أسفرت أحداث العام الماضي عن تغيير سريع في عالم الأعمال، ما أُجبر الشركات على الخضوع لعملية تحول رقمي في غضون أشهر بدلاً من سنوات.
من جهة أخرى، يتحمل الموظفون اليوم أعباء الأزمة المتمثلة في تجاوز التأثير النفسي الناتج عن التكيف مع أماكن العمل الجديدة التي تتزايد فيها الإنتاجية ويتصاعد فيها التوتر أيضاً. ووجد تقرير"مؤشر توجهات العمل" الذي طورته شركة "مايكروسوفت" أن 54% من الموظفين يشعرون بالإرهاق من الأعمال الإضافية التي فُرضت عليهم، في حين يشعر 39% منهم بالإنهاك.
والوضع مماثل في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث يشعر العاملون في مجموعة متنوعة من القطاعات بأنهم لا يُحسنون استغلال أوقاتهم في ظل الأوضاع الراهنة. ويُعد الحوار غير الضروري في أماكن العمل من العوامل الرئيسة التي تقف وراء تلك المشكلة، كالمكالمات الافتراضية والمراسلات البريدية المبالغ فيها، بالإضافة إلى الوقت المهدر في انتظار المعلومات من الزملاء أو الموافقة من المدراء.
وصدق من قال، من قلب المحن تولد المنح، إذ إن الأزمة التي نشهدها اليوم جعلت قادة الأعمال يسعون إلى استغلال نموذج العمل الهجين كحل طويل الأمد لزيادة الإنتاجية، حيث يقسم الموظفون في هذا النموذج أوقاتهم بين العمل المكتبي والعمل عن بُعد، ويُتيح النموذج للعاملين استخدام أحدث التقنيات بغض النظر عن أماكن عملهم والحفاظ على التفاعل الشخصي الفاعل. ويعتبر الكثيرون أن هذا النموذج حلاً لإطلاق ثروة من إمكانات الأعمال في عالم دائم التغيير.
أجرت شركة "مايكروسوفت" مؤخراً استقصاء "إعادة تنظيم العمل" الذي صممه وأعدّه خبراء أكاديميون وخبراء متخصصون بقطاع الأعمال من "مركز أبحاث كيه آر سي ريسيرتش" (KRC Research) و"بوسطن كونسلتينغ جروب" (Boston Consulting Group)، حيث تم تنفيذ مقابلات شخصية مع أكثر من 3,000 عامل في 11 قطاع في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا لتحديد الأساليب التي يتبعها القادة لتحسين إنتاجية فرقهم. نظر الخبراء إلى كل من الشركات التي توصف أنها تقدمية من حيث المنتجات والخدمات وتجربة العملاء، والشركات التي أظهرت القليل من الابتكار، وقارنت ممارسات الأعمال في كلا النوعين من الشركات.
وأظهرت النتائج 4 طرق واضحة تستخدمها الشركات المبتكرة لتحسين الإنتاجية؛ كما بيّنت أن مكان العمل الهجين الذي يتبناه القادة قد يكون السبيل لتحقيق تلك الغاية.
تمكين الموظفين:
اعتمد معظم قادة الأعمال في أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه على نموذج الإدارة العلمية، وهو نموذج يعتمد على نظام تراتبية صارم وعلى تبسيط مهام العمال، حيث عامل المدراء موظفيهم كالمرؤوسين ولم يمنحوهم أي فرصة تُذكر في عملية صناعة القرار، وكلما كان القرار مهماً، انتقل إلى مستويات أعلى من التراتبية.
لكن العكس هو الصحيح اليوم، إذ شاع مؤخراً تبني نهج القيادة المرنة الذي يهدف إلى تضمين آراء الموظفين واعتماد هيكل تنظيمي مسطح، الذي يُعرف أيضاً باسم الإدارة العضوية. وأظهر البحث الذي أجرته شركة "مايكروسوفت" مدى التأثير الإيجابي لهذا النهج في الأسواق الخمسة التي نُفّذ فيها في الشرق الأوسط وإفريقيا، كما بيّن وجود علاقة ترابطية واضحة بين منح الموظفين الاستقلالية وتشجيع الابتكار. على سبيل المثال، شعر ما يقرب من ثلثي الموظفين في الشركات المبتكرة في الإمارات العربية المتحدة بقدرتهم على اتخاذ قرارات دون وجود مدير، مقارنة بـ 28% من الموظفين فقط في الشركات الأقل ابتكاراً.
يحدّ نموذج العمل الهجين من اعتماد العمال على الوجود الشخصي للمدراء لاتخاذ القرارات، وذلك لقدرتهم على استخدام أدوات التخطيط المتطورة عن بُعد بدلاً من ذلك. على سبيل المثال، تُتيح المنصات الشاملة مثل "مايكروسوفت تيمز" (Microsoft Teams) للزملاء إجراء الاجتماعات والتعاون واستخدام "مايكروسوفت بلانر" (Microsoft Planner) لإدارة مهامهم بشكل مستقل، مع اضطلاع مدرائهم بأدوار إشرافية للتدخل في حال حدوث مشكلات. كما يُتيح تطبيق "مايكروسوفت بلانر" للأعضاء إضافة المهام أو إزالتها على قناة الفريق، وإعداد خطط عمل مشتركة وتلقّي الإشعارات بالمواعيد النهائية القريبة، وهو ما يُعزز العمل الجماعي السلس والمرن.
ويمتلك القادة الذين يثقون في قدرة موظفيهم على اتخاذ القرارات، ويستفيدون من بيئة العمل الهجينة في إسناد السلطة إليهم أفضل فرصة لتطوير بيئات عمل مبتكرة بالفعل.
استخدام مخرجات الموظفين بذكاء:
تُعتبر فكرة عمل الموظفين على مدار الساعة من الأفكار التي عفا عليها الزمن. فما يهم ببساطة هو كيفية عمل الموظف وليس عدد الساعات التي يقضيها في العمل، أي يجب أن تحظى الجودة دائماً بالأهمية مقارنة بالكمية.
يُتيح نموذج العمل الهجين للمدراء إظهار التعاطف من خلال تكييف جداول مواعيد الموظفين استناداً إلى احتياجاتهم؛ على سبيل المثال، قد يحتاج الموظف الذي لديه ابناء إلى أن يكون قريباً من أسرته، أو يحتاج العامل الشاب إلى بيئة مهنية ليتمكن من التركيز.
تركز الإدارة المتعاطفة أيضاً على حماية حق الموظفين في تحقيق توازن صحي بين العمل والحياة، وهو أمر يدعمه البحث، حيث أفاد أكثر من 75% من الموظفين في الشركات التقدمية بأن مدراءهم يولون اهتماماً كبيراً بتلك القضية، مقابل أقل من النصف على الأكثر في الشركات غير المبتكرة. كما أن وجود موظفين سعداء يعني وجود إنتاجية أعلى، بحسب ما توصلت إليه دراسات مختلفة.
هذا بالإضافة إلى إبداء التعاطف، حيث يجب على القادة أن يُحسنوا استغلال أوقات موظفيهم بذكاء. يمتلك كل عضو في الفريق وقتاً تكون إنتاجيته فيها في ذروتها، ويُطلق على ذلك الوقت "حالة التدفق الذهني" التي تكون فيها طاقة الموظف وتركيزه في أعلى مستوياته؛ ويُعتبر تحديد ذلك الوقت أمراً بالغ الأهمية.
وتُتيح تقنية التحليلات المحوسبة المتطورة للقادة حل تلك المشكلة على كلا الجانبين. على سبيل المثال، تتضمن خدمات الاشتراك مثل حزمة برمجيات "أوفيس 365" (Office 365) أدوات تتيح لهم تحديد أفضل الأوقات لأداء مهام معينة، كتقييم مدى اندماج الزبائن، وتمنع شعور الموظفين بالاحتراق الوظيفي الذي يُعتبر مشكلة متنامية في بيئة الأعمال الحالية.
ويمنحهم العمل الهجين حرية تنفيذ تلك الإجراءات، فإذا احتاج العامل إلى الراحة، فيمكنه العودة إلى المنزل واتباع جدول مواعيد مخفض مريح، أو يمكنه الاستفادة من طاقة البيئة المكتبية بدلاً من ذلك. ويُعتبر التمتع بتلك المرونة المدعومة بأحدث تقنيات التحليلات المحوسبة عامل دفع رئيسي للابتكار.
إدارة البيانات بشكل صحيح:
تحظى الطريقة التي ندير بها المعرفة المكتسبة من عالم رقمي مستند إلى البيانات بأهمية كبيرة اليوم.
في الواقع، تهدر غربلة مجموعات من النصوص والإحصاءات لإيجاد المعلومات المطلوبة أوقات الموظفين الثمينة، إذ قد لا يعرف العمال مواقع تلك البيانات أو كيفية العثور على ما يحتاجون إليه، وقد يشكون فيما إذا كانت المعلومات التي يعثرون عليها ذات صلة.
من جهة أخرى، صُممت الأدوات المدارة بالذكاء الاصطناعي لتمثّل الحل الرئيس الذي يحد من تلك المشكلة، وهو ما يمنح القادة القدرة على استخدام كميات كبيرة من البيانات لصالحهم. تستخدم البرمجيات المتطورة، مثل منصة "فيفا توبكس" (Viva Topics) التي طورتها شركة "مايكروسوفت"، الذكاء الاصطناعي لغربلة المعلومات وتنظيمها وتحديد موقع المحتوى المطلوب في غمضة عين. ويخفض مثل ذلك الاستخدام الفاعل للوقت ساعات العمل المهدورة بشكل كبير.
بشكل عام، يجب أن تُدار عملية التحول إلى الذكاء الاصطناعي بعناية، فنظراً لمدى تطور التكنولوجيا، يجب على القادة التأكد من أنها لا تحل محل التواصل البشري أبداً. وتُعتبر ثقافة العمل الهجينة أفضل طريقة لتحقيق ذلك، إذ إنها تسهل استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بغض النظر عن الموقع الفعلي للعمال، وتحافظ على عنصر التفاعل الشخصي عند إجراء الاجتماعات ومناقشة نتائج البيانات وجهاً لوجه. وستكون الشركات الأكثر ابتكاراً هي تلك التي يمكنها الجمع بين هذين العنصرين بشكل فاعل.
تدريب الموظفين والمدراء:
يختلف امتلاك أدوات متطورة عن امتلاك المعرفة لاستخدام تلك الأدوات اختلافاً كبيراً. على سبيل المثال، يؤمن غالبية موظفي شركة "طيران الشرق الأوسط" (MEA) بامتلاكهم التكنولوجيا المناسبة، في حين يشعر نصفهم تقريباً بأنهم غير مؤهلين لاستخدامها، كما أظهرت نتائج البحث.
ولا تقتصر فائدة التدريب في بيئة عمل هجينة على الموظفين فقط، فقد لا يمتلك المدراء القدرة على توجيه فرقهم في ظل بيئة التعلم الجديدة تلك نظراً لسعيهم إلى التكيف فيها، وتشير حقيقة أن ما يصل إلى 40% من القادة يشعرون بأنهم غير مؤهلين لتدريب موظفيهم في جنوب إفريقيا والمملكة العربية السعودية إلى أن تعليم كبار الموظفين ضروري أيضاً.
ويُتيح العمل الهجين للمدراء سدّ تلك الفجوة المعرفية، حيث يمكّنهم هذا النموذج من مشاركة مواد التدريب عبر الإنترنت وعقد اجتماعات افتراضية لمناقشة قدرة الموظفين على تطبيق ما تعلموه على أنشطة عمل الشركة. كما تُتيح الموارد الرقمية، مثل "مايكروسوفت ليرن" (Microsoft Learn)، للموظفين تجميع المواد التعليمية في مكان واحد، بما في ذلك مستندات العمل ومقاطع الفيديو التدريبية والشهادات لتحديد التقدم. ثم يجري استكمال تلك العملية التعليمية من خلال التفاعل المباشر بين الزملاء والمدراء للتحدث عن الخطوات التالية والقضايا الناشئة.
تُعتبر البيئة الهجينة التي تجعل القادة منفتحين للآراء والتي تتبنى التغيير والأفكار الجديدة بيئة ضرورية إذا كانت الشركات ترغب في تحقيق التقدم. ويكمن الحل في الالتزام بالتعلم الذي يُتيح لهم التعامل مع بيئة الأعمال المتغيرة باستمرار، والتحرر من عقلية "معرفة كل شيء" التي تقف عائقاً في طريق التقدم.
مستقبل العمل الهجين:
لا شك في أن العمل الهجين سيزدهر. في الواقع، يعتقد 93% من قادة الشركات في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا أن هذا النموذج الجديد للعمل سيستمر في المستقبل القريب.
ومع ذلك، يوجد تحديات كبيرة في المستقبل، كما هو الحال مع أي تغيير، إذ تتطلب القضايا الجديدة الناشئة من القادة تبني نهج حساس يراعي رفاهة الموظفين من حيث الصحة النفسية و غيرها، مثل "إجهاد اجتماعات الفيديو" وغياب التواصل البشري. وتُعتبر إدارة أوقات عمل الموظفين بشكل معقول من خلال إبداء التعاطف والاعتماد على البيانات عنصراً أساسياً هنا؛ فهي تزود العمال بالأدوات والمعرفة لإدارة جداول مواعيدهم وتقليل وقت العمل المهدور. يتطلب مثل هذا النهج قدراً كبيراً من المرونة، ويُعتبر نموذج العمل الهجين النموذج الأمثل لتوفير تلك المرونة. فإذا تمكن القادة من تبنيه بفاعلية وإقرانه بأسلوب إدارة متعاطف وأكثر انفتاحاً، فسيحظون بفرصة أفضل لدفع الابتكار على المدى الطويل.