هل سنشهد أخيراً نهاية النموذج التقليدي لإدارة العمليات بالقيادة والسيطرة، الذي بقي مهيمناً على مدى عدة عقود سادتها حالة نسبية من الاستقرار وسهولة التنبؤ بالأحداث؟ تشير الدلائل التي نراها كلها إلى أن الإجابة هي “نعم”. في عالم ما بعد الجائحة، الذي يتسم بالتقلب والعشوائية في العرض والطلب، لم تعد الشركات قادرة على حصر اتخاذ القرار بالإدارة العليا. فهذا الأسلوب يتضارب مع الرشاقة والمرونة والسرعة المطلوبة في عالم من الزعزعة والتقلب المزمنين.

وعلى الرغم من أن نموذج القيادة والسيطرة كان يتراجع ببطء على مدى السنوات الماضية، فقد رأينا انهياره النهائي خلال جائحة كوفيد. ففي خضم الفوضى والتقلبات الناجمة عن الاضطرابات التي تسببت بها الجائحة، اضطرت الشركات إلى التخفيف من سيطرة الإدارات العليا على عملية اتخاذ القرار. وقد كان هذا أمراً ضرورياً حتى تستطيع الشركات الحفاظ على بقائها. فعندما كانت السلع الأساسية تختفي بسرعة من رفوف المتاجر من دون سابق إنذار، وكانت مخزونات المواد الأولية والمكوّنات الأساسية تنفد بسرعة، لم يكن هناك ببساطة ما يكفي من الوقت أمام مدراء العمليات لجمع البيانات، وتحليلها، وتقديم توجيهات الاستجابة الضرورية إلى فرق العمليات. كان على الشركات أن تتصرف بسرعة، بالاعتماد على أفضل المعلومات المتاحة لديها، وقد كان الأشخاص المناسبون لاتخاذ هذه القرارات هم الأقرب إلى الأحداث الجارية.

كانت هذه النقلات دلالة تشير إلى ظهور نموذج جديد لإدارة العمليات، حيث كان الهدف تحسين استجابة العمليات للتهديدات والفرص من حيث الدقة والسرعة من خلال توزيع صلاحيات اتخاذ القرار على مناصب المؤسسة الوظيفية الأكثر قدرة على اتخاذ هذه القرارات.

على سبيل المثال، فإن القرارات الاستراتيجية التي تنطوي على آثار عابرة للأقسام أو عابرة للمشاريع التجارية والتي لها تأثيرات طويلة الأجل -مثل توزيع رأس المال أو نقل مصنع معين أو إعادة تصميم منتج معين أو دخول سوق جديدة- يجب أن تُسنَد إلى الموظفين القادرين على التركيز على الصورة الشاملة والأفق الأوسع لسير الأعمال. أما المسؤولية عن اتخاذ القرارات التي يغلب عليها الطابع التكتيكي -مثل إيجاد المصادر والخدمات اللوجستية والتصنيع والتوزيع- فيجب أن تُسنَد إلى المواقع الوظيفية الأكثر منطقية في المؤسسة؛ أي “حيث يكون مربط الفرس”.

تطلق المؤسسات الاجتماعية والحكومية على هذا الأسلوب اسم تفويض السلطة، ويرتكز على مبدأ وجوب معالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية على المستوى الأكثر إلحاحاً أو المستوى المحلي الذي يتوافق مع تفاصيل انتشارها المكاني. في العمليات، على سبيل المثال، يعني هذا المستوى الأقرب إلى مواقع توزيع المواد الأولية لتكون مدخلات، ومواقع تصنيع المنتجات، ومواقع شحن السلع الجاهزة من المصنع إلى مركز التوزيع؛ أي المواضع التي تكمن فيها المعلومات الأدق والأكثر أهمية، وهي المعلومات المطلوبة لاتخاذ أفضل القرارات. يتسم هذا الأسلوب في توزيع صلاحيات اتخاذ قرارات العمليات بأهمية كبرى بالنسبة لقدرة الشركة على الاستجابة بسرعة وعلى نحو مناسب للاضطرابات والتغيرات التي تشهدها بيئة الأعمال.

يمثل هذا تحولاً عميقاً بالنسبة إلى غالبية الشركات، كبيرة كانت أو صغيرة. ويتعين على قادة العمليات المعتادين على السلطة التوقف عن محاولة إدارة أدق التفاصيل والتدخل في كل شيء. ويجب أن يتخلوا عن بعض صلاحياتهم، ويمنحوها إلى الآخرين، حتى يكونوا مخولين بتعديل الخطط أو الأهداف المحددة مسبّقاً فيما لو تغيرت الظروف. أما المشغّلون المعتادون على الرجوع إلى مدرائهم للحصول على التعليمات والتوجيهات فيتعين عليهم أن يتحملوا قدراً أكبر من الصلاحيات والمسؤولية عما يحدث في الشركة. مع تسارع الاضطرابات التي تصيب الشركات، لم يعد هناك وقت لرفع المشاكل إلى المستويات الإدارية الأعلى للحصول على التوجيهات حول كيفية التعامل معها. وفي الوقت نفسه، يجب على المشغلين أن يكونوا واضحين فيما يتعلق بالقرارات التي يمكن أن يتخذوها بأنفسهم، والحالات التي يجب فيها أن يسعوا إلى الحصول على الدعم.

عناصر ضرورية لتمكين هذه النقلة

يحتاج إنجاح هذا النموذج إلى أربعة عناصر أساسية. ويجب تحقيق كل من هذه العناصر بالنسبة إلى القادة والمشغلين حتى يستطيعوا تقبّل أدوارهم الجديدة وتنفيذ مهامهم فيها على أعلى مستوى. وعند غياب أي من هذه العناصر، سيصبح من المستحيل تحقيق النجاح في هذه النقلة.

1. الثقة

تمثل الثقة حجر الأساس في هذا النموذج. فيجب على القادة أن يثقوا بأن الأشخاص الذين أسندوا إليهم صلاحيات اتخاذ القرار قادرون على اتخاذ أفضل القرارات التي تخدم الشركة، وأنهم سينفذون هذا فعلياً. وفي الوقت نفسه، يجب على المشغلين أن يستوعبوا المسائل التي يجب رفعها إلى الإدارة العليا، والأسلوب المناسب لهذا. كما يجب أن يثقوا بأن تعرضهم للمشاكل لن يؤدي إلى معاقبتهم بسبب اتخاذ قرار جريء لتغيير الخطط إذا كانت الدلائل تشير في ذلك الحين إلى أنه القرار الصحيح.

2. الكفاءة

لا يكفي منح الأشخاص حرية اتخاذ القرارات والإجراءات. وكي يشعر هؤلاء الأشخاص بالثقة عند تولي هذه الصلاحيات، فهم في حاجة إلى المهارات والقدرات التي لم يحتاجوا إليها من قبل، أو ربما لم تكن موجودة لديهم من قبل. تتضمن هذه المهارات التفكير التحليلي، والذكاء في التعامل مع الأسواق العصرية، والخبرات في مجال البيانات والتكنولوجيا الرقمية، والمنطق والتفكير، والمهارات الشخصية، مثل التواصل مع الأفراد، والقدرة على الدفاع عن القرارات بصورة مقنعة. ولهذا، فإن إسناد صلاحيات اتخاذ القرار إلى شخص ما يجب أن يترافق بمستوى عالٍ من التعليم والثقافة والتعلم.

3. الشفافية

يحتاج القادة إلى الوصول إلى المعلومات لفهم ما يحدث في المؤسسة ومع الموظفين، في حين يحتاج المشغلون إلى جميع البيانات ذات الصلة لفهم آثار القرارات والإجراءات التي يتخذونها. وفي كلتا الحالتين، من المهم جداً دعم الشفافية المتعلقة بالمعايير الصحيحة والمرتبطة بنتائج محددة ترغب الشركة في تحقيقها.

4. التكنولوجيا

تتيح التكنولوجيا بناء الشفافية، فهي تسمح للشركة بجمع المعلومات وتوزيعها على القادة والمشغلين الذين يحتاجون إليها لإنجاز أعمالهم على أكمل وجه. إضافة إلى ذلك، يمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي العالية القدرة للحصول على معلومات تدعم متخذي القرارات على جميع المستويات، حيث تؤدي دور الموجه أو المساعد، بل تتولى عملية اتخاذ قرارات معينة بمفردها تحت إشراف البشر أيضاً. إضافة إلى ذلك، فإن التكنولوجيا تتسم بأهمية خاصة في بيئات التعلم، إذ تساعد الأشخاص على بناء مهارات وقدرات جديدة يحتاجون إليها لتحقيق النجاح في تحمّل مسؤولياتهم الجديدة.

تجربة نستله مع نظامها المرتكز على المشغلين

يمثل كل من الثقة والكفاءة والشفافية والتكنولوجيا محور ما تطلق عليه نستله اسم “النظام المرتكز على المشرفين”، الذي يركز على ثلاثة أشياء: التفويض (أي منح الناس حرية اتخاذ القرارات والإجراءات)، والمشاركة (أي توفير الأدوات والبيانات والمعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات صائبة والحصول على نتائج فعلية)، والتمكين (أي توفير مقومات بناء المهارات والقدرات بحيث يستطيع الأشخاص استخدام المعلومات المتاحة لهم على نحو ملائم لاتخاذ القرارات الصحيحة).

في ستين مصنعاً من مصانع نستله، يحمل المشغلون أجهزة آي باد يمكنهم استخدامها لمسح رمز خاص على أي آلة، ورؤية جميع البيانات المتعلقة بها، بما في ذلك ميزات السلامة والأداء. ويستطيعون أيضاً استخدام جهاز آي باد للتحكم في بعض عناصر الأجهزة والآلات. وهو ما يمنح المشغل إحساساً حقيقياً بملكية هذه التجهيزات، تماماً مثلما تمنح لوحة القيادة في السيارة سائقها شعوراً بالسيطرة على المركبة. تستخدم نستله الجهاز نفسه أيضاً لبناء المهارات، حيث يمكن للمشغلين استخدامه للحصول على التدريب والمعلومات الضرورية لتحسين قدراتهم. تخطط نستله لنشر هذا الأسلوب في مصانعها التي يبلغ عددها 350 مصنعاً في جميع أنحاء العالم.

وعن طريق نموذج النظام المرتكز على المشغلين، تمكنت نستله عملياً من بناء “فرق عمل مُوَجَّهة بالمهام“، وهي فكرة اقترحتها شركة كومبيتيتيف دايناميكس إنترناشيونال (Competitive Dynamics International). لكن هذه الفرق ليست مستقلة تماماً، بل هي بالأحرى فرق تستوعب حدود صلاحياتها في اتخاذ القرارات. على سبيل المثال، يدرك المشغلون حدود القرارات التي يمكن أن يتخذوها بأنفسهم، والحالات التي يتعين عليهم فيها العودة إلى المدير المباشر أو قائد الفريق. ويعرف مدراء المصانع الحالات التي يتعين عليهم فيها الاتصال بالمدير التقني، الذي يرأس جميع المصانع في منطقة جغرافية محددة.

وكي ينجح نموذج نستله المرتكز على المشغلين، يجب أيضاً على الجميع اعتناق الثقافة والقيم نفسها ضمن المصنع. بطبيعة الحال، قد تختلف الثقافة الاجتماعية والعاطفية في كل مصنع باختلاف البلد أو المنطقة التي يوجد فيها المصنع، لأن مصانع نستله منتشرة في أنحاء العالم كافة. لكن، من المهم بالنسبة للعاملين في الشركة أن يفهموا، بمجرد دخولهم إلى المصنع، أن ثقافة العمل وقيمه نفسها موجودة في كل منشأة من منشآت الشركة، سواء كانت في جنوب إفريقيا أو ماليزيا أو سويسرا. وبهذه الطريقة، يستفيد المصنع من قيم الشفافية والنزاهة في نستله دون إرغام الموظفين على فعل أشياء لا تتناسب مع سلوكهم المعتاد في حياتهم اليومية.

بناء الجيل المقبل من إدارة العمليات من أجل عالم جديد

من الواضح أن البيئة التي تعمل فيها الشركات تغيرت إلى حد كبير، وقد أدى هذا إلى دق المسمار الأخير في نعش إدارة العمليات بالقيادة والسيطرة. ومع حاجة الشركات إلى أن تكون أسرع، لا في الاستجابة فحسب، بل في توقع الأحداث أيضاً، فقد آن الأوان لاعتماد نموذج تشغيلي جديد، مبني على الثقة والكفاءة والشفافية والتكنولوجيا، بحيث يمكّنها من تسريع عملية اتخاذ القرار، والاستجابة بفعالية أكبر للاضطرابات والأحداث غير المتوقعة، ومواصلة التجدد من خلال تكييف نفسها وتغيير بنيتها تغييراً عضوياً مع تطور العالم من حولها.

يود المؤلفون توجيه الشكر إلى ماركوس فيجفار لإسهاماته القيّمة في هذا المقال.