أصبحت الأصالة (العمل وفقاً لطبيعتنا) المعيار الذهبي الجديد للقيادة، لكن يمكن أن يتسبب تبسيط ما تعنيه تلك الكلمة في إعاقة نموّك والحد من تأثيرك.
لنأخذ حالة سمية، المديرة العامة لمؤسسة تهتم بالرعاية الصحية كمثال، إذ أدت ترقيتها إلى هذا المنصب إلى زيادة عدد مرؤوسيها المباشرين 10 أضعاف وتوسعة نطاق الشركات التي تشرف عليها، ما جعلها تشعر بهزة في حياتها بسبب هذه النقلة الكبيرة. وكمؤمنة قوية بالشفافية والقيادة التعاونية، عبّرت عما يجول في داخلها أمام موظفيها الجدد، إذ قالت لهم: "أريد أن أقوم بهذا العمل، إلا أنه مثير للرهبة وأحتاج إلى مساعدتكم". لكن ارتد ما قامت به سلباً عليها، حيث فقدت مصداقيتها أمام أشخاص أرادوا واحتاجوا إلى قائد واثق لتولي المسؤولية.
ولننظر إلى حالة جورج، المسؤول الماليزي في شركة قطع غيار للسيارات والتي يقدّر فيها الناس وجود سلسلة واضحة من القيادة ويتخذون القرارات فيها بالإجماع. فعندما استحوذت شركة هولندية متعددة الجنسيات ذات هيكلية عمل مختلفة على الشركة، وجد جورج نفسه يعمل مع زملاء كانوا يرون عملية اتخاذ القرارات مسابقة حرة لطرح الأفكار وتقديم الحجج عليها. ولم يتمكن بدوره من التأقلم مع هذا الأسلوب لكونه يتناقض مع مفهوم التواضع الذي تربى عليه في بلاده. وخلال مراجعة التقرير الشامل الخاص به، أخبره رئيسه أنه بحاجة إلى الترويج لأفكاره وإنجازاته بشكل أكبر ليشعر جورج بدوره أن عليه الاختيار بين أن يكون فاشلاً أو مزيفاً.
إننا نميل إلى التمسك بالأصالة كذريعة للاحتفاظ بما هو مريح، على اعتبار أن التغلب على ميولنا الطبيعية يمكن أن يُشعرنا وكأننا منتحلون، لكن لا توجد وظائف كثيرة تسمح لنا بذلك لفترة طويلة. وتزداد صحة ما سبق بشكل أكبر عندما نتقدم في مهنتنا أو عندما تتغير الطلبات أو التوقعات، كما اكتشفت سمية وجورج وعدد آخر لا يحصى من الرؤساء التنفيذيين.
ولقد لاحظت في بحثي حول تحولات القيادة أن التقدم الوظيفي يتطلب منا جميعاً مغادرة مناطق الراحة لدينا، ما يؤدي في الوقت ذاته إلى إطلاق رد فعل قوي في داخلنا يعمل بدوره على محاولة حماية هويتنا، إذ إننا غالباً ما نتقهقر إلى السلوكيات والأنماط المألوفة لنا عندما نكون غير واثقين من أنفسنا أو من قدرتنا على تقديم أداء جيد أو على الارتقاء في بيئة جديدة.
لكن يوضح بحثي أيضاً أن اللحظات التي تتحدى إحساسنا بذواتنا هي تلك التي يمكنها أن تعلمنا أكثر عن الريادة الفعالة. ويمكننا تطوير أسلوب شخصي نشعر أنه مناسب لنا ويلبي احتياجات مؤسساتنا المتغيرة عبر العمل على ملاحظة أنفسنا في رحلتنا عبر عالم الأعمال، وتطوير شخصيتنا المهنية عبر التجربة والخطأ.
ويتطلب هذا الشجاعة، على اعتبار أن التعلم، بحكم تعريفه، يبدأ بسلوكيات غير طبيعية وغالباً سطحية، والتي قد تجعلنا نشعر وكأننا نمثل في بدلاً من التصرف بصدق وتلقائية. ولكن تتمثل الطريقة الوحيدة لتفادي الوقوع في طي النسيان والتقدم إلى مصاف القادة في فعل الأشياء والتي تمنعنا ذواتنا الداخلية من القيام بها لالتزامها بمفهوم الأصالة.
ما سبب معاناة القادة مع الأصالة؟
تشير كلمة "الأصالة" بشكل عام إلى أي عمل فني أصيل وغير مقلّد. ويكون لها بالطبع معان أخرى عند استخدامها لوصف القيادة، منها ما قد يكون إشكالياً على غرار فكرة التمسك بـ "الذات الحقيقية" مثلاً والتي أشارت الكثير من الأبحاث إلى أنها تشكّل حجر عثرة أمام تطور الناس، لأنهاا تحول دون قيامهم بالتجربة واكتشاف جوانب من أنفسهم لم يكتشفوها قط بمراقبة دواخلهم وحدها. كما أن الشفافية التامة، أي الكشف عن كل فكر وشعور، يُعتبر أمراً غير واقعي ومحفوف بالمخاطر.
وثّمة أسباب عديدة لمعاناة القادة مع الأصالة، أولها أننا نجري تغييرات بوتيرة أعلى وأكثر حدة في وظائفنا عما كنا عليه سابقاً. فخلال سعينا الجاهد لتحسين أدائنا، يشكل الإحساس الواضح والحازم بالذات البوصلة التي تساعدنا في التنقل بين الخيارات المختلفة والتقدم نحو أهدافنا. ولكن عندما نتطلع إلى تغيير أدائنا، يصبح مفهوم الذات الجامد مرساة تمنعنا من الإبحار، كما حصل مع سمية في الفقرات السابقة.
ثانياً، وفي قطاع الأعمال العالمي، يعمل الكثير منا مع أشخاص لا يشاركوننا أعرافنا الثقافية ولديهم توقعات مختلفة حيال تصرفاتنا، الأمر الذي قد يعطي الانطباع غالباً أن علينا الاختيار بين ما هو متوقع، وبالتالي فعال، وبين ما يبدو أصيلاً، وذلك كما رأينا في حالة جورج أعلاه.
ثالثاً، في عالمنا اليوم، الذي يتميز بالاتصال واسع الانتشار ووسائط التواصل الاجتماعي، فإن الجميع قادرون على رؤيتنا، الأمر الذي أدى لأن تغدو كيفية تقديمنا لأنفسنا، ليس فقط كمدراء تنفيذيين إنما كأشخاص يتصفون بصفات مميزة بحق واهتمامات أوسع، جانباً مهماً في القيادة. ويمكن أن يتعارض اضطرارنا إلى نحت الشخصية التي يراها الجميع عنا مع إحساسنا الخاص بذواتنا.
ووجدت عبر عشرات المقابلات التي أجريتها مع رؤساء تنفيذيين موهوبين ممن يواجهون توقعات جديدة أن معاناتهم مع الأصالة تظهر غالباً في المواقف التالية.
تولي المسؤولية في دور غير مألوف
يعرف الجميع أن أول 90 يوماً في أي منصب قيادي هي الفترة الأهم، إذ إنها الفترة التي تتشكل فيها الانطباعات الأولى والتي تعتبر مهمة. وتختلف الاستجابة بين قائد وآخر فيما يتعلق باستجابتهم لازدياد عدد من يلاحظون أداءهم وضغط الأداء عليهم وذلك بحسب شخصية كل واحد منهم.
ويشير عالم النفس مارك شنايدر، من جامعة مينيسوتا، إلى أنه في مسعانا لمعرفة كيف يقوم القادة بتطوير أنفسهم، سنجد فئتين من الشخصيات؛ الأولى هي "من يراقبون أنفسهم بشكل شديد" - أو "الحرابي" [جمع حرباء]، كما أسميهم. إنهم أشخاص قادرون بشكل طبيعي وعلى استعداد للتكيف مع متطلبات أي موقف من دون أن يظهروا كأشخاص مزيفين. وتهتم الشخصيات الحُرابية بإدارة صورتها أمام الناس، وغالباً ما تخفي ثغراتها برُقَع. وقد لا يكونون دائماً على صواب في محاولتهم الأولى، إلا أنهم يستمرون في المحاولة بتجربة أنماط مختلفة ينتقلون فيما بينها باستمرار كما يغير المرء ملابسه وذلك بحسب ما يناسبهم ويناسب ظروفهم. وغالباً ما يتقدمون بسرعة بسبب هذه المرونة، لكن يمكن أن يواجهوا بدورهم مشاكل عندما يُنظر إلى ما يقومون به على أنه خداع أو افتقار إلى كينونة أخلاقية وذلك على الرغم من أنهم يعبرون عن طبيعتهم الحُرابية "الحقيقية".
أما النوع الآخر فهو "الأوفياء لأنفسهم (أو "من يراقبون أنفسهم بمحدودية" وفقاً لسنادير) والذين يميلون إلى التعبير عما يفكرون به ويشعرون به حقاً، حتى عندما يتعارض ذلك مع ما تتطلبه المواقف المختلفة. ويواجه الأوفياء لأنفسهم مثل سمية وجورج مخاطر تتمثل في أنهم قد يلتزمون بالسلوك المريح لدرجة قد تمنعهم من تلبية المتطلبات الجديدة وذلك بدلاً من تطوير أسلوبهم عبر اكتسابهم البصيرة والخبرة.
وقد وضعت سمية (التي قابلتها بعد ظهور قصتها في مقال كارول هيموفيتز عنها في وول ستريت جورنال) نفسها في هذا الموقف، إذ ظنت أنها تهيئ نفسها للنجاح من خلال الحفاظ على وفائها لنفسها فيما يتعلق بنمط إدارتها لحياتها الشخصية القائم على الصراحة المطلقة، إذ طلبت من فريقها الجديد الدعم، واعترفت صراحة بالضياع. وبينما كانت تمضي محاولة معرفة الجوانب غير المألوفة من عملها، عملت بلا كلل للمساهمة في كل قرار وحل كل مشكلة، الأمر الذي أوصلها إلى حافة الإرهاق بعد بضعة أشهر. وما زاد الطين بلة قيامها بمشاركة حالة الضعف التي اعترتها مع أعضاء فريقها في وقت مبكر جداً لدرجة أنه أضر بمكانتها أمامهم. وقد علقت سمية على هذه الفترة، بعد سنوات عندما عادت بذاكرتها إليها، بالقول: "لا يعني أن تكون أصيلاً وقوفك أمام الناس كالزجاج الشفاف بحيث يستطيع الآخرون الرؤية من خلالك". لكن كانت وقتها ترى ذلك على أنه الأمر الصحيح، وهو ما تسبب في تشكيك زملائها في قدرتها على أداء المهمة بدلاً من بناء الثقة معهم.
ويعتبر التفويض والتواصل بشكل مناسب الجزء الأبسط من المشكلة في هكذا حالات، وثمّة مشكلة أعمق هنا تتمثل في إيجاد المزيج الصحيح بين وضع القرب والبعد في المواقف غير المألوفة. وتصف ديبورا غروينفيلد، عالمة النفس في ستانفورد، الأمر بأنه إدارة العلاقة بين ممارسة السلطة وقابلية وصول الآخرين إليك. فلكي تكون ذا سلطة، عليك أن تعطي معرفتك وخبراتك وتجاربك أفضلية مقارنة بما لدى الفريق لكي تُبقي على مسافة بينك وبينهم، ولكن عليك أيضاً أن تؤكد على علاقاتك مع الفريق وعلى تفهم ملاحظاتهم ومنظورهم وأن تقودهم بحماس ودفء. ويمثل الحصول على التوازن الصحيح أزمة أصالة حادة بالنسبة لفئة الأوفياء لأنفسهم والذين لديهم ميل قوي للتصرف بطريقة محددة. فقد قامت سمية بجعل نفسها ودودة للغاية وضعيفة لدرجة أن ذلك قوضها واستنزفها، حيث كان عليها هنا أن تضع مسافة بينها وبين موظفيها لكسب ثقتهم وإنجاز مهام منصبها الجديد.
روّج لأفكارك (ولنفسك)
عادة ما ينطوي نمو الشخص قيادياً على التحول من امتلاك أفكار جيدة إلى الترويج لها أمام أصحاب المصلحة المتنوعين. وغالباً ما ينفر القادة الذين يفتقرون إلى الخبرة، وخصوصاً من فئة الأوفياء لأنفسهم، من عملية إقناع الآخرين لأنهم يشعرون أنهم يمارسون الاصطناع والسياسة، على اعتبار أنهم يؤمنون أن على عملهم أن يُبرز نفسه بنفسه.
وإليكم مثال آخر وهو أمية، كبيرة مديرين في شركة نقل، وقد تمكنت من مضاعفة الإيرادات وإعادة تصميم العمليات الأساسية في وحدتها. وعلى الرغم من إنجازاتها الواضحة، لم يرَ فيها رئيسها قائدة ملهِمة. وعرفت أمينة أيضاً أن تواصلها لم يكن فعالاً فيما يتعلق بدورها كعضو في مجلس إدارة الشركة الأم، إذ غالباً ما كان رئيس مجلس الإدارة يتسم بشخصية مفكّرة ومتعجلة للتنفيذ، وقد نفذ صبره حيال عروضها المفصلة بطيئة الإيقاع، حيث كانت ملاحظاته لها تتضمن عبارات على غرار "زيدي الإيقاع، وفكري برؤية أشمل". لكن بدا الأمر بالنسبة إلى أمينة وكأنه يعني النظر إلى الشكل بدل المضمون. ففي مقابلتها معي قالت، "كنت أرى ذلك على أنه تلاعب. يمكنني حكي القصص، لكنني أرفض التلاعب بمشاعر الناس. وحتى لو كانت ممارسة السياسة والضغوطات أمراً طبيعياً، لا يمكنني القيام بذلك". وقاومت أمينة، كما فعل العديد من القادة الطامحين، صياغة رسائل عاطفية للتأثير على الآخرين وإلهامهم لأنها شعرت أن ذلك أقل مصداقية مقارنة بالحقائق والأرقام وجداول البيانات. ونتيجة لذلك، عملت بشكل يعارض رغبات رئيس مجلس الإدارة، وحاولت الدفع بالحقائق بشدة في وجهة بدلاً من التعاون معه كحليف مهم.
يمكن للمدراء الاختيار من بين عدد لا يحصى من الكتب والمقالات والورش التنفيذية التي تقدم المشورة حول كيف يمكن أن تكون أكثر أصالة في العمل. وثمّة اتجاهان يساعدان في تفسير الشعبية المتفجرة لمفهوم الأصالة وصناعة التدريب الناشطة بسببه.
أولاً، انخفضت الثقة في قادة الأعمال إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق في عام 2012، وفقاً لمقياس إدلمان ترست. فحتى في عام 2013، وعندما بدأت الثقة في الصعود، عبّر 18% فقط من الناس عن ثقتهم في أن قادة الأعمال يقولون الحقيقة، وأقل من نصفهم يثقون في أن الشركات تقوم بالشيء الصحيح.
ثانياً، باتت مشاركة الموظفين في أدنى نسبة لها، إذ وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب عام 2013 أن 13% فقط من الموظفين في جميع أنحاء العالم منخرطون في العمل، وواحد فقط من بين كل ثمانية موظفين – من بين حوالي 180 مليون موظف شملتهم الدراسة – ملتزم نفسياً بوظيفته. وفي دراسة تلو الأخرى، يُشار إلى الإحباط والإرهاق وخيبة الأمل والخلل في القيم الشخصية على أنها من بين أكبر الأسباب لتغيير مكان العمل.
وفي الوقت الذي تنخفض فيه ثقة الجمهور وروح الموظفين ومعنوياتهم، ليس من المفاجئ أن تشجع الشركات القادة على اكتشاف ذواتهم "الحقيقية".
ويعرف الكثير من المدراء في أعماقهم أن أفكارهم الجيدة وإمكاناتهم القوية لن تُلاحظ ما لم يعملوا بشكل أفضل على الترويج لأنفسهم. ومع ذلك، ليسوا قادرين على إجبار أنفسهم على القيام بذلك. قال لي أحد المدراء: "أحاول بناء شبكة مهنية الطابع وما يمكنني تقديمه هو لعالم الأعمال، وليس للشبكة القائمة على المعارف. ربما لا يعتبر ذلك ذكياً من وجهة نظر مهنية، لكن لا أستطيع أن أقف ضد معتقداتي . بالتالي، اعتمدت بشكل محدود على الاستفادة من معارفي للارتقاء".
وإلى أن نرى كيف يمثل التقدم الوظيفي وسيلة لتوسيع نطاق وصولنا وزيادة تأثيرنا في المؤسسة، وأنه فوز للمجموعة وليس لفرد واحد، سنبقى نواجه مشكلة في الشعور بالأصالة عندما نحاول نقل أنفسنا لمصاف الأشخاص المؤثرين. وتجد فئة الأوفياء صعوبة كبيرة في الترويج لذواتها أمام الإدارات العليا عندما تحتاج إلى ذلك؛ أي عندما يكونوا في حاجة إلى البرهان عن أنفسهم. لكن، تشير الأبحاث إلى أن هذا التردد يختفي مع اكتساب الخبرة وزيادة يقينهم بالقيمة التي يقدمونها.
معالجة ردود الفعل السلبية
يواجه العديد من الرؤساء التنفيذيين الناجحين تعليقات سلبية خطيرة لأول مرة في حياتهم المهنية عندما يضطلعون بأدوار أو مسؤوليات أكبر. وحتى عندما لا تكون الانتقادات جديدة تماماً، تزيد قابلية ظهورها في الأفق مع وجود الكثير على المحك الآن، لكن غالباً ما يقنع القادة أنفسهم أن جوانب التقصير في أسلوبهم "الطبيعي" هي الثمن الذي لا مفر منه للأداء بكفاءة.
ولنلقي نظرة على يعقوب، مدير إنتاج شركة أغذية أعطاه مرؤوسوه المباشرين علامات منخفضة في التقرير الشامل الخاص به وذلك في مجالات الذكاء العاطفي وبناء الفريق وتمكين الآخرين. وكتب أحد أعضاء فريقه أنه كان يصعب على يعقوب تقبل النقد، في حين لاحظ آخر أن يعقوب يبدأ بالمزاح فجأة بعد نوبة غضب كما لو لم يحدث شيء، من دون أن يدرك التأثير المزعزع للاستقرار الذي يحدثه تغير مزاجه على من حوله. وكان ذلك صعب التقبّل على يعقوب والذي كان يؤمن بأنه يبني الثقة بين أفراد فريقه.
تعتبر محاولة عثور المرء على طرق أصيلة لزيادة كفاءته أمراً أكثر صعوبة في بيئة متعددة الثقافات أياً كان الموقف، بمعنى تحمل المسؤولية في منطقة غير مألوفة، أو الترويج لأفكارك ولنفسك، أو التعاطي مع ردود الفعل السلبية.
وكما اكتشفت، إرين ماير، زميلتي في إنسياد، في بحثها، فإن أساليب إقناع الآخرين وأنواع الحجج التي يجدها الناس مقنعة ليست عالمية الطابع؛ بل متجذرة بعمق في الافتراضات الفلسفية والدينية والتعليمية لكل ثقافة. ومع ذلك، نادراً ما تكون الوصفات المتعلقة بكيفية ظهور القادة وصوتهم متنوعة مثل القادة أنفسهم. وعلى الرغم من مبادرات الشركات لبناء فهم للاختلافات الثقافية وتعزيز التنوع، فإن الحقيقة هي أنه لا يزال من المتوقع من القادة التعبير عن الأفكار بحزم، والمطالبة بالحصول على التقدير لأجلها، واستخدام الكاريزما لتحفيز الناس وإلهامهم.
ويُفترض بالأصالة أن تكون الترياق لنموذج واحد للقيادة. (ففي نهاية المطاف، الرسالة هي أن تكون أنت نفسك، وليس ما يتوقعه شخص آخر منك). ولكن المفارقة هنا أن تلك العبارة أصبحت تعني شيئاً أكثر تقييداً ومحددة ثقافياً بما أنها باتت رائجة، إذ يكشف إلقاء نظرة فاحصة على كيفية تعليم القادة لكشف أصالتهم وإظهارها – من خلال سرد قصة شخصية عن الصعوبات التي تغلبوا عليها مثلاً – كيف النموذج السائد إلى حد كبير حالياً هو النموذج الأميركي القائم على مُثُل على غرار الكشف عن الذات والتواضع والانتصار الفردي على المحن.
ويمثل هذا بدوره مفارقة مثيرة للاهتمام للمدراء المنحدرين من ثقافات بعادات مختلفة فيما يتعلق بالسلطة والتواصل والجهد الجماعي على اعتبار أن ولكي يكونوا "أصيلين"، عليهم أن يتصرفوا بشكل غير أصيل لثقافتهم.
وأقر يعقوب، بمجرد تخطيه الصدمة الأولية، أنه سبق وأن تلقى هذا النقد (قدّم بعض زملائه ومرؤوسيه سابقاً تعليقات مماثلة قبل بضع سنوات). وأضاف، "لقد ظننت أنني غيّرت طريقة أدائي، لكن يبدو أنني لم أتغير كثيراً منذ آخر مرة". لكنه سرعان ما برر سلوكه أمام رئيسه قائلاً، "ينبغي أن تكون قاسياً أحياناً لكي تحقق نتائج، ولا يحب الناس ذلك. وعليك تقبُل ذلك كجزء من عملك". وكان من الواضح طبعاً أنه لم يفهم المقصد مما سبق.
وغالباً ما يشعر القادة أن الملاحظات السلبية تشكل تهديداً لهويتهم على اعتبار أنها غالباً ما تركز على الأسلوب بدلاً من المهارات أو الخبرة، إذ يشعرون كما لو كان يُطلب منهم التخلي عما يميزهم كقادة، كما ظن يعقوب. فصحيح أنه كان أحياناً ينفجر في وجوه مرؤوسيهم، لكن سمحت "قسوته" تلك، من وجهة نظره، بتحقيق النتائج بشكل متواصل. وفي الواقع، وعلى الرغم مما سبق، تمكن من الوصول إلى هذه المرحلة على الرغم من سلوكه. وعندما توسع دوره وتحمل مسؤولية أكبر، أصبح ما يقولوه مرؤوسيه عنه أكبر عقبة على اعتبار أن ذلك استهلك منه وقتاً أكبر كان يمكن أن يخصصه للعمل أكثر على الاستراتيجية.
وكانت مارغريت تاتشر إحدى أبرز الأمثلة على هذه الظاهرة، إذ كان جميع من عملوا معها على علم بتصرفاتها عديمة الرحمة عندما يفشل شخص ما في الاستعداد بشكل مثالي كما تفعل. وكانت قادرة على إذلال موظفيها على الملأ فضلاً عن أنها كانت مستمعة سيئة الصيت وتؤمن أن الحلول الوسط دليل على الجبن. وعندما بات لقبها عالمياً "المرأة الحديدية"، أصبحت تاتشر مقتنعة أكثر فأكثر بصحة أفكارها وضرورة أساليبها القسرية، إذ كان بإمكانها إركاع أي شخص بقوة خطابها وإدانتها، والذي كان يزداد قسوة وشدة. وفي نهاية المطاف، تسبب ذلك في هزيمتها، إذ طردتها حكومتها نفسها.
إطار تفكير مرن
تؤدي المراقبة للذات في العادة إلى إنتاج هذا المفهوم الجامد حول النفس؛ إذ إننا نعزز من دون قصد طرقنا القديمة في رؤية العالم وآرائنا التي عفا عليها الزمن وذلك في كل مرة نعود فيها إلى ذواتنا الداخلية لمحاولة إيجاد إجابة. وستبقى أنماط التفكير والتصرفات القديمة متمترسة في داخلنا ما لم نستفد مما أدعوه "استبصار العوامل الخارجية"، والذي هو المنظور الخارجي القيّم الذي نحصل عليه من تجربتنا لسلوكيات قيادية جديدة. وبهدف بدء التفكير كقادة، علينا أولاً القيام بأداء بعض الأمور على غرار الغوص في مشاريع وأنشطة جديدة والتفاعل مع فئات متنافرة جداً من الناس وتجربة طرق جديدة لإنجاز الأمور. كما يجب أن نقوم بالتفكير والتأمل بعد التجربة، وليس العكس، وخصوصاً في أوقات الانتقال وعدم اليقين. ويستحق التصرف الذي يغيّر من ذواتنا وما نؤمن به القيام به.
ولحسن الحظ، هناك طرق لزيادة الاستبصار والتطور تجاه طريقة القيادة "الأصيلة التكيفية"، لكنها تتطلب إطار تفكير مرن. فكر في تطوّر القيادة كمحاولة لتطوير ذواتنا بطريقة قابلة للتحقيق بدلاً من محاولة تغييرها بالكامل، وسيجعلك هذا الأمر قادراً على تقبل تلك الفكرة أكثر. وعندما نتبنى موقفاً فكرياً مرناً، نكون أكثر انفتاحاً على الاحتمالات، ولكن لا بأس من التفاوت بين يوم وآخر، حيث لا يُرى ذلك على أنه زيف؛ بل يمثل الطريقة التي نجرب من خلالها معرفة ما هو مناسب للتحديات والظروف الجديدة التي نواجهها وما هو ليس كذلك.
ويقترح بحثي ثلاث طرق مهمة للبدء:
التعلم من نماذج القدوة المتنوعة
ويتضمن التعلم في غالبه شكلاً من أشكال المحاكاة؛ بمعنى آخر، فهم أن لا شيء "أصلي". وتمثل رؤية الأصالة على أنها القدرة على أخذ العناصر التي تعلمتها من أنماط الآخرين والسلوكيات ودمجها في داخلك، بدل رؤيتها كحالة أصيلة، جزءاً مهماً من نموك كقائد.
لكن عليك هنا عدم تقليد أسلوب القيادة الخاص بشخص واحد فقط، بل الاستفادة من نماذج قادة متنوعة، إذ إن ثمة فرق كبير بين تقليد شخص بالكامل والاقتراض الانتقائي من شخصيات مختلفة لإنشاء شخصيتك الخاصة والتي يمكنك تعديلها وتحسينها كيف ما تريد. وكما قال الكاتب المسرحي ويلسون ميزنر ذات مرة، "تقليد مؤلف واحد يدعى سرقة أدبية، في حين تقليد الكثير منها يدعى عملية بحثية".
ولاحظتُ بدوري أهمية هذا النهج لدى دراستي للمصرفيين والاستشاريين في مجال الاستثمار ممن كانوا ينتقلون من أدوار متصلة بالعمل التحليلي والمشاريع إلى تقديم المشورة للعملاء والترويج لمشاريع جديدة. وعلى الرغم من شعور معظمهم بعدم الكفاءة وقلة الأمان في مناصبهم الجديدة، قام من ينتمون إلى فئة "الحُرابي" منهم بتعلم أساليب وتكتيكات من كبار القادة الناجحين، إذ كانوا يتعلمون، من خلال المحاكاة، كيفية استخدام الفكاهة لكسر التوتر في الاجتماعات مثلاً وكيفية تقديم رأي من دون الظهور كمتعجرفين. وفي الأساس، كان الحرابى يقدمون صورة مختلقة في كل مرة لغاية عثورهم على الصورة المناسبة لهم. وقام مدراؤهم بدورهم في تقديم التدريب والتوجيه ومشاركة معارفهم معهم عندما لاحظوا جهودهم تلك.
ونتيجة لذلك، حاز الحرابي في تلك الدراسة بسرعة على أسلوب أصيل وماهر خاص بهم مقارنة بفئة الأوفياء لأنفسهم، والذين واصلوا التركيز بدورهم فقط على إظهار قدراتهم التقنية. وغالباً ما كان الأوفياء لأنفسهم في كثير من الأحيان يصلون إلى خلاصة مفادها أن مدراءهم كانوا "كثيري الكلام وقليلي العمل"، الأمر الذي قلل من رغبتهم في اتخاذهم قدوة لهم. وصعّب هذا الأمر عملية المحاكاة عليهم نظراً لعدم وجود قدوة "مثالية" لهم، ما أشعرهم بالزيف. وما زاد الطين بلة أن مدراءهم كانوا يرون بدورهم أن عدم قدرة أولئك الفئة على التكيف تمثّل قلة جهد أو استثمار، بالتالي لم يقدموا لهم قدراً كبيراً من التوجيه والتدريب كما فعلوا مع الحرابي.
العمل على التحسن
يساعدنا تحديد أهداف للتعلم (بالإضافة إلى أهداف للأداء) على اختبار هوياتنا دونما الشعور وكأننا منتحلون، على اعتبار أننا لا نتوقع إنجاز كل شيء بشكل صحيح من أول محاولة. وسيساعدنا هذا الأمر على التوقف عن محاولة حماية ذواتنا القديمة المريحة من التهديدات التي يمكن أن يجلبها التغيير، والبدء في استكشاف أنواع القادة التي يمكننا أن نكون عليها.
ونريد جميعنا بالطبع أن نحقق أداء جيداً في المواقف الجديدة، وتقديم الاستراتيجية الصحيحة في موضعها الصحيح، والعمل بشكل متميز، وتحقيق النتائج التي تهتم بها المؤسسة. لكن يجعلنا التركيز الحصري على هذه الأشياء خائفين من المخاطرة والتي هي مفيدة بدورها للتعلم. ففي سلسلة من التجارب المبدعة، أوضح عالم النفس في ستانفورد كارول دويك كيف يمنع القلق حول كيف يرانا الآخرون تعلمنا لمهام جديدة أو غير مألوفة. وتحفزنا أهداف الأداء على إظهار امتلاكنا سمات قيّمة أمام الآخرين، مثل الذكاء والمهارة الاجتماعية، وبرهنة امتلاكنا لها لأنفسنا أيضاً، بينما تحفزنا أهداف التعلم على تطوير سمات قيمة.
وعندما نكون في نمط الأداء، تكون القيادة هنا متصلة بكيفية تقديمنا لأنفسنا بأفضل شكل ممكن. أما في نمط التعلّم، فيمكننا التوفيق بين التوق إلى الأصالة في طريقة عملنا وبين القيادة مع الرغبة في النمو في القدر ذاته. وكان أحد القادة الذين قابلتهم ذي كفاءة كبيرة جداً في الاجتماعات الصغيرة، لكنه كان يعاني في توصيل انفتاحه على الأفكار الجديدة في الاجتماعات الأكبر، حيث كان يتمسك في كثير من الأحيان بالعروض التقديمية طويلة الأمد خشية أن تتسبب تعليقات الآخرين في انحرافه عن مساره. لاحقاً، وضع لنفسه قاعدة "عدم استخدام باوربوينت" لتطوير نمط أكثر استرخاءً، وتعلَّم الارتجال، وهو ما تسبب بمفاجأته هو نفسه بما تعلمه عن تفضيلاته التي تطورت أكثر وأيضاً حيال القضايا التي كان يتم تداولها.
لا تبقَ عالقاً مع "قصتك".
لدى معظمنا روايته الخاصة عن اللحظات المصيرية التي علمته دروساً مهمة، إذ تقوم قصصنا وصورنا بإرشادنا في المواقف الجديدة، بوعي أو بدون وعي. لكن تتقادم تلك القصص بدورها مع مرور الزمن، بالتالي يغدو علينا في بعض الأحيان تغييرها بشكل كبير أو حتى التخلص منها والبدء من نقطة الصفر.
وقد كان هذا صحيحاً في حالة ماريا، القائدة التي نظرت إلى نفسها على أنها "الدجاجة الأم وصيصانها حولها". وتوضح مدربتها، الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة أوجيلفي آند ماذر (Ogilvy & Mather)، شارلوت بيرز، في كتابها "من الأفضل أن تملأك الحماسة" (I Rather Be Charge ) أن سبب نمو هذه الصورة الذاتية في داخل ماريا كان اضطرارها في الماضي إلى التضحية بأهدافها وأحلامها لرعاية أقاربها. لكن باتت تلك النظرة في نهاية المطاف تشكل عقبة في حياتها المهنية، إذ أنه وعلى الرغم من أدائها الوظيفي كشخص ودود ومخلص ومسالم، لم يتسبب ذلك في حصولها على المنصب القيادي المهم الذي أرادته. وحاولت ماريا ومدربتها البحث عن لحظة حاسمة أخرى لاستخدامها في تكوين صورتها الذاتية تكون أكثر تناغماً مع مستقبل ماريا المنشود، وأكثر تنافراً مع ما كانت عليه في الماضي. واختارت ماريا ومدربتنا الفترة التي تركت فيه ماريا، كفتاة شابة، عائلتها للسفر حول العالم مدة 18 شهراً. وبناء على هذا الشعور الجريء بالذات، طلبت ماريا ترقية كانت في السابق بعيدة المنال عنها، ونالتها.
ويصف دان ماك آدامز، أستاذ علم النفس في جامعة نورث وسترن الذي قضى حياته المهنية في دراسة قصص الحياة، الهوية بأنها "القصة الداخلية والمتطورة التي تنتج عن الاعتماد الانتقائي للشخص على ماضيه وحاضره ومستقبله". ويضيف مكادامس بأنه يتعين على المرء تصديق قصته، وأيضاً تقدير كيف تتغير مع مرور الوقت بحسب حاجاته. جرّب قصصاً جديدة عن نفسك، واستمر في تعديلها، تماماً كما تفعل مع سيرتك الذاتية.
ومن جديد، تعد عملية تنقيح الفرد لقصته عملية داخل المرء وأيضاً مع الآخرين في الوقت نفسه، إذ يجب أن تلخص القصص التي نختارها تجاربنا وتطلعاتنا، كما يجب أن تعكس المطالب التي نواجهها وتتناغم مع الجمهور الذي نحاول كسبه.
وتخبرك الكتب والمستشارون الذين لا حصر لهم أن رحلة القيادة الخاصة بك تبدأ مع إحساس واضح بمن أنت، لكن يمكن أن يتسبب ذلك في بقائك عالقاً في الماضي، إذ يمكن للهوية الخاصة بقيادتك أن تتغير، ويجب عليها أن تتغير، في كل مرة تنتقل فيها إلى أشياء أكبر وأفضل.
وتتمثل الطريقة الوحيدة التي ننمو بها كقادة في توسيع حدود من نحن؛ بمعنى آخر، القيام بأشياء جديدة تجعلنا غير مرتاحين لها في البداية، لكنها تعلمنا ما نريد أن نكون عليه من خلال التجربة المباشرة. ولا يتطلب مثل هذا النمو تحولاً جذرياً في الشخصية، إذ غالباً ما تصنع التغييرات الصغيرة، أي تلك التي نرى فيها أنفسنا، والطريقة التي نتواصل بها، والطريقة التي نتفاعل بها، عالماً من الاختلاف في مدى قيادتنا الفعالة.