نحو مستقبل أكثر استدامة في الشرق الأوسط
عندما نتخيل الأفق العمراني المميز للمدن الأيقونية الكبرى في العالم، تتبادر إلى أذهاننا مدن مثل نيويورك وهونغ كونغ ولندن، فهي تجسد مزيجاً من القوة الاقتصادية والطموح المعماري والتنافس العالمي. وفي السنوات الأخيرة، وضع الشرق الأوسط نفسه في مصاف هذه العواصم المعمارية العملاقة، مركّزاً على بناء منشآت أعلى وأذكى وأكثر استدامة. ومع سعي الدول في المنطقة نحو تحقيق أهدافها الطموحة في الاستدامة، كما هو الحال مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030، تتسارع وتيرة التنمية الحضرية لتصبح محركاً رئيساً في الانتقال نحو اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة. إذ تقوم مشاريع كبرى بإعادة تشكيل المشهد الحضري، عبر دمج ممارسات الاستدامة المتقدمة والتقنيات المتطورة التي تتماشى مع الأهداف الأوسع لبناء مستقبل أكثر خضرة وابتكاراً.
مع اقتراب حدثين عالميين كبيرين – إكسبو 2030 وكأس العالم لكرة القدم 2034 – تتهيأ منطقة الشرق الأوسط والمملكة العربية السعودية لتسليط الأضواء العالمية بشكل غير مسبوق. وعلى الرغم من إحرازها تقدماً ملحوظاً، فإن هناك فرصة لزيادة الشفافية وتحقيق تقدم ملموس نحو أهداف الاستدامة.
ومع اتجاه المزيد من المشاريع العملاقة نحو تطوير استراتيجيات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية وإزالة الكربون، وبدء بعضها في نشر تقاريرها الأولى حول هذه الجوانب، باتت إدارة الأداء في التعامل مع الانبعاثات (التي تشمل قياس وإدارة انبعاثات غازات الدفيئة) عنصراً محورياً في تمكين هذه المشاريع من مواجهة التحديات البيئية. ومع ارتفاع الوعي بالقضايا البيئية، يسعى المستثمرون المحليون والدوليون، إلى جانب أصحاب المصلحة المؤثرين، إلى تحقيق مزيد من الشفافية في التقارير البيئية. كما أن إظهار التزام قوي بإدارة الانبعاثات وتتبع الكربون بوضوح سيمكن الشركات في الشرق الأوسط من جذب المزيد من الاستثمارات، وكسب ثقة أصحاب المصلحة، وتعزيز موقفها التنافسي.
القيمة الاقتصادية لإدارة أداء الانبعاثات البيئية: رؤية تتجاوز حدود الشفافية
بعد أن كانت مسعى محدوداً، تحولت إدارة أداء الانبعاثات إلى أصل استراتيجي قيم للشركات، ما يوفر لها فوائد كبيرة:
- إدارة التنظيم والمخاطر: تضمن الالتزام الكامل بالتنظيمات والمعايير والممارسات المناخية المستقبلية محلياً ودولياً. كما تعمل هذه التنظيمات على رفع معايير الشفافية تدريجياً، ما يقلل من مخاطر الإضرار بالسمعة المرتبطة بالتضليل البيئي أو التقارير المضللة.
- الجاذبية المالية: أصبح المستثمرون يركزون بشكل متزايد على الشفافية والاستثمارات المسؤولة بيئياً. كما أن الشركات التي تُظهر ممارسات فعالة في إدارة أداء الانبعاثات لديها فرص أكبر لجذب رأس المال، لا سيما من المؤسسات التي تركز على الاستدامة.
- العلامة التجارية والتنافسية السوقية: يمكن أن تستفيد الشركات التي تتخذ خطوات فعلية في مواجهة التغير المناخي من فرصة كبيرة لتعزيز سمعتها التجارية بشكل ملحوظ. حيث أفاد المستهلكون بأن وجود شهادات وشفافية حول تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، واختيار مصادره وعمليات إنتاجه بعناية يجعلهم أكثر استعداداً لدفع قيمة أكثر مقابل المباني المستدامة. وفي سوق بات أكثر وعياً بشأن المسؤولية البيئية، ستكون هذه الميزة التنافسية أساسية، خاصة مع التوقعات بالنمو السريع لقطاع البناء في الشرق الأوسط، حيث يُتوقع أن يتوسع السوق السعودي من 70.33 مليار دولار في 2024 إلى 91.36 مليار دولار بحلول 2029.
التحديات على طريق الاستدامة
تمثل إدارة البيانات البيئية تحدياً كبيراً للمؤسسات، خاصة مع استمرار تزايد حجم البيانات. وقد يؤدي الاعتماد على الأدوات اليدوية والأنظمة غير المتكاملة غالباً إلى عدم الكفاءة وارتكاب الأخطاء، ما يصعّب من تتبع وكتابة تقارير دقيقة لمؤشرات الاستدامة. لذا يتطلب التعامل مع هذا التعقيد من المؤسسات اعتماد أنظمة موثوقة وعمليات قوية لجمع وتنظيم وتحليل كميات كبيرة من البيانات بشكل مستمر.
وتكشف تجربة شركة بوسطن كونسلتينغ جروب أن من أبرز العقبات في إدارة أداء الانبعاثات هو غياب عمليات جمع بيانات منظمة، بالإضافة إلى التحدي المتمثل في إدماجها بفعالية في الأنشطة اليومية للأعمال. وينطبق هذا بشكل كبير على الشركات الناشئة التي تفتقر إلى الأنظمة والأدوات المطلوبة. وفضلًا عن ذلك، فإن غياب القيادة الواضحة أو المسؤولية المخصصة داخل المؤسسة يؤدي إلى تتبع غير منتظم للبيانات المهمة. ولمعالجة هذا الأمر، ينبغي على الشركات التركيز على إنشاء نظام شامل لإدارة الأداء البيئي – يشمل العمليات والأدوات والأشخاص – ويتكامل بسلاسة مع العمليات اليومية. ومن خلال وجود قيادة قوية على رأس هذا الجهد، يمكن للمؤسسات تعزيز موثوقية واتساق عمليات جمع البيانات وإعداد التقارير الخاصة بها.
علاوة على ذلك، فإن العوامل المؤثرة في الانبعاثات، التي تعد أساسية لحساب انبعاثات غازات الدفيئة بدقة، غالباً ما تفشل في مراعاة الخصائص المحددة والفريدة لبعض القطاعات والمناطق. وهذا النقص يجبر الشركات على تصميم قواعد بيانات مخصصة تعكس بيئاتها التشغيلية الخاصة، ما يضيف مزيداً من التعقيد.
وأخيراً، فإن البيانات الميدانية الأولية التي تم جمعها من مصادر مختلفة غالباً ما تكون غير مكتملة أو غير منظمة، ما يتطلب عمليات تنقيح ومعالجة كبيرة قبل استخدامها في تقدير الانبعاثات. ويزيد هذا التعقيد الإضافي من التحديات التي تواجه الشركات، حيث يجعل من إدارة الانبعاثات بشكل دقيق وموثوق ضمن الأطر الزمنية المطلوبة أمراً أكثر صعوبة.
أهم الدروس المستفادة من أعمال شركة بوسطن كونسلتينغ جروب
- عدم انتظار البيانات المثالية: يجب على المؤسسات أن تباشر إدارة أداء الانبعاثات، حتى وإن كانت البيانات غير مكتملة أو تقريبية. فمن خلال البدء المبكر، يمكن للشركات كشف نقاط الضعف وتحسين عملياتها بشكل تدريجي. ويضمن هذا النهج العملي استمرار التقدم دون انتظار الظروف المثالية.
- دمج إدارة الأداء البيئي من اليوم الأول: يجب أن تكون إدارة الأداء البيئي جزءاً من مراحل تخطيط وتصميم المشروع. حيث يسمح دمجها المبكر بجمع بيانات أكثر دقة باستخدام أدوات مثل عدادات المرافق، أو إجراءات تتبع السفر للأعمال، أو اتباع طرق لتقييم الكربون المضمن، وهو الأثر الكربوني للمواد المستخدمة عبر دورة حياة المبنى. كما يمكن لمشاريع البناء تقليل الانبعاثات بشكل استباقي من اليوم الأول من خلال تقييم الأثر الكربوني لكل مادة واستخدام تلك المعلومات في قرارات الشراء. ويوفر هذا النهج الاستباقي في التفكير، التكاليف والوقت الذي يتطلبه جمع البيانات بأثر رجعي، ويسمح باتخاذ خيارات مستدامة في كل مرحلة من مراحل المشروع.
- توحيد الطموحات المناخية: تحقيق وتتبع أهداف الحد من الانبعاثات الكربونية يحتاج إلى أكثر من مجرد تأييد القيادة ودعمها. حيث ينبغي أن يرى كل مستوى من مستويات المؤسسة نفسه جزءاً من مسيرة تحقيق هذه الطموحات. ويمكن للشركات تنفيذ أنظمة فعالة لتتبع وإدارة التقدم نحو تحقيق الأهداف المناخية من خلال ضمان توافق جميع الموظفين مع الاستراتيجية العامة للشركة.
- توظيف التقنيات المتقدمة: يجب التعامل مع إدارة أداء الانبعاثات كعملية مستمرة في التطور، تواكب المستجدات في شتى المجالات، خاصة التطورات التقنية. ويُعد البدء بأدوات أساسية مثل إكسل (Excel) خطوة عملية، لكن النجاح يكمن في التطور المدروس نحو تبني حلول متخصصة تنسجم مع المنظومة التقنية المتكاملة للمؤسسة. يجب أن تؤدي هذه الأدوات دورين أساسيين: إدارة البيانات بكفاءة وشمولية، وتحويلها إلى توصيات عملية يمكن تنفيذها. ومن خلال لوحات التحكم الذكية والتحليلات المتقدمة، يمكن للمؤسسات اكتساب رؤية شاملة تدعم قراراتها الاستراتيجية والتشغيلية، ما يحول إدارة الانبعاثات إلى ركيزة أساسية في مسيرة الاستدامة والكفاءة المؤسسية.
تفتح هذه الأدوات نافذة شاملة لمراقبة وتحليل مسار البيانات وتوجهاتها على المدى الزمني
- تكامل منظومة التوريد: يشكل التعاون الوثيق مع جميع أطراف سلسلة التوريد، بدءاً من المقاولين والاستشاريين وصولاً إلى موردي مواد البناء، عاملاً حاسماً في إدارة انبعاثات النطاق الثالث. يضمن هذا التعاون توفر بيانات دقيقة ومتكاملة، مما يعزز موثوقية المعلومات ويدفع عجلة التنمية المستدامة في القطاع ككل. وتتمثل نقطة الانطلاق لهذا التعاون في تضمين المناقصات شروطاً ملزمة تحتم على الموردين المشاركة الفعالة في توفير بيانات قياس الأثر الكربوني. وكخطوة ثانية، يمكن للمؤسسات الارتقاء بجهودها إلى المستوى التالي عبر إطلاق إلى منصات تعاون قطاعية أو الانضمام إليها، لتسهل تبادل أفضل الممارسات والبيانات البيئية، وتعزز مسيرة الاستدامة الأوسع.
- الاعتماد الدولي والتحقق المستقل: يأتي إشراك هيئات تدقيق خارجية للمصادقة على قياسات الانبعاثات كمرحلة متقدمة في رحلة الاستدامة. على الرغم من أنه لا يتصدر الأولويات الراهنة، فإن إدراجه في خطط التطوير المستقبلية يعد ضرورياً للتوافق مع المعايير الدولية، خاصة بروتوكول انبعاثات غازات الدفيئة. تمنح هذه الخطوة تقارير الانبعاثات الكربونية ثقلاً ومصداقية أكبر، وترسخ مكانة المؤسسات عالمياً، ما يعزز الثقة والشفافية في التعاملات مع مختلف الأطراف المعنية عالمياً.
القيمة الاستراتيجية لإدارة أداء الانبعاثات الكربونية
تقف المنطقة والمملكة على أعتاب مرحلة تاريخية، حيث يرتبط نجاح استضافة الفعاليات العالمية الكبرى - إكسبو 2030 وكأس العالم 2034 - بقدرتها على الالتزام بتطبيق استراتيجيات طموحة وفعالة في مجالات الاستدامة البيئية والحوكمة وخفض البصمة الكربونية. مع تشكيل ملامح مدن المستقبل في المملكة، تتحول إدارة الانبعاثات إلى بوصلة توجه القرارات الاستراتيجية، داعمة التحول المستدام في المؤسسات وسلاسل القيمة، ومحققة عوائد استثمارية تتخطى مجرد الامتثال للمتطلبات لتفتح آفاقاً جديدة للقيمة التجارية المستدامة.
وباستثمارها في أنظمة مستقبلية متكاملة لإدارة الانبعاثات وبناء ثقافة مؤسسية مستدامة، ترسم شركات الشرق الأوسط مسار نجاحها المستقبلي. ومع قيادة هذه الشركات لمسيرة التنمية الحضرية المستدامة، فإن مشاريعها تمتلك فرصة كبيرة لتحقيق مزايا تنافسية بارزة في الأسواق العالمية.