يعتبر معظمنا السيارات ذاتية القيادة وخدمات المساعدة الصوتية وغيرهما من تقنيات الذكاء الاصطناعي تقدماً ثورياً. ولكن للجيل القادم، ستكون هذه التقنيات المدهشة موجودة منذ بدء حياتهم. وستكون تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد أداة لهم، وفي كثير من الأحيان ستكون هذه التقنيات بمثابة زملائهم في العمل، وجزءاً لا يتجزأ من حياتهم. فكيف ستتحدد العلاقة بين الذكاء الاصطناعي ومستقبل الوظائف؟
الذكاء الاصطناعي ومستقبل الوظائف
إذا كان الجيل القادم سيستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة بكفاءة، من التعرف على أوجه القصور المتأصلة لديه وبناء منصات وأنظمة ذكية أفضل، فإننا بحاجة إلى إعدادهم من الآن. سيعني هذا إجراء بعض التعديلات على التعليم الابتدائي، وبعض التحسينات الأساسية التي طال انتظارها على طريقة تدريس علوم الكمبيوتر في المرحلة الثانوية.
على سبيل المثال، لننظر إلى كيفية تفاعل صغار السن حالياً مع تقنيات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الآلية الأخرى. قد تبدو الآن خدمة "سيري" (خدمة المساعد الصوتي الذكي من آبل)، كعصا سحرية، إذ يمكنك أن تقول لها "أظهري لي صوراً لنجمات شهيرات يرتدين فساتين برتقالية اللون" ثم تظهر لك هذه الصور على شاشة هاتفك الذكي في أقل من ثانية، لكنه ليس سحراً بالتأكيد. يصمم المبتكرون أنظمة الذكاء الاصطناعي من خلال تحليل أي مشكلة بدقة إلى الكثير من المشكلات الصغيرة، وتمكين حلول هذه المشكلات الصغيرة من التواصل مع بعضها. في هذا المثال، يقسِّم نظام الذكاء الاصطناعي الصوت إلى مقاطع، ثم يرسل هذه المقاطع إلى السحابة ويحللها لتحديد معناها المحتمل، ويترجم النتيجة إلى مجموعة من طلبات البحث. ثم تُفرَز ملايين النتائج الممكنة لهذه الطلبات وتُصنَّف. وبفضل قابلية التوسع في السحابة، تستغرق هذه العملية أقل من مائة جزء من الألف من الثانية فقط.
إنه ليس علماً معقداً، ولكنه يتطلب الكثير من المكونات - مثل تحليل الشكل الموجي لتفسير الصوت، وتقنيات التعلم الآلي لتعليم الآلة كيفية تمييز الفستان، والتشفير لحماية المعلومات، وما إلى ذلك. وفي حين أن العديد منها مكونات قياسية تُستخدم ويُعاد استخدامها في أي عدد من التطبيقات، فإنها ليست شيئاً يمكن للمبتكر العبقري في المرآب أن يخترعه بمفرده. يجب أن يكون الأشخاص الذين يبتكرون هذا النوع من التكنولوجيا قادرين على بناء فرق، والعمل بطريقة جماعية، واستخدام الحلول التي صممتها فرق أخرى. هذه هي المهارات التي نحتاج إلى تعليمها للجيل القادم.
ومع تولي تقنيات الذكاء الاصطناعي مسؤولية المعلومات الروتينية والمهمات اليدوية في أماكن العمل، نحتاج إلى المزيد من التركيز على الصفات التي تميز العمال البشريين عن الذكاء الاصطناعي، مثل الإبداع، والقدرة على التكيف، ومهارات التعامل مع الآخرين.
وفي المرحلة الابتدائية، يعني ذلك أننا بحاجة إلى التركيز على التمارين التي تشجع مهارة حل المشكلات، وتعلم الأطفال كيفية العمل الجماعي والتعاون. لحسن الحظ، هناك اهتمام كبير بالتعلم القائم على الاستقصاء أو التعلم القائم على المشروعات في مرحلة التعليم الابتدائي في الولايات المتحدة، على الرغم من صعوبة معرفة عدد المناطق التي تتبع هذا النهج.
أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي
يستحق موضوع الأخلاقيات المزيد من الاهتمام في جميع المراحل التعليمية. إذ تواجه تقنيات الذكاء الاصطناعي معضلات أخلاقية طوال الوقت، مثل كيفية تجنب التمييز العنصري والعرقي والجنسي عند اتخاذ القرارات الآلية، وكيفية تحقيق السيارات ذاتية القيادة للتوازن بين حياة ركابها وحياة المشاة، إلخ. نحن بحاجة إلى أشخاص ومبرمجين يمكنهم تقديم مساهمات مدروسة في عمليات صنع القرار تلك.
لسنا مهووسين بفكرة تعليم البرمجة للطلاب في المرحلة الابتدائية. لا بأس في ذلك، خاصة إذا كان الأطفال يستمتعون بالأمر، ولأن لغات البرمجة مثل سناب! (Snap!) وسكراتش (Scratch) مفيدة. لكن يمكن للأطفال تعلّم البرمجة في مرحلة لاحقة من تعليمهم. ومع ذلك، فإن فكرة أنك لست بحاجة إلى القلق على الإطلاق بشأن تعلم البرمجة هي فكرة مضللة. مع تحول العالم إلى عالم رقمي بشكل متزايد، أصبحت علوم الكمبيوتر بقدر أهمية الكتابة والرياضيات في مجالات الأدب والعلوم. وسواء قرر شخص ما أن يصبح عالماً في الكمبيوتر أم لا، فإن البرمجة ستساعده على التطور في أي مجال يختاره. ولهذا السبب نرى أنه يجب تدريس أساسيات البرمجة في الصف الدراسي التاسع.
وتدرِّس الآن نحو 40% فقط من المدارس الأميركية البرمجة، وتتباين جودة ودقة هذه الدورات على نطاق واسع. ويتزايد عدد الطلاب الذين يخضعون لاختبارات تحديد المستوى المتقدم في علوم الكمبيوتر، لكن ما زال الطلاب البالغ عددهم 58 ألف طالب الذين خضعوا لاختبار تحديد المستوى المتقدم في علوم الكمبيوتر من المستوى "أ" العام الماضي قليلين مقارنةً بالطلاب البالغ عددهم 308 آلاف طالب الذين خضعوا لاختبار تحديد المستوى المتقدم في التفاضل والتكامل. بل لا تحتسب ثلث الولايات الأميركية درجات مادة علوم الكمبيوتر في درجات التخرج.
تأتي الولايات المتحدة متأخرة خلف العديد من الدول الأخرى. حيث أحرزت المملكة المتحدة تقدماً جيداً مؤخراً بفضل برنامجها لتعليم الحوسبة في المدارس، وكذلك تقدمت كل من ألمانيا وروسيا في هذا المجال. وكانت مبادرة "علوم الكمبيوتر للجميع" -التي أعلن عنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في عام 2016 خلال إلقائه خطاب حالة الدولة- خطوة متأخرة ولكنها في الاتجاه الصحيح، إلا أنها قد تتعثر في ظل تخفيضات الميزانية المقترحة من جانب إدارة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب.
ولا تقتصر فائدة تدريس علوم الكمبيوتر في المدارس الثانوية على الطلاب فحسب، بل يمكنها أن تساعد مجال علوم الكمبيوتر من خلال تشجيع المزيد من الطلاب -ومجموعة أكثر تنوعاً من الطلاب- على التفكير في اختيار علوم الكمبيوتر مهنة لهم. ورغم شعورنا بسعادة غامرة الخريف الماضي عندما كان نحو نصف طلابنا في السنة الأولى بجامعة "كارنيغي ميلون" من الإناث، لا يزال مجال علوم الكمبيوتر بحاجة إلى زيادة عدد الإناث والأقليات به. يُعد الذكاء الهندسي في الأنظمة وإيجاد الأفكار في بحر واسع من البيانات مهمة تحتاج بشدة إلى قوة عاملة متنوعة.
ولكن لكي نكون ناجحين، من الضروري أن نطور طريقة تدريس البرمجة. إذ غالباً ما ندرِّس البرمجة كما لو أننا ما زلنا في التسعينيات، حين كانت تفاصيل البرمجة (مثل لغة فيجوال بيسك) هي محور علوم الكمبيوتر. إذا كان بإمكانك شق طريقك بنجاح في تفاصيل لغة البرمجة، قد تتعلم شيئاً ما، ولكنه لا يزال صعباً، ولا ينبغي أن يكون كذلك. تُعد البرمجة نشاطاً إبداعياً، وبالتالي، فإن تطوير دورة برمجة ممتعة ومثيرة أمر ممكن. في مدينة نيويورك، على سبيل المثال، تجري منظمة "فتيات الكشافة" الأميركية برنامجاً لتعليم الفتيات كيفية استخدام لغة "جافا سكريبت" لإنشاء مقاطع فيديو وتحسينها، وهو نشاط يهتم به صغار السن لأنه ممتع ومتصل بحياتهم. لماذا لا تستطيع مدارسنا أن تحذو حذوها؟
بعد الصف الدراسي التاسع، نرى أنه يجب على المدارس توفير تخصصات دراسية اختيارية، مثل الروبوتات، والرياضيات الحاسوبية، والفن الحاسوبي، لتنشئة طلاب لديهم الاهتمام والموهبة ليصبحوا علماء كمبيوتر أو لتعزيز أعمالهم في مجالات أخرى. وتتخذ مدارس ثانوية أميركية الآن ما هو أكثر من التدريب الأساسي اللازم للإعداد لاختبار تحديد المستوى المتقدم في علوم الكمبيوتر. ومع ذلك، لدينا القليل من قصص النجاح الرائعة -مثل "مدرسة ستويفيسانت الثانوية" (Stuyvesant High School)، في مدينة نيويورك، و"مدرسة توماس جيفرسون" الثانوية للعلوم والتكنولوجيا، في ولاية فيرجينيا، و"مدرسة الموهوبين" في مدينة دالاس. وتتميز كل هذه المدارس بأعضاء هيئة تدريس ذوي خلفية في علوم الكمبيوتر أو حاصلين على دورات تدريبية فيها.
نحثّ أيضاً أقسام الرياضيات في المدارس الثانوية على تقليل التركيز على الرياضيات المتقدمة، بما في ذلك التفاضل والتكامل المتقدم، والتركيز أكثر على الرياضيات التي تتصل مباشرةً بعلوم الكمبيوتر، مثل الإحصاء، والاحتمالات، ونظرية الرسم البياني، والمنطق. ستكون هذه المهارات أكثر فائدة للقوة العاملة المعتمدة على البيانات في المستقبل.
مشكلة نقص مدربي علوم الكومبيوتر
العقبة الرئيسية هي النقص الحاد في المدرسين المدربين على علوم الكمبيوتر في مدارسنا. وهو الأمر الذي يمكن أن تساعد فيه الشركات التقنية الأميركية كثيراً. على سبيل المثال، ترعى شركة "مايكروسوفت" برنامج "تيلس" (TEALS)، الذي يجمع بين محترفي الكمبيوتر ومدرسي المرحلة الثانوية لبضع ساعات أسبوعياً. ولكننا بحاجة إلى آلاف المعلمين لتدريس ملايين الطلاب. بل ستكون هناك التزامات أكثر ضرورية مع المضي قدماً. على الجانب الأكاديمي، يُعد برنامج "يو تيتش" (UTeach)، التابع لـ "جامعة تكساس"، نموذجاً لإعداد مدرسي العلوم والتكنولوجيا، وقد توسع ليشمل 44 جامعة في 21 ولاية ومقاطعة كولومبيا.
هناك حاجة إلى فعل المزيد. كما هو الحال مع العلوم والرياضيات، نحتاج إلى معايير حكومية تشجع تدريس علوم الكمبيوتر حتى الصف الثاني عشر، إلى جانب الكتب المدرسية والمواد الدراسية وطاقم وطني مُدرَّب من مدرسي علوم الكمبيوتر المرتبطين بتلك المعايير. كانت جمعية "مدرسي علوم الكمبيوتر" رائدةً في هذا المجال، إذ أصدرت إطاراً للمعايير ومجموعة مؤقتة من المعايير.
إن الاستثمار في كيفية استيعاب الجيل القادم للبيانات الضخمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي وتفاعلهم معها، هو استثمار سيؤتي ثماره على المدى الطويل لنا جميعاً فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي ومستقبل الوظائف.
اقرأ أيضاً: