ملياً في الديناميات المؤسسية والطريقة المثلى لتحقيق النتائج المنشودة.
4. اختر الأطراف المعنية التي ستركز عليها. قد تكون أفضل طريقة لتحقيق النتيجة المرجوة هي بالتركيز على مجموعة واحدة دون غيرها، أو التركيز على كلتيهما. قد يبدو هذا أمراً واضحاً، بيد أن معظم الجهود المبذولة لتحسين معدلات التطعيم حتى يومنا هذا كانت تركز على المرضى، وليس الأطباء - على الرغم من أن دور الأطباء يسمح لهم أن يؤثروا بقوة على مرضاهم.
تقدم دراستنا مزيداً من الأدلة على قدرة العلوم السلوكية على تحسين النتائج الصحية وتقليل التكاليف. كما توضح أيضاً الحاجة إلى اختبار الافتراضات بجدية عند تحديد المحفزات. في مجال تقييم العلاجات الطبية، لطالما كانت التجربة المحكومة العشوائية هي القاعدة الذهبية لتقييم العلاجات الطبية، لكنها لا تُستخدم غالباً لتقييم الممارسات المؤسسية في مجال الرعاية الصحية. بيد أن دراستنا تشير إلى ضرورة ذلك.