ملخص: في مرحلة معينة من الحياة، ينتقل الأشخاص من التفكير في "عيش حياتهم الحالية" إلى التفكير في "كيفية عيش ما بقي من حياتهم". وهذا التحول يخلق شعوراً جديداً بالحاجة الملحة إلى معرفة الهدف من وجودنا. وبينما يواجه الأشخاص هذا التحدي، فإنهم يصطدمون بمجموعة من الاحتياجات البشرية الأساسية التي تحدد مجتمعة الكيفية التي نجد من خلالها معنى لوجودنا، وهي: الانتماء والهدف والكفاءة والتحكم وتجاوز المصلحة الذاتية. والتفكير في هذه الركائز الخمس لإيجاد معنى في الحياة يمكن أن يساعدك في إعادة اكتشاف حياتك.
أخبرني بهاء، وهو مسؤول تنفيذي من المشاركين في الندوة التي عقدتها لأصحاب المناصب التنفيذية العليا في المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال "إنسياد" (INSEAD)، أنه قرر التسجيل في برنامجي لأنه كان يشعر بالضياع. ظاهرياً، كان رجل أعمال ناجحاً للغاية، لكن إنجازاته العديدة لم تعد تمنحه شعوراً بالرضا، بل كان يشعر بالملل والقلق.
عندما طلبت من بهاء أن يفكر ملياً في الأنماط المتكررة في حياته، أدرك أنه ليس ماهراً سوى في جانب واحد من حياته. فبغض النظر عن عمله، لم يكن هناك الكثير من الأمور الأخرى في حياته. ونتيجة لذلك، في حين أن لديه العديد من المعارف في أوساط الأعمال التجارية، إلا أنه لم يقيم صداقات حقيقية. وأصبح هو وزوجته مثل شخصين يسكنان معاً فقط، ولم تكن لديه علاقة شخصية قوية بزوجته وأطفاله. عندما سألت بهاء ما إذا كان قد حلم يوماً بمسار مهني آخر، أخبرني أنه أراد أن يكون قائد أوركسترا لكن والده عارض الفكرة.
الركائز الخمس لإعادة اكتشاف حياتك
ذكّرني الاستماع إلى بهاء بملاحظة مؤثرة أبداها فيكتور فرانكل، أحد الناجين من محرقة الهولوكوست والطبيب النفسي: "يتوفر لدى عدد كبير من الأشخاص اليوم وسائل لعيش الحياة، ولكن ليس لديهم معنى يعيشون من أجله". قصة بهاء ليست القصة الوحيدة من هذا القبيل؛ فقد سمعت عدة أشكال مختلفة منها خلال ورش العمل التي أجريها. ففي مرحلة معينة من الحياة، ننتقل من التفكير في "عيش حياتنا الحالية" إلى التفكير في "كيفية عيش ما بقي من حياتنا". وهذا التحول يخلق شعوراً جديداً بالحاجة الملحة إلى معرفة الهدف من وجودنا. وبينما يواجه الأشخاص هذا التحدي، فإنهم يصطدمون بمجموعة من الاحتياجات البشرية الأساسية التي تحدد مجتمعة الكيفية التي نجد من خلالها معنى لوجودنا، وأطلق عليها "الركائز الخمس لإيجاد معنى في الحياة":
الانتماء
البشر كائنات اجتماعية، فبالنسبة إلى معظم الأشخاص، يُعد إيجاد المعنى في الحياة متجذراً في العلاقات الودودة والطيبة بين الأشخاص. فكل تفاعل نقوم به، سواء كان نتيجة للشعور بالفرح أو الاشمئزاز أو الغضب أو الحزن، يسمح لنا بمعرفة المزيد عن أنفسنا وما نحتاج إليه. وعندما يدعمنا الآخرون خلال هذه التجارب والتحديات، فإننا نتمكن من التعامل معها ومواجهتها على نحو أكثر فعالية. ومع ذلك، يشعر الأشخاص بالوحدة في كثير من الأحيان لأنهم يبنون جدراناً وليس جسوراً. إذ يتضح من قصة بهاء أنه لم "يستثمر" كثيراً في هذا الجانب بالغ الأهمية من حياته.
الهدف
لتحقيق النجاح والازدهار، يحتاج الأشخاص إلى اتجاه وأهداف يتطلعون إلى تحقيقها؛ فالأشخاص الذين يفتقرون إلى شعور واضح بالهدف لا يجدون إلا القليل من المعنى في كل ما يفعلونه. ومع اقتراب الأشخاص من نهاية مرحلة ما في حياتهم، يبدؤون في المعاناة من عدم وجود هدف مستقبلي. على الرغم من أن بهاء كان له هدف واضح في مرحلة ما (فقد أسس العديد من الشركات)، فإن هذا الهدف كان يتلاشى مع اقترابه من نهاية حياته المهنية الحافلة بالنشاط؛ فكم عدد الشركات الأخرى التي يمكنه تأسيسها فعلياً في المستقبل؟
الكفاءة
يستمد الأشخاص قدراً كبيراً من هويتهم مما يفعلونه؛ أي الكيفية التي يستغلون بها مواهبهم الفريدة ويصقلونها. فالشعور بالكفاءة يمنحنا الثقة في قدرتنا على مواجهة التحديات التي تنتظرنا. وغالباً ما ينطوي الوصول إلى مستويات عالية من الكفاءة أن نكون "في حالة تركيز كامل"؛ ما يعني أن نكون مستغرقين ومنهمكين تماماً في كل ما نفعله. ومواهب بهاء في الأمور المالية، التي كان يستمتع باستخدامها، هي التي ساعدته بشكل جزئي في إيجاد المعنى خلال حياته المهنية.
التحكم
يصبح الأشخاص أكثر استعداداً إلى إيجاد معنى لقراراتهم إذا اعتقدوا أنهم اتخذوها بحرية؛ بمعنى أن القرارات كانت نابعة منهم حقاً. في الوقت الذي قابلت فيه بهاء، كان قد بدأ يتساءل عما إذا كان قرر أن يتزوج لأنه يريد ذلك حقاً أم لأن كل مَن في عمره كان متزوجاً. وهذا الشعور بأن المعنى الذي يحاول شخص آخر إيجاده فُرض عليه كان أيضاً شيئاً مر به عند اختيار مهنته، فكما أشرت سابقاً كان عمله في مجال الأعمال هو خياره الثاني.
تجاوز المصلحة الذاتية
يقول مثل يوناني قديم "يغدو المجتمع عظيماً عندما يزرع كبار السن أشجاراً يعرفون أنهم لن يجلسوا تحت ظلالها أبداً". فنحن سنجد المعنى الأكثر عمقاً في حياتنا عندما نتجاوز المصلحة الذاتية والاكتفاء الذاتي ونمنح أنفسنا فرصة لمساعدة أشخاص آخرين لا تربطنا بهم علاقات شخصية قوية؛ ما يعني عندما نتصل عمداً بمجتمعنا الصغير وبالمجتمع ككل. كان من الواضح أن تجاوز المصلحة الذاتية لم يكن أبداً جزءاً من ترتيبات بهاء وخططه؛ فقد كان مهووساً بنجاح الشركات التي أسسها.
مع وضع هذه الركائز الخمس في الاعتبار، تساءلت كيف يمكنني مساعدة بهاء في إيجاد معنى واتجاه في مفترق الطرق هذا الذي يمر به في حياته؟ هل أقترح عليه التركيز على علاقته بزوجته وأبنائه، بالنظر إلى أهمية الانتماء لرفاهة الفرد؟ أم فات الأوان على ذلك؟ وبالنظر إلى أمانه المالي الحالي، هل يجب أن يكرس وقته لأنشطة أخرى، فقد كانت الموسيقى هي شغفه الأصلي؟ أم أن يصبح راعياً للفنون، وبالتالي سيلاحق شغفه الأصلي مع تجاوز الاهتمامات الشخصية في الوقت نفسه من خلال الاستثمار في شغف الآخرين؟ من خلال إجراء هذه التغييرات المختلفة، هل سيكتسب بهاء شعوراً أكبر بالهدف والتحكم في مسار حياته؟
يمكن أن تكون لحظات الأزمات الوجودية، مثل تلك التي واجهها بهاء، فرصاً رائعة للتعلم. أعتقد أن هيرمان هيس هو مَن قال: "كنت أؤمن دائماً، وما زلت أؤمن، أن الأشياء التي تحدث لنا ونمر بها سواء كانت جيدة أو سيئة، يمكننا دائماً أن نجعلها ذات معنى وقيمة". التغلب على التحديات هو أيضاً وسيلة لجعل الحياة ذات معنى أكبر. أنا متفائل لأجل بهاء؛ فلا يزال هناك العديد من الخيارات المفتوحة لاستكشاف أشياء جديدة والشعور بأن لحياته معنى، ولكن القرار يرجع إليه.