انتعشت الشركات والاقتصادات الآسيوية بسرعة نسبياً بعد فترة ركود تعرضت لها في ظل جائحة "كوفيد-19"، مستفيدة من الدروس التي تعلمتها من الأوبئة السابقة والمتمثلة في تصنيف محافظ أعمالها الاستثمارية بحسب الأولوية والتكيف مع الواقع الفوضوي الجديد. وحذت العديد من الشركات الأميركية ذات التفكير الاستشرافي حذوها، إذ تمكنت شركتا "فيسبوك" و"أمازون" وغيرهما من المنصات الرقمية الكبيرة من الازدهار بسبب الدفعة القوية التي أعطتها الجائحة للتجارة الإلكترونية وشركات توصيل الطلبات؛ بالإضافة إلى ذلك، تمكنت العديد من أكبر شركات "الاقتصاد الحقيقي" في الولايات المتحدة الأميركية، مثل "وول مارت" من التكيف مع القيود التي فرضها فيروس كورونا على جميع أنحاء العالم، وإعادة تنظيم سلاسل توريدها وإضافة بعض وسائل الراحة لعمليات البيع، مثل خدمة رصيف استلام الطلبات من المتجر لتفادي أسوأ التداعيات المالية والاقتصادية.
إطار عمل "فلِب إت"
قد لا تبدو الحاجة إلى تصنيف الأولويات ملحة تماماً مع انحسار فيروس كورونا، لكن ستبقى عمليتا التحليل المستمر لبيئة الأعمال وتقليص أنشطة الأعمال التي لا يمكنها التكيف مع عالم دائم التغيير تحظيان بالأهمية نفسها، لاسيما أن جائحة "كوفيد-19" كشفت عن الحاجة إلى السعي المستمر لتعزيز القدرة على التكيف والمرونة. ونظراً لأن الجائحة وسعت الفجوة بين الشركات الكبرى (مثل المنصات الرقمية الكبيرة) وبين غيرها من الشركات (مثل معظم شركات "الاقتصاد الحقيقي")، سنحتاج إلى إطار عمل جديد لإعادة حشد جهودنا ومواصلة التقدم. وتحقيقاً لتلك الغاية، نقترح اتباع إطار عمل "فلِب-إت" (FLP-IT) الجديد، والاسم هو اختصار مكون من الأحرف الإنجليزية الأولى لكلمات تعني (القوى والمنطق والأنماط والتداعيات وتصنيف الأولويات). يعكس إطار العمل هذا نظرتنا للمستقبل مع مراعاة المتغيرات التي تعيد تشكيل محيطنا وبيئاتنا وأسواقنا وحياتنا.
يحدد إطار عمل "فلِب-إت" سلسلة من الخطوات التحليلية التي تساعد الأفراد والمؤسسات في فهم البيئة الحالية بشكل أفضل، ومن ثم البدء في تحويل التهديدات والفرص إلى نمو في المستقبل:
القوى:
افهم طبيعة القوى الجديدة أو ما يعزز القوى الحالية التي تؤثر على حياتنا وأعمالنا اليوم. على سبيل المثال، من هم مزودو التكنولوجيا الذين يتأثرون بالجائحة، سواء كان تأثرهم بها سلبياً أو إيجابياً؟ هل ستؤدي الإدارات السياسية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا إلى زيادة القوانين المتعلقة بالاقتصاد الرقمي والمجتمع أم تقليل تلك القوانين؟ ما هي النتائج المرتقبة من التقدم في التقنيات المتطورة التي أسفرت عنها الجائحة؟ سيساعدك الفهم الكامل لتلك القوى الجديدة في تقييم دور الأحداث الحالية في تحويل البيئات التي تعمل فيها الشركات وإعادة تنظيم مشهد الأعمال على نحو أكثر دقة.
المنطق:
بمجرد أن تكوّن فكرة أفضل عن تلك القوى الرئيسية، حدد المنطق الجديد والناشئ الذي يتطور في مجتمعاتنا وقطاعاتنا ومجالات أعمالنا. تتمثّل إحدى العبارات المتكررة التي نسمعها هذه الأيام بشكل خاص في ضرورة التكيف مع "الأوضاع الطبيعية الجديدة"، لكن الأهم هو البحث عن المنطق المتغير الذي يفسر تطور بيئتنا. هل ستنتعش اقتصاداتنا وقطاعاتنا وحياتنا بسرعة بمجرد الموافقة على اللقاحات، أم أننا سنكافح لاستعادة نمو الشركات وحيويتها؟ هل سنبقى عالقين في هندسة الأزمة (على سبيل المثال، ما هو شكل الانتعاش الاقتصادي المرتقب، هل سيكون على شكل حرف V أم W أم على شكل حرف U مثل حوض الاستحمام الممدود. كيف سنعيد شركاتنا ومجتمعنا إلى طبيعتهما كما في الماضي؟ هل سنعيش في عصر "اقتصاد الكورونا" الدائم، مع تذبذب أسرع بين الانكماش والتوسع عند ظهور فيروس جديد أو زعزعة غير فيروسية؟ هل ستنتصر التكنوقراطيات (الحكم القائم على العلم) مع انجراف البلدان الأخرى نحو الشعبوية والابتعاد عن العلم؟
الأنماط:
بعد أن تفكر في المنطق الذي يؤثر في هذه الأوقات المضطربة، تخيل الأنماط والظواهر الجديدة الناشئة عن التفاعلات بين الجهات الفاعلة في عالمك. من هي الجهات الرابحة ومن هي الجهات الخاسرة؟ ما هي نماذج الأعمال التي ستسود؟ كيف ستغير سلسلة التوريد اللامركزية الإيرادات والتكاليف الهامشية؟ هل ستعاني المدن من هجرة العقول مع سعي الرحالة الرقميين وروّاد العمل الافتراضي إلى تأسيس أماكن عمل مادية جديدة، وهل ستغير تلك الظاهرة من طبيعة الإنفاق والاستهلاك والضرائب؟ كيف سيتغير قطاع التعليم والتدريب بشكل يُتيح للعمال قدراً أكبر من المرونة للتعلم والعمل في وقت واحد؟ وكيف ستتنافس قوة العمل المهجّنة مع حيوية الاقتصادات التقليدية، لاسيما في الأسواق النامية، في ظل تراجع الاستهلاك والتفاعلات الاجتماعية؟
التداعيات:
استخلص الآن استنتاجات حول الآثار التي ستخلقها تلك القوى والمنطق والأنماط على شركتك ومجتمعك وعائلتك. قد يأتي ذلك بالنسبة للشركات على شكل تقييم لتأثير سلسلة القيمة بناءً على الملاحظات المستقاة من خطوات "القوى والمنطق والأنماط" في إطار العمل هذا. ما هي الروابط الضعيفة في سلسلة القيمة، وما هي الفرص الجديدة التي ستعزز تلك الروابط وتنوعها؟ ما هي المنصات المتخصصة التي قد تظهر، أو ما هي التكنولوجيات التي يمكنك تطويرها داخل شركتك لتعزز سلاسل التوريد وعمليات المشتريات الذكية مع توجه العالم إلى اعتماد الحلول المفتوحة والمقتصدة بشكل منهجي؟
تصنيف الأولويات:
تنبع القيمة الحقيقية لتحديد الآثار المترتبة على تلك القوى والمنطق والأنماط من تطوير مجموعة جديدة من أنشطة الأعمال والوحدات والمنتجات التي يمكن أن تستجيب للأزمات بقدر أكبر من المرونة والتكيف. ومع ذلك، يتطلب تحقيق تلك القيمة منك تصنيف العناصر الموجودة في محفظتك الاستثمارية بحسب الأولوية. قد تضطر في هذه المرحلة إلى التخلي عن بعض عناصر المحفظة الاستثمارية، لاسيما تلك التي لا يمكن أن تتكيف مع الوضع "غير الطبيعي" المتغير باستمرار، أو تضطر على الأقل إلى التكيف مع واقع يحدث فيه تحول جذري بشكل دوري. قد تُسفر تلك الخطوة عن تحرير رأس المال وتوفير الاهتمام المطلوب لعودة الأنشطة الأقل ارتباطاً بالوضع الطبيعي أو بأحد جوانب الأعمال (على سبيل المثال، الأنشطة الخارجية مقابل الأنشطة الداخلية، العمليات الرقمية مقابل المادية، الأنشطة المحلية مقابل الدولية، أو العمليات المركزية مقابل الأنشطة الموزعة). وتحقيقاً لتلك الغاية، نوصي بالتركيز على استخدام التكنولوجيا الرقمية وعلوم المواد الجديدة لتحويل الأصول إلى منفعة في قطاعات السوق المختلفة، مثل عمليات الإغلاق العام الانتقائية، أو السياسات الصحية المتغيرة، أو تذبذب المعاملات المالية عبر الحدود.
تطبيق إطار عمل "فلِب-إت"
تُعتبر عملية تصنيف الأولويات خطوة منطقية في إطار عمل "فلِب-إت" بأكمله. في الواقع، صممنا إطار عمل "فلِب-إت" لدمج عمليات التقييم والنظرة الاستشرافية واتخاذ الإجراءات بطريقة تساعد الأفراد والشركات في تحقيق النمو المرن الذي توفره المحافظ الاستثمارية من خلال قدرتها على التكيف في عالم يسوده التقلب والشك والتعقيد والغموض، بغض النظر عن مدة فترة الركود أو مدى تحول التوازن بين الوجود الرقمي والمادي. سيجري اتخاذ معظم قرارات تصنيف أولويات المحفظة الاستثمارية استناداً إلى طبيعة الأعمال التجارية أو الساحة التنافسية أو القطاع المعني، لكن هناك بعض التوصيات القابلة للتعميم التي يمكننا تقديمها بالفعل. تقدم كل توصية من التوصيات التالية فرصة استثمارية لزيادة الإنتاج المحلي أو فرصة للجهات الجديدة الفاعلة للابتكار وتطوير حلول جديدة، وهو ما يعزز قدرة الجهات الفاعلة التقليدية والرقمية على التحمل. ستختلف طريقة تطبيق تلك التوصيات بناءً على طبيعة عمل شركتك، والأهم من ذلك، بناءً على هدف شركتك بعد انتهاء الأزمة:
طوّر أنظمة مراقبة لعمليات الرعاية الصحية في نموذجك التشغيلي، إذ سيتطلب مستقبل العمل الناشئ الدمج بين الوجود الافتراضي والمادي. سيصبح نموذج "هايبر فلكس" (Hyperflex)، أو التبديل المستمر بين الوجود المادي والرقمي، مبدأ تشغيل رئيسي في معظم الشركات. من جهة أخرى، يتطلب تحقيق ذلك النموذج مراعاة رفاهة العمال بشكل مستمر وما ينتج عنها من ضمانات لتعزيز الإنتاجية.
استثمر في عمليات المرافق البعيدة والعمليات الجديدة القائمة على المعاملات بين الجهات المتعاونة، إذ ستحتاج متطلبات الصحة والنظافة الجديدة مزيداً من تقنيات التحكم والسيطرة في مواقع التصنيع. سيحتاج المدراء هنا إلى تقنيات للقيادة الرقمية/الهجينة الجديدة. كما ستحتاج فرق التسويق والمبيعات إلى إقامة شراكات جديدة لإدارة الفعاليات وتحقيق "التعليم الترفيهي" والحلول الأخرى التي تعزز الألفة بين الأفراد وتساعد في استبدال البروتوكولات الملموسة لبناء العلاقات.
عزز الفائض والقدرة على التحمل في سلسلة التوريد، إذ إن العمل مع مزودي سلاسل التوريد الذكية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي سيُتيح للشركات اكتساب معلومات عن صحة عمليات الشراء وعن مختلف البائعين (مثل "إس أيه بي أريبا" (SAP Ariba) أو "كوبا" (Coupa) أو "إيفالوا" (Ivalua) أو "غيب" (Gep) أو "جاقار" (Jaggaer) أو "أوراكل" (Oracle)). كما سيُتيح ذلك للشركات تغيير سلاسل التوريد بشكل أسرع، وبالتالي توفير أمان أكبر للإمدادات.
أعد تصميم خدماتك أو أسلوب توصيل المنتجات، إذ ستحتاج المؤسسات إلى تقليل نقاط التواصل البشري والتعرض للعدوى، وأظهر اهتماماً خاصاً بعروض القيمة للخدمات الجديدة أو طرق توصيل المنتجات. تدعم تلك الخطوة التوجه الناشئ الذي يفرض "مواصلة جميع الأنشطة مع الحفاظ على مسافة آمنة"، وهو ما قد يخلق مشكلات جديدة للعلامات التجارية حول العلاقات بين الزبائن والموظفين.
ضع في اعتبارك وضع حلول جديدة لإدارة الحياة، إذ قد يُسفر التباعد الاجتماعي عن توتر العلاقات، إضافة إلى الضغوط التي تتعرض لها الموارد المالية نتيجة فقدان الزبائن والوظائف وطلب الموظفين الحصول على إجازات. في الوقت نفسه، ستصبح قضية الأمن السيبراني لكل من شبكات المؤسسات والشبكات المنزلية أكثر تعقيداً وربما أقل أماناً.. من جهة أخرى، قد تزدهر حلول البرمجيات التي تدير التقلبات الجديدة على مختلف الأصعدة في الأسواق.
لن نشهد "وضعاً طبيعياً جديداً" واحداً لشهور، إن لم يكن لسنوات، وقد نضطر إلى التكيف مع سلسلة من "الأوضاع الجديدة" المتغيرة باستمرار بينما نعد أنفسنا للسعي في عالم دائم التحول. وبدلاً من أن نأمل عبثاً في العودة إلى عالم ألفناه أو الاستسلام لألم فقدناه، يجب أن نعكس نظرتنا للمستقبل وأن نتقبل حالة الغموض، وأن نعدّل استراتيجياتنا وأنشطتنا. ويُتيح لنا نموذج "فلِب-إت" تصنيف محافظنا الاستثمارية بحسب الأولوية وبطرق تولد قيمة ملموسة للشركات والأفراد الذين نصادفهم كل يوم.