في ظل البيئة التنافسية السائدة اليوم، لا تكمن الميزة الحقيقية للمؤسسة في أصولها أو منتجاتها، بل في قدرتها على قيادة الأفراد وتحفيزهم وتطويرهم. ومن هنا تبرز أهمية نظام إدارة الأداء بوصفه أداة استراتيجية تربط أهداف المؤسسة بالأنشطة التشغيلية، لضمان التحسين المستمر وتحقيق ميزة تنافسية طويلة الأمد. بيد أن الكثير من محاولات تطبيق هذا النظام، لا سيما في القطاع العام، لا ترقى إلى المستوى المنشود، على الرغم من الاستثمارات الكبيرة والتطورات المتراكمة على مدار عقود، ويرجع ذلك غالباً إلى ضعف ثقة الموظف في عدالة النظام وشفافيته وجدواه.
في الوقت الذي يدعم فيه تصميم نظام إدارة الأداء تقديم الملاحظات وتحديد الأهداف وتقييم الأداء، لا يزال العديد من الموظفين ينظرون إليه بوصفه عبئاً إدارياً لا أداة فعالة للتطوير. وتشير الأبحاث إلى أن الإخفاق في تنفيذ هذا النظام بفعالية يعود غالباً إلى فجوات سلوكية، مثل ضعف الثقة بالمدراء ورداءة ممارسات تقديم الملاحظات وهشاشة العلاقة بين المدير والموظف. إذ تؤدي هذه العوامل إلى إضعاف مستوى تفاعل الموظف وتحد من قدرة نظام إدارة الأداء على التأثير في نتائج المؤسسة.
تسلط هذه الأبحاث الضوء على أهمية عناصر مثل الثقة وجودة التواصل وبيئة تقديم الملاحظات، لكن الأدلة التجريبية التي تتناول الخصوصية الثقافية والمؤسسية لا تزال محدودة.
في القطاع الحكومي في دبي مثلاً، حيث تسود أنماط الإدارة القائمة على العلاقات وأنماط التواصل التي تستند في المقام الأول على خصوصية السياق الضمني، يبقى السؤال الجوهري مطروحاً: ما هي العوامل المحددة التي تشكل تصورات الموظف بشأن فعالية نظام إدارة الأداء في مثل هذا السياق؟
وعليه، تسعى دراستنا إلى سد هذه الفجوة من خلال بحث أثر ممارسات نظام إدارة الأداء وبيئة تقديم الملاحظات وجودة العلاقة بين المدير والموظف في تشكيل تصورات الموظف عن فعالية هذا النظام في القطاع الحكومي بدبي، مع تقديم رؤى ثاقبة لبناء فرق عمل عالية الأداء.
الخصوصية الثقافية والمؤسسية للقطاع الحكومي في دبي
غالباً ما يستند تصميم أنظمة إدارة الأداء إلى مبادئ تركز على الإجراءات الرسمية والموضوعية والمسؤولية الفردية. غير أن هذه الأنظمة قد لا تحقق النتائج المرجوة في الثقافات الجماعية القائمة على خصوصية السياق الضمني، ما لم تعكس طبيعة التفاعلات الثقافية والعلاقات الاجتماعية المحلية؛ ففي مثل هذه البيئات تؤدي العلاقات الشخصية والثقة المتبادلة وجودة التواصل دوراً محورياً في تشكيل تصورات الموظف وسلوكه تجاه أنظمة إدارة الأداء.
وينطبق ذلك بصفة خاصة على القطاع الحكومي في دبي، حيث يستخدم هذا النظام باعتباره أداة استراتيجية لبناء اقتصاد معرفي وتحفيز الابتكار في الخدمات والحلول؛ ومن ثم فإن فهم تصورات الموظف يمثل عنصراً أساسياً لتعزيز فعالية النظام وضمان نجاحه.
ومن هنا، تبرز طبيعة العلاقات في السياق الإماراتي الحكومي بصفتها عاملاً رئيسياً في تحديد مستوى تفاعل الموظف مع النظام، إذ تشير الأبحاث الأكاديمية إلى أن قوة العلاقة بين المدير والموظف تتناسب طردياً مع تصورات الموظف حول عدالة النظام وإجراءاته، ما يعزز فعالية نظام إدارة الأداء كلياً.
وبنتائج مماثلة، توصلت دراستنا التي استقصت 304 موظفين من مؤسسات حكومية في دبي بهدف فهم العوامل التي تؤثر في تصوراتهم لفعالية نظام إدارة الأداء، إلى أن الموظفين الذين تجمعهم علاقة قوية وإيجابية بمدرائهم غالباً ما يعتبرون النظام أكثر فعالية، خصوصاً عندما تكون الملاحظات واضحة ومتوفرة وبناءة.
تمثل جودة هذه العلاقة حلقة وصل بين أسلوب تقديم الملاحظات والانطباع العام عن النظام، كما كشفت الدراسة عن الدور المعقد للثقة في المدراء؛ فعندما يثق الموظف بمدرائه، تزداد استفادته من توفر الملاحظات في أي وقت. أما في السياقات التي تتسم بضعف الثقة في المدراء أو محدوديتها، فإن عوامل، مثل إلمام المدير بأداء الموظف وثقة الموظف في ملاحظات مديره، تسهم في تحسين جودة العلاقة بين الطرفين، ما ينعكس بدوره إيجاباً على تصورات الموظف لفعالية النظام.
وبصورة عامة، إن الثقافات القائمة على خصوصية السياق الضمني، مثل المنطقة العربية، حيث تحظى العلاقات الشخصية بأهمية كبيرة، تؤدي كل من جودة العلاقة بين المدير والموظف والثقة في المدراء دوراً محورياً في تشكيل تصورات الموظف حول نظام إدارة الأداء.
كيف تعزز فعالية نظام إدارة الأداء وتضمن نجاحه؟
تبين تجربة حكومة دبي أن إدارة الأداء ليس مجرد قياس للنتائج، بل نهج منهجي يمكن للمؤسسات تطبيقه بفعالية من خلال:
الاستثمار في تطوير مهارات المدراء: ينبغي تدريب المدراء بانتظام لتعزيز معرفتهم بمهام العمل وقدرتهم على تقديم الملاحظات، بما يضمن الاتساق مع أهداف الأداء المنشودة. ويجب أن يتوافر برنامج منظم للتطوير المستمر للمدراء. على سبيل المثال، يمكن إلزام المدراء كافة بحضور ورش عمل ربع سنوية تركز على الحوار الفعال بشأن الأداء، مع إجراء تقييمات قبل التدريب وبعده لرصد التحسن في المهارات.
تطبيق أنظمة ملاحظات عالية الجودة: ينبغي اعتماد آليات، مثل التقييم الشامل بزاوية 360 درجة، لتقييم فعالية الملاحظات التي يقدمها المدير وضمان تحمله المسؤولية بشأن جودة التواصل مع الموظفين.
تعزيز مصداقية المدير من خلال تقديم مكافآت عادلة: يجب مراجعة آليات منح المكافآت لضمان العدالة والإنصاف، بما يعزز مصداقية المدير في نظر الموظف. ويمكن تطوير "مصفوفة لتقدير أداء الموظف" توضح كيفية تحويل الإنجازات إلى مكافآت ملموسة، مثل الحوافز المالية أو الترقيات.
تعزيز ثقافة التوجيه والإرشاد: يمكن تقوية العلاقة بين المدير والموظف من خلال تعيين مرشدين مهنيين وإدماج التوجيه ضمن المهام الإدارية؛ فالتوجيه يساعد على حل المشكلات بصورة استباقية ويعزز مصداقية نظام إدارة الأداء.
تشجيع تطوير نظام إدارة الأداء من القاعدة إلى القمة: ينبغي إشراك جميع الموظفين في تصميم نظام إدارة الأداء وتنفيذه، بما يعزز الشفافية والإحساس بالعدالة والانخراط الفعال، لا سيما في البيئات التي تسود فيها الثقة العالية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تشكيل مجموعات عمل متعددة التخصصات مع تمثيل من مختلف الإدارات.
رقمنة عملية إدارة الأداء: يجب استخدام منصات وأدوات إدارة الأداء المدعومة بالذكاء الاصطناعي لأتمتة المهام التقليدية، مثل تحديد الأهداف وتبادل الملاحظات، لتحسين الكفاءة وتعزيز الشفافية وزيادة التفاعل. ويجب تمكين الموظفين من توثيق أهدافهم وطلب الملاحظات ومتابعة خطط التطوير الخاصة بهم عبر منصات إلكترونية، كما ينبغي إلزام المدراء بمراجعة الأهداف والموافقة عليها ضمن مهل زمنية محددة، باستخدام التنبيهات التلقائية ولوحات المتابعة التي يوفرها النظام.
تدريب المدراء على تقديم الملاحظات القائمة على مواطن القوة: ينبغي تزويد المدراء بمهارات "الاستقصاء التقديري" لتمكينهم من تقديم ملاحظات تركز على إبراز مواطن قوة الموظف وتعزيز ثقته بنفسه والإسهام في ترسيخ ثقافة الأداء المتميز.
وفي هذا الإطار، يمكن تنظيم ورش عمل تطبيقية تعتمد على سيناريوهات واقعية للموظفين، يتدرب فيها المدراء على تقديم ملاحظات تطويرية تحافظ في الوقت نفسه على الطابع الإيجابي والداعم، كما يمكن استخدام قائمة مرجعية بسيطة بعد التدريب، مثل: "ابدأ بموطن قوة، واختتم بنصيحة تطويرية"، ليسترشد بها المدير.
ربط ممارسات تقديم الملاحظات ببناء العلاقات: من المهم إدراك أن أثر مصداقية الملاحظات يزداد في السياقات التي تسودها الثقة المنخفضة، مثلما يحدث في حالة الموظفين الجدد؛ ولذلك على المؤسسات أن تكيف ممارسات تقديم الملاحظات بما يتناسب مع هذه الحالات وأن تدعم جهود بناء الثقة منذ المراحل الأولى.
إن تطبيق هذه الممارسات يعزز جودة العلاقة والثقة في المدراء بما يؤثر في تصورات الموظفين حول مصداقية الملاحظات وجدواها وفعالية ممارسات إدارة الأداء. وتقديم الملاحظات بأسلوب بناء يراعي الحساسية الاجتماعية، أي يعترف بمواطن القوة مع توجيه الموظف نحو التطور، يتماشى مع الخصوصيات الثقافية ويثبت فعالية أكبر في مثل هذه السياقات؛ فحتى أفضل الأنظمة تصميماً لا تفي بالغرض ما لم تكن مدعومة بممارسات إدارية تتسم بالمصداقية وسهولة الوصول والتركيز على الإنسان.
في الوقت الذي تواصل فيه الحكومات والمؤسسات في الأسواق الناشئة التركيز على بناء رأس المال المعرفي، يبرز سؤال محوري: هل نعد مدرائنا لتطبيق أنظمة إدارة الأداء وإدارتها فحسب، أم نهيئهم لقيادة الأفراد نحو التميز والابتكار من خلال بناء الثقة وتعزيز القدرة على التواصل؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا تؤثر في نتائج الأداء فحسب، بل في طبيعة الثقافة المؤسسية ذاتها.
بعبارة أخرى، على المؤسسات أن تسأل نفسها: هل يستند تصميم أنظمتنا إلى فكرة دعم الأداء أم تمكين الأفراد؟ ثم تتصرف على ضوء الإجابة؛ فالنظام قد يفرض الامتثال، لكن القيادة وحدها هي القادرة على تحفيز الأفراد على الالتزام الحقيقي. وإذا كان نظام إدارة الأداء لديك لا يحقق النتائج المرجوة، فالمشكلة لا تكمن في النظام ذاته، بل في أسلوب القيادة التي تتولى إدارته وتوجيهه.