أصبحنا جميعاً ندرك بصورة مؤلمة أن النقص الحاد في المستلزمات الطبية كأقنعة الوجه وأجهزة التنفس الصناعي والطاقة الاستيعابية لوحدات الرعاية المركزة والطواقم الطبية، يعيق الجهود البطولية التي يبذلها العاملون في مجال الرعاية الصحية حول العالم لمواجهة هذه الجائحة.
والآن، أكثر من أي وقت مضى، هناك حاجة ماسة إلى استراتيجيات وممارسات إدارية مناسبة لسلاسل التوريد من أجل استغلال الموارد الشحيحة على النحو الأمثل والتخفيف من حدة النقص وزيادة الطاقة الاستيعابية بشكل سريع. وفي حين أن الإدارة الجيدة لا يمكن أبداً أن تكون بديلاً عن الأطباء الممارسين الماهرين والمتفانين في عملهم، إلا أن تحسين إدارة سلاسل التوريد أمر ضروري للغاية لضمان توافر الموارد اللازمة لكي يؤدي هؤلاء الأطباء عملهم.
يمكن أن تساعد هذه المقالة، التي تركز على أفضل الممارسات في إدارة سلاسل التوريد والعمليات، المستشفيات التي تواجه صعوبات في ظل هذه الأزمة وكذلك مقدمي الرعاية الصحية الآخرين على زيادة فرص حصولهم على تلك الموارد. وهي قائمة على حقيقة أساسية: أن معالجة النقص في الموارد والقيود المفروضة على التوريدات تتطلب استراتيجية شاملة تهدف إلى حل جذور المشكلة في جانبي العرض والطلب.
إدارة الطلب
تتسبب الأوبئة في حدوث طفرة هائلة على الطلب في نُظم الرعاية الصحية التي تعمل بالفعل بكامل طاقاتها تقريباً. وفي حين أن تدابير التباعد الاجتماعي والقيود المفروضة على السفر ونظام الوقاية بالبقاء في المنزل فعالة في تقليص الطلب، إلا أنها ليست إلا جزءاً من الحل. فلا يزال من الضروري إدارة طريقة دخول المريض وتنقله عبر الوحدات المختلفة لنظام تقديم الرعاية الصحية.
إدارة سير المرضى تعني التحديد على نحو استباقي كيف ومتى وأين سيتلقى المرضى (المصابين وغير المصابين) الرعاية الصحية فيما بين تلك الوحدات. فأثناء تفشي عدوى "كوفيد-19"، أُجبرت المستشفيات على إعادة تصميم سير المرضى بصورة آنية، ما يعني مواجهة مسائل من قبيل: أي نوع من أنواع الرعاية يمكن تقديمه في مكان آخر بدلاً من المستشفى (حتى ولو كان المنزل)؟ ما هي الإجراءات التي يمكن تأجيلها بأمان بالنسبة للمرضى؟ ما هي السياسات التي يمكننا وضعها لتحديد مدة احتياج المرضى (المصابين بعدوى "كوفيد -19" وغير المصابين به) إلى البقاء في المستشفى أو إلى شغل سرير في وحدة الرعاية المركزة؟
للمساعدة في التخفيف من اكتظاظ النظام الصحي، يجب على المدراء في مجال الرعاية الصحية اتباع هذين المبدأين:
1. الانتباه إلى أشكال الاعتماد المتبادل بين النُظم والعواقب غير المقصودة.
تتألف نُظم الرعاية الصحية من العديد من وحدات الرعاية المتداخلة، والطلبات فيما بينهم ليست مستقلة. على سبيل المثال، في غرف الولادة هناك طلب على رعاية ما بعد الولادة ورعاية الأطفال حديثي الولادة. أوجه الاعتماد المتبادل بين النظم تعني أن التغييرات في أحد أجزاء النظام يمكن أن تسفر عن عواقب غير مقصودة.
على سبيل المثال، وجدت دراسة حول وحدة الرعاية المركزة أجراها ديواس سينغ كيه سي وكريستيان ترويش أن وحدات الرعاية المركزة عندما بلغت كامل طاقتها الاستيعابية، استجاب الأطباء لذلك بتقليل مدة بقاء المرضى فيها. بالطبع ساعدت استراتيجية الإخراج "المبكر" هذه على توفير الطاقة الاستيعابية على المدى القصير ولكن كانت هناك عواقب غير مقصودة، فقد رفعت معدل إعادة دخول المرضى إلى وحدة الرعاية المركزة، وبالتالي ازداد الطلب على وحدة الرعاية المركزة (مع تقليص الطاقة الاستيعابية لوحدة الرعاية في أوقات الذروة بصورة فعلية). وبالتالي فإن الأثر العام لهذه الدراسة هو الحرص على عدم جعل وضع الطاقة الاستيعابية أسوأ بدون قصد من خلال تحويل المرضى من وحدات رعاية محددة. كما أن تأجيل تقديم الرعاية الروتينية إلى قطاعات عريضة من المصابين، وهي استراتيجية يتبعها عدد كبير من المستشفيات اليوم، قد يؤدي إلى توفير وهمي في اقتصاديات التشغيل إذا كان بعض المرضى سيحتاجون إلى رعاية مكثفة بشكل أكبر في وقت لاحق نتيجة لهذا التأجيل.
الدرس المستفاد من ذلك هو أنه يجب تصنيف المرضى بدقة وفقاً للخطر الناجم عن التأجيل لإدارة ليس حالتهم الصحية الحالية فحسب، بل طلبهم المستقبلي على الموارد الصحية التي بها نقص شديد في المستقبل. وفي سياق وباء "كوفيد-19"، على سبيل المثال، ينبغي لنا أن نكون غاية في الحرص عند تأجيل تقديم الرعاية الصحية التي يمكن أن تزيد من خطر حاجة المريض إلى وحدة الرعاية المركزة أو إلى جهاز تنفس صناعي لبضعة أسابيع في المستقبل، حيث إن النقص الشديد في الطاقة الاستيعابية لوحدة الرعاية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي بسبب الطلب عليها نتيجة لتفشي عدوى "كوفيد -19" هو مشكلة كبيرة بالفعل، فلا ينبغي لنا أن نزيدها سوءاً باتخاذ قرارات خاطئة حول كيفية علاج المرضى غير المصابين بـ "كوفيد -19".
كما أن العمل من منظور النظام يعني أنه ينبغي لمقدمي الرعاية الصحية أخذ الموارد المتاحة والمعوقات والإمكانات الموجودة خارج نطاقهم في الاعتبار، حيث تنزع المستشفيات التي تعاني من ضغط شديد إلى تركيز اهتمامها على موارد المستشفى (مثل الأسرّة والطاقم الطبي). ولكن المستشفيات بفعلها ذلك تخاطر بتجاهل القيود التي يواجهها مقدمو الرعاية الصحية المجتمعية والمنزلية الذين تعاني طواقمهم وبنيتهم التحتية من الإنهاك بالفعل. نعم، تحويل المرضى ذوي الحالات غير الحرجة من المستشفيات إلى الرعاية المنزلية يساعد في توفير الطاقة الاستيعابية للمستشفيات للمرضى ذوي الحالات الحرجة ويقلل فرص الإصابة بالعدوى. إلا أن هذه الاستراتيجية يلزم تكميلها بالبنية التحتية والتقنيات المناسبة (مثل وحدات الرعاية المتنقلة وإمكانات الطبابة عن بُعد) للإشراف على تلك الرعاية وتنسيقها. وإن لم يحدث ذلك، قد ينتهي الأمر بأن يصبح الكثير من المرضى الملازمين للمنزل في حاجة إلى العلاج في المستشفى أو إلى رعاية مركزة في وقت لاحق.
2. التنبؤ بالطلب على المدى القصير.
عندما يزداد الطلب بشكل هائل وتنوء النظم بالأعباء، قد يبدو أنه من غير المجدي بذل الجهود للتنبؤ بما سيكون عليه الطلب بعد أسبوع أو أسبوعين. ففي النهاية ما الاختلاف الذي سيُحدثه الإفراط في استخدام النظام بنسبة 25% أو 50%؟ حيث أن لكلا النسبتين عواقب وخيمة. ولكن عندما يتحمل النظام ما يفوق طاقته، يمكن أن يكون للاختلافات من أسبوع لآخر في عدد الحالات تأثير كبير على استخدام المستشفيات لمواردها. وبالتالي في حين أنه لا يوجد تنبؤ دقيق، إلا أن بعض الوضوح حول ما قد يكون عليه الطلب في المستقبل القريب يعطي المستشفيات والمواقع الأخرى التي تقدم الرعاية الصحية الفرصة لكي يخططوا لحركة المرضى بصورة استباقية (بأن يتبعوا استراتيجيات تحويلية استباقية، على سبيل المثال).
هناك الآن ما يكفي من البيانات من جميع أنحاء العالم حول معدلات الإصابة بعدوى "كوفيد -19" وتأثيرها على مقدمي الرعاية الصحية، ما يساعد مقدمي الرعاية المحليين على وضع تنبؤات تقريبية ولكنها مفيدة بما يكفي على المدى القصير، مع أخذ الكثافة السكانية في الحسبان وكذلك سياسات التباعد الاجتماعي ومعدلات اختبارات الكشف اليومية عن الإصابة بالفيروس التي يمكن إجراؤها والوقت الذي يتطلبه تحليل العينات، وما إلى ذلك.
كما سنناقش فيما يلي، التنبؤ الجيد بالغ الأهمية أيضاً لإدارة نقص التوريدات والعقبات.
إدارة مشكلات التوريد وإزالة العقبات
ينبغي استكمال إدارة الطلبات باستراتيجيات فعالة من أجل إدارة توريدات الموارد اللازمة لرعاية المرضى، ومن الواضح أنها لن تكون مهمة سهلة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع مرض شديد العدوى مثل "كوفيد -19". لكنه أمر بالغ الأهمية وعدم القيام به يؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة، كما نرى الآن بالفعل.
فالحالات المصابة بمرض "كوفيد -19" تزيد من الطلب على الاختبارات والطاقم الطبي. وهذه الزيادة في الطلب على الاختبارات تؤدي مبدئياً إلى نقص في مستلزمات الاختبارات (وبالتالي تأخُّر إجراء الاختبارات). فالطاقم الطبي في حاجة إلى ملابس واقية لإجراء الاختبارات ولعلاج المرضى. إذن ليس من غير المستغرب أن تؤدي زيادة أعداد المرضى إلى حدوث نقص في أقنعة الوجه ومعدات الوقاية الأخرى.
وهذا النقص في كل من مستلزمات الاختبارات ومعدات الوقاية يجعل الطاقم الطبي عرضة للعدوى. في إيطاليا، يشكل مقدمو الرعاية الصحية 9% من إجمالي الحالات المصابة بمرض "كوفيد -19"، وفي إسبانيا يشكلون 14%. وأصبح الآن معدل الإصابة كبيراً بين العاملين في مجال الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وفقاً لتقارير نُشرت في صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) وصحيفة "بوسطن غلوب" (Boston Globe). لا تؤدي المعدلات المرتفعة للإصابة بين العاملين في مجال الرعاية الصحية إلى مفاقمة النقص الشديد في عدد العاملين فحسب، ولكنها أيضاً تزيد من الطلب إذا أصبح العاملون المصابون بمثابة عوامل لنقل العدوى للمرضى غير المصابين بمرض "كوفيد -19". ومن ثمّ فإن التحدي الأساسي في التعامل مع نقص التوريدات هو كسر تلك الحلقات المفرغة. ولا توجد طريقة واحدة صحيحة لفعل ذلك، إلا أن تطبيق بعض المبادئ الواردة أدناه قد يساعد في ذلك.
إزالة العقبات بطريقة منهجية. هذا لا يعني التركيز على العقبات الحالية فحسب، ولكن أيضاً تحديد العقبات المحتملة في المستقبل (أي التنبؤ بها) ومعالجتها قبل أن تحدث أو تتفاقم.
التعامل مع النقص الحاد يعني تحديد الأسباب الجذرية للنقص وتركيز الجهود في هذا الجانب لزيادة التوريدات المتاحة أو تعزيزها (وهو ما سنناقشه لاحقاً). ولأن العاملين جزء من الموارد بالغة الأهمية في كل مرحلة تقريباً من مراحل تقديم الرعاية الصحية، فإن حماية صحتهم ينبغي أن تكون على قمة الأولويات. فزيادة إنتاج أجهزة التنفس الصناعي أو زيادة عدد الأسرّة في وحدة الرعاية المركزة سيكون مفيداً فقط إذا كان هناك طاقم طبي متاح لتشغيل تلك الأجهزة الجديدة ورعاية المرضى.
في سلاسل التوريدات المترابطة للغاية، من السهل أن تنتقل العقبات. على سبيل المثال، إذا كان إجراء الاختبارات يتوقف على توافر الماسحات القطنية، فلن يفيد كثيراً توفير المزيد من معدات الاختبار أو زيادة الطاقة الاستيعابية للمعامل لتحليل العينات. ويقتضي استباق النقص في التوريدات التنبؤ بالعقبة التالية التي ستواجه النظام، ما يتطلب توافر معلومات ممتازة حول المخزون المتاح في سلسلة التوريد بأكملها (وليس فقط المخزون المتوفر لدى مورّد واحد) وحول قدرة الموردين وأنماط الطلب ومعدلات الاستهلاك.
كما هو الحال في التنبؤ بالطلب، لا نحصل على نتائج دقيقة عند التنبؤ بالعرض. ولكن التنبؤ بالعرض يوفر رؤية واضحة حول الحالة المستقبلية لسلسلة التوريد، ويمكّن المؤسسات من تحديد جوانب النقص المحتملة بشكل استباقي، وبذلك يتوفر لديها الوقت لحل المشكلة. في مؤسسات الرعاية الصحية في الوقت الحالي، من الطبيعي التركيز على النقص في أجهزة التنفس الصناعي وأقنعة الوجه والملابس الواقية والماسحات، إذ يجب مواجهة هذا النقص بصورة عاجلة. ولكن ينبغي لمدراء المستشفيات إدراك أن نقص تلك المستلزمات والموارد في المستقبل أمر محتمل. وبالتالي كلما تم تحديد النقص بشكل أسرع، زادت فرص إيجاد حلول له قبل أن يصبح نقصاً حاداً.
تبادل الموارد وتنسيقها فيما بين المؤسسات. من المبادئ المعروفة جيداً في إدارة سلاسل التوريد أن كمية المخزون المطلوبة لتلبية مستوى محدد من الطلب تقل مع تقلص عدد أماكن الاحتفاظ بالمخزون. فالمركزية تقلل الاحتياجات من المخزون نظراً إلى الآثار المفيدة لتجميع الطلبيات غير المترابطة من مواقع مختلفة (بمعنى أنه في حين أن بعض الأماكن قد تشهد طلباً أعلى من المتوقع وتحتاج إلى كمية أكبر من المخزون، إلا أن التوازن سيتحقق بالأماكن التي تشهد طلباً أقل من المتوقع وبالتالي تحتاج إلى كمية أقل من المخزون). وهنا يمكن أن يؤدي السلوك الإقليمي فيما يتعلق بالتوريدات حسب الولايات أو المستشفيات داخل الولايات أو حتى الأقسام داخل كل مستشفى إلى تفاقم حالات النقص بشكل كبير.
الجزء المهم في التجميع لا يتعلق بتبادل المخزون المادي فحسب، بل أيضاً بتبادل المعلومات حول المخزون، أي: المعلومات المتوفرة حول ما هو متاح وبأي كمية وما هو موقعه. بالطبع المعلومات الجيدة والمفيدة لن تجعل النقص في المستلزمات المادية يختفي بطريقة سحرية، ولكن المعلومات الخاطئة يمكن بالتأكيد أن تفاقم حالات النقص. وعدم توفر المعلومات يخلق حالة من الغموض، ما يمكن أن يؤدي إلى التخزين "من باب الاحتياط".
كخطوة أولى، من الضروري للغاية إزالة الحواجز بين الأقسام واستخدام المخزون على النحو الأمثل داخل المستشفى. ومع ذلك، في أوقات الأزمات، ينبغي للمستشفيات التفكير في المضي خطوة أبعد من خلال تقاسُم المخزون وإدارته (بما في ذلك تبادل المعلومات) داخل نظام الرعاية الصحية الخاص بها وحتى عبر النظم الصحية داخل المنطقة نفسها. وهذا يعني تبادل المخزون فيما بين المستشفيات التي قد تتنافس على المرضى في الأوقات العادية. ولكن إذا حاولت المستشفيات شراء المستلزمات بشكل استباقي لكسب ميزة على منافسيها، فإن ذلك قد يُفاقم حالات النقص ببساطة.
لا ينطبق تبادل المخزون على المخزون المادي فحسب، بل ينبغي تطبيقه على المعدات التي يمكن نقلها بسهولة من مستشفى إلى أخرى. كما يمكن أيضاً تبادل الطاقم الطبي فيما بين المستشفيات. في هولندا، على سبيل المثال، توافر الأسرّة في وحدة الرعاية المركزة يُدار على الصعيد الوطني، وبالنسبة إلى الخدمات الأخرى، كخدمات التوليد، فإن ما يصل إلى 10 مستشفيات تتنافس في الأوقات العادية، تُبلغ عن توافر أسرّتها على الصعيد الإقليمي، بحيث يمكن إدارة الأسرّة باعتبارها مورداً واحداً وتُخصَّص للمرضى من خلال مركز اتصال واحد.
من الناحية الفنية، لا شيء من هذا يُعد صعباً بصفة خاصة. فأجهزة التنفس الصناعي في أحد المستشفيات أو ممرضو وحدة الرعاية المركزة العاملين فيها من المفترض أنهم سيكونون بالفاعلية نفسها في مستشفى أخرى في المدينة. ولكن تكمن الصعوبة في جعل قادة المستشفيات يغيرون طريقتهم في التفكير. فيجب التمييز بين وقت التنافس ووقت التعاون، وعند انتشار وباء ما يحين وقت التعاون بالتأكيد.
الابتكار والتعلم بصورة آنية. تتطلب مواجهة حالات النقص حلولاً تقنية وتنظيمية. لذا، استجابة لنقص أقنعة الوجه (وخاصة الأقنعة من نوع "إن95" أو N95)، تعمل الكثير من المستشفيات على تطوير وإنتاج تصميمات بديلة قد تكون مناسبة للتعامل مع المرضى غير المصابين بمرض "كوفيد -19". ويُعد توظيف وحدات رعاية ما بعد التخدير لتصبح وحدات للرعاية المركزة، مثالاً آخر على الابتكار الذي يحدث في بعض المستشفيات.
يمكن توظيف الأصول البشرية في أغراض أخرى أيضاً. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، تم تدريب الممرضين العامين على التعامل مع أجهزة التنفس الصناعي تحت إشراف ممرض متخصص في الرعاية المركزة، ما يعني زيادة عدد المرضى الموضوعين على جهاز التنفس الصناعي الذين يمكن للممرض المتخصص الواحد رعايتهم بفاعلية.
تُعد بعض تحديات إعادة توظيف الموارد لأغراض أخرى من الأمور ذات الطبيعة المؤسسية أو التنظيمية أكثر منها تقنية. على سبيل المثال، تشترط معظم الدول أو الجمعيات المهنية حصول المتخصصين في مجال الرعاية الصحية على شهادات ليتمكنوا من أداء مهام معينة. ولكن تخفيف هذا الشرط يمكن أن يساعد في التخفيف من النقص في عدد العاملين.
ينطوي أي نوع من الابتكار على مخاطر، فمثلاً: هل الأقنعة المؤقتة آمنة حقاً؟ هل وحدات رعاية ما بعد التخدير فعالة بقدر وحدات الرعاية المركزة المعتادة؟ هل ستسوء جودة الرعاية بالسماح للممرضين العامين بتشغيل أجهزة التنفس الصناعي تحت إشراف الممرضين المتخصصين؟ تحت الضغط الشديد ليس لدى المستشفيات ببساطة الوقت لانتظار الحصول على إجابات قاطعة عن تلك الأسئلة أو لاتباع النهج التقليدي في تطبيق ممارسات جديدة (بإجراء تجارب سريرية لفترات طويلة، على سبيل المثال). ولكن المطلوب هو بيانات، يتم جمعها وتحليلها ومشاركتها بصورة آنية، لتوفير معلومات قيّمة حول ما هو ناجع وآمن، وما هو عكس ذلك.
المستشفيات ومقدمو الرعاية الصحية بحاجة إلى تجربة مقاربات جديدة، ولكنهم أيضاً بحاجة إلى مشاركة المعلومات بشكل صريح لكي يتمكن الآخرون من التعلم ويتمكن الجميع من إجراء التعديلات التصحيحية المناسبة في منتصف المسار. وتقديم المعلومات الجيدة والملاحظات السريعة يمكن أن يسرِّع وتيرة التعلم اللازم لاكتشاف مقاربات مبتكرة وتنفيذها وتعميمها.
التركيز على المعلومات وسرعة اتخاذ القرار والتعلم
أزمة "كوفيد-19" تختبر كلاً من الكفاءات الطبية والإدارية لنظم الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم. كما أن التعامل مع الضغوط التشغيلية التي تشكِّلها هذه الأزمة يتطلب جهوداً متسقة وشاملة ومنهجية تمتد إلى كل من قوى العرض والطلب. ولتنفيذ هذه الجهود، يحتاج المدراء في مجال الرعاية الصحية إلى التركيز على المعلومات وسرعة اتخاذ القرارات والتعلم.
للمعلومات أهمية بالغة في كل شيء. كل ممارسة من الممارسات التي أوصينا بها أعلاه تتوقف على توافر معلومات عالية الجودة وبسرعة كبيرة. فأنت لن تتمكن من التنبؤ بأعداد المرضى دون توافر معلومات ممتازة حول أشياء مثل عدد الاختبارات التي أُجريت وعدد الأشخاص المصابين ومواقعهم وأين كانوا ومع مَن تعاملوا، وما إلى ذلك. وأيضاً لن تستطيع التنبؤ بنتائج المقاربات الجديدة المتبعة في التعامل مع أعداد المرضى دون توافر معلومات جيدة حول الطلب والعرض الحالي في أجزاء مختلفة من النظام. ولا يمكنك التنبؤ بالعقبة التالية دون توافر معلومات حول الطلب في المستقبل ومعدلات الاستخدام ومستويات المخزون الحالية. فالقدرة على إجراء الاختبارات والمدة الزمنية اللازمة لإنجازها تُعد من الأمور المهمة ليس لأسباب طبية فقط، ولكن لأنها توفر المعلومات اللازمة لوضع خطط التشغيل وتكييفها بشكل استباقي.
سرعة اتخاذ القرارات. يهاجم مرض "كوفيد -19" بوتيرة يصعب تحديدها أو قياسها، وليس للقوانين الحكومية أو الإيقاعات البيروقراطية أو المكائد السياسية أو النظم الإدارية أو القواعد المؤسسية أي دخل فيها. لذا فإن الحصول على معلومات آنية عالية الجودة يصبح عديم الفائدة في حال كان المدراء الذين يديرون نُظم الرعاية الصحية غير مستعدين وغير قادرين على الاستجابة بسرعة لتلك المعلومات.
ومن ثمّ فإن التحدي الذي يواجه مدراء الرعاية الصحية هو تحقيق التوازن بين قيمة التنسيق المركزي وتبادل المعلومات مع ضرورة تحلي الأطباء وطاقم التمريض الذين يعملون في الخطوط الأمامية بالمرونة والقدرة على الاستجابة. فالهياكل الهرمية، التي عادة ما تكون بطيئة في أفضل الأوقات، غير كافية تماماً للتعامل مع أزمة سريعة التطور. والقيادة الرشيدة في أوقات الأزمات تعني التركيز على توفير الموارد للعاملين في الخطوط الأمامية ومنحهم سلطة اتخاذ القرار الذي يحتاجون إليه لحل المشكلات بسرعة والتعلم منها.
التركيز على التعلم. يكاد يكون من الحتمي أن تذهب الأزمات بالمؤسسات إلى منطقة مجهولة. فيلزم إعادة كتابة الأدلة الإرشادية بسرعة كبيرة وتحت ضغوط شديدة. وكل ما ناقشناه في هذه المقالة يتطلب التعامل مع أسئلة إجاباتها غير معروفة بشكل كامل أو تتغير يومياً. كما أن انتظار الحصول على المعلومات الوافية ليس خياراً.
في ظل هذه الظروف يصبح التنفيذ عبارة عن مجموعة من التجارب والإخفاقات. وهذه الإخفاقات (أو "الأخطاء") هي نتيجة حتمية لفعل شيء جديد، وليست دلالة على انعدام الكفاءة. كما أن التعلم من التجارب، بما في ذلك تلك التي لم تنجح، يُعد أمراً بالغ الأهمية، ولكنه لا يمكن أن يحدث إلا إذا أوجد قادة المؤسسات بيئة آمنة نفسياً وتتسم بالشفافية. ومؤسسات الرعاية الصحية التي ستكافح مرض "كوفيد -19" على أفضل نحو لن تكون بالضرورة تلك التي لديها الإجابات الصحيحة، وإنما تلك التي يمكنها أن تتعلم بشكل أسرع.