إدارة اقتصادنا المحوري

19 دقيقة
إدارة الاقتصاد المحوري

إليك هذا المقال الذي يتحدث عن إدارة الاقتصاد المحوري تحديداً. يتمحور الاقتصاد العالمي ويتكتّل حول بضع قوى عظمى رقمية. وإننا نرى دلائل جليّة لا لبس فيها على ظهور عالَم أعمال يستأثر فيه المنافس الفائز بكل شيء، حيث هناك عدد صغير مما يسمى "الشركات المحورية الكبرى" –بما فيها "علي بابا"، و"ألفابت/جوجل" (Alphabet/Goole)، و"أمازون"، و"آبل"، و"بايدو" (Baidu)، و"فيسبوك"، و"مايكروسوفت"، و"تينسنت"(Tenent) - يُهيمن على المواقع المركزية المهمّة. وبينما تخلق هذه الشركات قيمة حقيقية للمستخدمين، نجدها تستأثر بحصة مبالغ فيها من القيمة. الأمر الذي يُشكّل مستقبلنا الاقتصادي الجمعي. وجدير بالملاحظة هنا أنّ التكنولوجيات التي وعدت بجعل أنشطة أعمال الشركات أكثر ديموقراطية، هي ذاتها التي تهدّد الآن بجعل تلك الأنشطة أكثر احتكارية.

وفضلاً عن هيمنة الشركات المحورية الكبرى على الأسواق المفردة، نجدها تخلق منصّات اتصال أساسية وتتحكّم بها في الشبكات التي تسود بيئتنا الاقتصادية. فنظام "أندرويد" (Android) من شركة "جوجل" مع غيره من التكنولوجيات ذات الصلة يشكّل ما يسمّى "اختناقات تنافسية"، تتمثّل في امتلاك تلك التكنولوجيات إمكانية الوصول إلى مليارات المستهلكين المتنقلين، الذين يرغب مزوّدو المنتجات والخدمات الآخرون في الوصول إليهم. فشركة "جوجل" على سبيل المثال لا تحصّل فقط رسوماً مالية على المعاملات التجارية التي تجري عبرها، بل تتحكّم أيضاً بدفق المعلومات والبيانات التي يتمّ جمعها. كما أن أسواق شركتَي "أمازون" و"علي بابا" تعمل أيضاً على ربط أعداد هائلة من المستخدمين بأعداد كبيرة من المصنِّعين والبائعين بالتجزئة. وتجمع منصة التراسل "وي تشات" (WeChat) التابعة لشركة "تينسنت" مليار مستخدم عبر العالم وتوفّر مدخلاً أساسياً ومهماً إلى المستهلكين للشركات التي تقدّم خدمات الصيرفة والترفيه والنقل وغيرها عبر الإنترنت. وكلما ازداد عدد مستخدمي هذه الشبكات، ازداد انجذاب الشركات إليها، وبات لزاماً على تلك الشركات طرح منتجاتها وتقديم خدماتها عبر تلك الشبكات. ومن خلال زيادة نسبة الأرباح إلى الحجم والتحكّم بالاختناقات التنافسية المهمة، قد تغدو هذه القوى العظمى الرقمية أقوى وأكثر نفوذاً، وتستأثر بحصة مبالغ فيها من القيمة، وترجّح كفّة الميزان التنافسي العالمي لصالحها.

إدارة الاقتصاد المحوري

لا تتنافس الشركات المحورية بطريقة تقليدية -من خلال تحسين مزايا المنتجات والخدمات التي تعرضها أو ربما تخفيض تكلفتها- بل إنها تأخذ الأصول القائمة على الشبكات والتي بلغت سقف تطوّر حجمها في قطاع ما، ومن ثمّ تستخدمها لتدخل إلى قطاع آخر و "تُعيد هيكلة" بنيته التنافسية –محوّلة إيّاه من قطاع قائم على المنتجات، إلى قطاع قائم على الشبكات. إنها تعمل على ربط القطاعات المجاورة بذات الاختناقات التنافسية التي تخضع أصلاً لسيطرتها.

فعلى سبيل المثال، لا تكتفي وحدة التمويل "آنت فايننشال" (Ant Financial) التابعة لمجموعة "علي بابا" بتقديم خدمات دفع أجور أو بطاقات ائتمان أفضل أو خدمات محسَّنة لإدارة الاستثمارات فحسب، بل تعتمد على بيانات قاعدة المستخدمين الهائلة الموجودة مسبقاً لدى شركة "علي بابا" بغية تسليع الخدمات المالية التقليدية، وإعادة تنظيم جزء لا بأس به من القطاع المالي الصيني حول منصّة وحدة "آنت فايننشال". فلدى هذه الخدمة التي يبلغ عمرها ثلاث سنوات أكثر من نصف مليار مستخدم، وتخطّط لتتوسّع بقوة إلى خارج الصين. وبالمثل، فإن استراتيجية شركة "جوجل" في قطاع السيارات لا تنطوي ببساطة على ابتكار سيارة محسَّنة، بل إنها تسخّر ما تمتلكه من تكنولوجيات وقواعد بيانات (يشمل العديد منها مليارات المستهلكين المتنقّلين وملايين المعلِنين) لتغيّر بذلك هيكلية قطاع السيارات بحدّ ذاته. (ملاحظة: يعمل كلانا أو عمل مع بعض الشركات المذكورة في هذه المقالة).

فكرة المقالة بإيجاز

الحالة

تستأثر قلة قليلة من القوى العظمى الرقمية، أو الشركات المحورية، بحصة مبالغ فيها ومتنامية من القيمة التي تتحقّق في الاقتصاد العالمي.

التحدّي

يهدّد هذا التوجّه بمفاقمة خطورة تفاوت مستويات الدخل الخطر أصلاً، ويقوّض الاقتصاد، وقد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي.

الحلّ

على الرغم من وجود طرق متاحة أمام الشركات التي تعتمد على الشركات المحورية لحماية موقعها ومكانتها في السوق، سيتعيّن على الشركات المحورية نفسها السعي الحثيث للتشارك في القيمة الاقتصادية والمحافظة على شركائها.

وإذا ما استمر الأمر بهذا المسار، فإن إدارة الاقتصاد المحوري تتعلق بالتوسّع ليشمل قطاعات أكثر، مركّزاً بذلك البيانات والقيمة والنفوذ في قبضة عدد قليل من الشركات التي توظّف شريحة صغيرة جداً من القوى العاملة. يُثير التباين في قيمة الشركات وثروة الأفراد حالة من الاستياء والامتعاض. ومع مرور الزمن، نتوقّع أن يتبنّى المستهلكون والجهات التنظيمية وحتى المبادرات والحراكات الاجتماعية موقفاً عدائياً متزايداً تجاه هذه الظاهرة من تمركز القيمة والوصول الاقتصادي. وفي تحوّل ساخر وموجع، نجد ظاهرة الرقمنة –مع ما نشأ عنها من توجّهات- التي خلقت فرصاً غير مسبوقة على مستوى الاقتصاد العالمي، تُفاقم خطورة تفاوت مستويات الدخل الخطر أصلاً، وتقوّض الاقتصاد، وقد تؤدي حتى إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي.

فهل يمكن عكس مسار هذه التوجهات؟ لا نعتقد ذلك.

إذ أن "الاقتصاد المحوري"، كما سنبيّن في هذه المقالة عن إدارة الاقتصاد المحوري تحديداً، موجود ليبقى ويستمر. بيد أن معظم الشركات لن تتحوّل إلى شركات محورية، وستضطر للتجاوب بحنكة ومهارة مع ظاهرة التمركز المتنامي لنفوذ الشركات المحورية الكبرى. وإن رقمنة المقدرات التشغيلية لن يكون كافياً لوحده، فمنصات التراسل الرقمية، على سبيل المثال، قد أضرّت بمزوّدي خدمات الاتصالات. كما أن مستشاري الاستثمار ما زالوا يواجهون التهديد الذي تمثّله شركات الخدمات المالية عبر شبكة الإنترنت. ولكي تحافظ الشركات على ميزتها التنافسية، سيتعيّن عليها تغيير أسلوبها في استخدام أصولها وتوظيف مقدراتها، وإحداث تحوّل في أعمالها ومشاريعها الأساسية، وخلق فرص جديدة للربح، واكتشاف ميادين الأعمال التي يمكن أن تكون بمنأى عن هيمنة الشركات المحورية في قطاعاتها وتلك القادمة إليها من قطاعات كانت في الماضي منفصلة عنها. بعض الشركات بدأت تسلك هذا المسار-وتمثّل شركة "كومكاست" (Comcast)، بمنصّتها الجديدة "إكسفينيتي" (Xfinity)، خير مثال على ذلك– غير أن غالبية الشركات، وبخاصة تلك التي تعمل ضمن قطاعات أعمال تقليدية، لا تزال بحاجة إلى مواجهة تداعيات المنافسة الشبكية والتغلّب عليها.

والأهمّ من هذا كلّه يكمن في أن على الشركات المحورية ذاتها التي تُحدث هذا التحوّل في اقتصادنا أن تكون جزءاً من الحلّ-وينبغي على قادة تلك الشركات التحرّك فوراً. وحسبما صرّح "مارك زوكربيرغ" في خطاب حفل التخرج في جامعة هارفارد في مايو 2017، "إننا نعاني من تفاوت في توزّع الثروات، وهو يضرّ بالجميع". ولا يُعدّ المضي قدماً كالمعتاد من دون إحداث أي تغيير خياراً جيّداً. انظر إلى قلق الرأي العام حيال الأدوار التي لعبتها مؤخراً كل من شركتَي "فيسبوك" و"تويتر" في انتخابات الرئاسة الأميركية، والتحديات التي تواجهها شركة "جوجل" مع هيئات تنظيمية عالمية، والانتقاد الذي وُجّه إلى الثقافة التي تتبناها شركة "أوبر" (Uber) وسياساتها التشغيلية، والشكاوي ضد ممارسات التمييز العنصري التي تنتهجها شركة "إير بي إن بي" (Airbnb)  والتي تضرّ بأرصدة وإيجارات وقواعد تسعير المساكن البلدية.

من شأن الاستراتيجيات المدروسة بدقة وعمق للشركات المحورية أن تبتدع طرائق فعالة للتشارك في القيمة الاقتصادية وإدارة المخاطر الجمعية وصون الشبكات والمجتمعات التي نعتمد عليها جميعاً في نهاية المطاف. فإذا ما استمرت الشركات المصنِّعة للسيارات وكبرى شركات البيع بالتجزئة والشركات الإعلامية في إغلاق أعمالها التجارية، فلسوف تسود حالة من التشرذم والاضطراب الاقتصادي والاجتماعي. ومع الفهم المتزايد والعميق لهذه المشكلة من قبل الحكومات والرأي العام، فإن الاستراتيجيات المحورية التي تعزّز استقرار الاقتصاد وتوحّد المجتمع، ستُفضي إلى التمييز بين الشركات المحورية نفسها.

إننا نشعر بالتشجّع والتفاؤل إزاء استجابة شركة "فيسبوك" لغضب الرأي العام حيال "الأخبار الزائفة" –حيث قامت بتوظيف آلاف الموظفين لهذا الغرض، وإغلاق عشرات آلاف الحسابات الزائفة، والعمل مع مصادر إخبارية للكشف عن الادّعاءات والمزاعم الكاذبة، وتقديم إرشادات لتقفّي المعلومات الزائفة. وبالمثل، يعمل قسم موقع "يوتيوب" التابع لشركة "جوجل" على الاستثمار في الهندسة والذكاء الاصطناعي والموارد البشرية، ويتعاون مع مؤسسات غير حكومية لضمان الإزالة الفورية للفيديوهات التي تروّج للمتطرفين السياسيين والإرهابيين.

ثمة فرصة حقيقية أمام الشركات المحورية لتقود اقتصادنا بالشكل السليم، شريطة أن تأخذ في حسبانها التأثيرات المجتمعية طويلة الأمد لقراراتها، وأن تضع في رأس أولوياتها مسؤولياتها الأخلاقية تجاه النظم الإيكولوجية الاقتصادية الكبرى التي تتجمّع وتتمحور حولها باطراد. وفي الوقت ذاته، سيتحتّم علينا في الجهات الأخرى –سواء في الشركات القائمة أو الناشئة، أو في المؤسسات والمجتمعات– أن نؤدي دور الضابط والميزان بهدف المساعدة في التشكيل السليم للاقتصاد المحوري، وذلك من خلال تقديم الإسهامات النقدية والمستنيرة، فضلاً عن المجابهة أينما استدعت الحاجة لذلك.

تأثير الدومينو الرقمي

إن ظهور المحاور الاقتصادية متأصّل في مبادئ ثلاث لنظرية الرقمنة والشبكات. يتمثّل المبدأ الأول في قانون "مور" الذي ينصّ على أن قوة المعالجة في أجهزة الكمبيوتر ستتضاعف كل عامين تقريباً. وينتج عن هذا المبدأ أن تحسين الأداء سيستمر معزّزاً بذلك عملية استبدال النشاط البشري بأدوات رقمية. الأمر الذي يؤثر على كل قطاع اقتصادي أدخل أجهزة الكمبيوتر على عملياته –مما يعني جميع القطاعات الاقتصادية تقريباً. والجدير بالذكر هنا أن التطوّرات التي حصلت في مجالَي التعلّم الآلي والحوسبة السحابية قد عزّزت هذا التوجّه أكثر فأكثر.

وينطوي المبدأ الثاني على إمكانية الاتصال. فمعظم أجهزة الحوسبة اليوم تمتلك إمكانية الاتصال الشبكي التي تسمح لها بالتواصل مع بعضها البعض. وتُتيح التكنولوجيا الرقمية الحديثة إمكانية تشارك المعلومات بتكلفة هامشية تكاد تقارب الصفر، كما أن الشبكات الرقمية تنتشر بوتيرة متسارعة. وحسبما ينصّ قانون "ميتكالف" فإن قيمة الشبكة تزداد بازدياد عدد العُقد (نقاط الاتصال) أو عدد المستخدمين –وهي الدينامية التي ننظر إليها بوصفها تأثيرات الشبكة. وهذا يعني أن التكنولوجيا الرقمية تُتيح نمواً ملحوظاً في القيمة في جميع مجالات اقتصادنا، وبخاصة على اعتبار أن اتصالات الشبكة المفتوحة تسمح بإعادة تجميع عروض الشركات، مثل الانتقال من استخدام أدوات الدفع المحدودة إلى اعتماد الخدمات المالية والتأمينية الأشمل الذي شهدناه في مثال وحدة "آنت فايننشال".

تُتيح التكنولوجيا الرقمية إمكانية نمو القيمة في جميع مجالات اقتصادنا، غير أن الاستئثار بالقيمة يغدو أكثر تمركزاً.   

لكن، وبينما يجري توفير القيمة لكل الأطراف، يغدو الاستئثار بالقيمة أكثر انحيازاً وتمركزاً نحو جهة معينة؛ ذلك لأنه في الشبكات، تولّد حركة البيانات مزيداً من الحركة، ومع ازدياد استخدام نقاط اتصال محددة، تجذب تلك النقاط اتصالات إضافية، ما يزيد من أهميتها. وهذا يأخذنا إلى المبدأ الثالث، الدينامية الأقل شهرة التي وضعها في الأصل الفيزيائي "ألبرت-لازلو براباشي"، والتي تنصّ على أنّ: تشكّل الشبكة الرقمية يُفضي بشكل طبيعي إلى ظهور حلقات للتغذية الراجعة الإيجابية، تؤدي بدورها إلى خلق محاور مهمّة تتمتّع بإمكانات اتصال هائلة. وكلّما يسّرت الشبكات الرقمية تعاملات اقتصادية أكثر، ازدادت القوة الاقتصادية لمحاور الشبكة التي تربط بين المستهلكين والشركات وحتى بين قطاعات الأعمال. وعندما تمتلك إحدى الشركات المحورية إمكانيات اتصال كبيرة (وتتمتّع بنسبة متزايدة من الأرباح إلى الحجم) في أحد قطاعات الاقتصاد (مثل الاتصالات المتنقلة)، فإنها ستمتلك ميزة تنافسية مهمة حينما تدخل إلى قطاع جديد (قطاع السيارات على سبيل المثال). ويمكن لهذا بدوره أن يدفع عدداً متزايداً من الأسواق إلى رجوح كفتها إلى جهة محددة، وأن يُخضع اللاعبين المتنافسين الكثُر في قطاعات منفصلة تقليدياً إلى غربلة تُفضي إلى استئثار عدد قليل من الشركات المحورية الكبرى بحصة متنامية من القيمة الاقتصادية الكليّة المُحقَّقة –وهو أحد أشكال تأثير الدومينو الرقمي.

لا تُعدّ هذه الظاهرة جديدة. لكن في السنوات الأخيرة، أحدثت الدرجة المرتفعة للاتصال الرقمي تسارعاً هائلاً في عملية التحوّل. قبل بضع سنوات فقط، كانت الشركات المصنِّعة لأجهزة الهواتف المحمولة تتنافس بشدة على قيادة القطاع في سوق منتجات تقليدي ومن دون أية تأثيرات شبكية ملموسة. وأدّت تلك المنافسة إلى الإبداع والتمايز ضمن نموذج عمل يُتيح تحقيق ربحية صحّية مرتفعة بالنسبة لعشرات المتنافسين الأساسيين. غير أنه مع إدخال نظامَي التشغيل "آي أو إس" (iOS) و"أندرويد" (Android)، بدأ القطاع بالابتعاد عن مركزية المعدات الحاسوبية والاتجاه نحو هيكليات شبكية تتمركز على هذه المنصات متعددة الجوانب التي عملت على ربط أجهزة الهواتف الذكية بعدد كبير من التطبيقات والخدمات. فكل تطبيق جديد يجعل المنصة الموجود عليها أكثر قيمة، الأمر الذي يخلق تأثيراً شبكياً قوياً. والذي يخلق بدوره حاجزاً أعلى أمام دخول لاعبين جُدد. فاليوم، باتت شركات عدّة مثل "موتورولا" (Motorola) و"نوكيا" (Nokia) و"بلاك بيري"(Blackberry) و"بام" (Palm) خارج قطاع الهواتف النقالة، في حين تستأثر شركتا "جوجل" و"آبل" بحصة الأسد من قيمة هذا القطاع. أما القيمة المحصودة من قبل الغالبية الكبرى من الأطراف المكمِّلة –وهم مطوّرو التطبيقات وأطراف ثالثة من الشركات المصنِّعة- فمتواضعة في أحسن تقدير.

ويمتدّ تأثير الدومينو اليوم إلى قطاعات أخرى بتسارع كبير. فلقد رجحت كفة قطاع الموسيقى باتجاه "آبل" و"جوجل" و"سبوتيفاي" (Spotify)، في حين تسلك التجارة الإلكترونية طريقاً مشابهاً: فشركتا "علي بابا" و"أمازون" تجنيان حصصاً أكبر وتتّجهان نحو معاقل التجارة التقليدية مثل متاجر البقّالة (انظر إلى استحواذ "أمازون" على سلسلة "هول فودز" (Whole Foods)). وسبق لنا أن نوّهنا إلى القوة المتنامية لتطبيق "وي تشات" في التراسل والتواصل، فإلى جانب شركة "فيسبوك" وغيرها، يتحدّى هذا التطبيق مزوّدي خدمة الاتصالات التقليديِّين. وإن عروض أجهزة الكمبيوتر والبرمجيات المركّبة ضمن حرم الشركات، باتت تفقد مكانتها أمام خدمات السحابة التي توفّرها شركات "أمازون" و"مايكروسوفت" و"جوجل" و"علي بابا". وبالنسبة للخدمات المالية، فإن اللاعبين الكبار هم شركات "آنت" و"بايتم" (Paytm) و"إنجينيكو" (Ingenico) والشركة الناشئة المستقلة "ويلث فرونت" (Wealthfront). أما في قطاع الترفيه المنزلي، فالهيمنة محجوزة لشركات "أمازون" و"آبل" و"جوجل" و"نتفليكس" (Netflix).

ما هي القطاعات المرشّحة لتكون بيئة مناسبة للشركات المحورية القوية في المستقبل القريب؟ من المرجّح أن تشكّل قطاعات الرعاية الصحية، والمنتجات الصناعية، والزراعة قطاعات مرشَّحة لظهور تلك الشركات فيها. لكن دعونا نعاين تأثير الدومينو الرقمي في قطاع أساسي مرشَّح آخر، ألا وهو قطاع السيارات الذي يوفّر في الولايات المتحدة لوحدها ما يفوق سبعة ملايين فرصة عمل، ويُحقق ما يقارب تريليون دولار من المبيعات سنوياً.

إعادة هيكلة قطاع السيارات

باتت السيارات اليوم، كما الكثير من المنتجات والخدمات، متصلة مع الشبكات الرقمية، الأمر الذي يجعل منها مراكز معلومات وتعاملات متنقلة. ولعلّ هذه المقدرة على الاتصال والربط كفيلة بإعادة هيكلة قطاع السيارات بكامله. فحينما كانت السيارات مجرّد منتجات، كانت قيمتها تتمثّل حصرياً في سعر بيعها. أما اليوم فإننا نشهد ظهور مصدر جديد للقيمة: ألا وهو الاتصال مع المستهلكين أثناء الحركة. يُمضي الأميركيون على سبيل المثال بمعدل ساعة تقريباً كل يوم لكي يصلوا إلى أماكن عملهم، وهذه المدّة في تزايد مستمر. وهكذا قام مصنّعو السيارات، استجابة لطلبات المستهلكين، بالسماح للشركات المحورية الكبرى بالدخول إلى لوحات التحكّم في كثير من ماركات السيارات، إذ بات بمقدور السائقين استخدام تطبيقات شركة "آبل" أو "جوجل" مثلاً من على الشاشات المركّبة داخل سياراتهم عوضاً عن استخدام هواتفهم الذكية. وإذا ما أقبل المستهلكون على وسائل النقل ذاتية الحركة، فإن تلك الساعة التي كانوا يقضونها وهم يقودون سياراتهم إلى العمل، سيقضونها حينئذ في تصفّح المواقع والدخول إلى التطبيقات الرقمية المتاحة، الأمر الذي قد يعني تحقيق إيرادات بمئات مليارات الدولارات في الولايات المتحدة فقط.

إذا ما أقبل المستهلكون على وسائل النقل ذاتية الحركة، فإن هذه الساعة التي يقضيها المتنقّلون في تصفّح المواقع قد تعني إيرادات بمئات مليارات الدولارات.

فما هي الشركات التي ستكسب من الفرص التجارية التي ستوفّرها ساعة الفراغ هذه لدى المتنقّلين بالسيارات في جميع أنحاء العالم، ممن لا يقومون أنفسهم بقيادتها؟ لا شكّ في أن الشركات المحورية الكبرى مثل "ألفابت" و"آبل" هي صاحبة الحظ الأوفر في الاستفادة من هذه الفرصة. فهاتان الشركتان تمتلكان في الأصل أصولاً ضخمة تمثّل نقاط اختناق للمعاملات التجارية، كشبكات الخرائط والإعلانات. وهما على استعداد تام لتصميم إعلانات مدروسة وموجّهة خصّيصاً للربط بين المسافرين والأماكن ذات الصلة بالإعلانات. فمن المنطقي جداً إضافة ميزة جديدة إلى تطبيق القيادة الذاتية للسيارة قد يطلق عليها اسم "خذْني إلى هنالك"، تَظهر كلما ظهر إعلان حول خدمة أو منتج في مكان ما (الأمر الذي يحدث أصلاً في تطبيق "ويز" (Waze) للملاحة من شركة "جوجل")، حيث أن استخدام هذه الميزة يجعل السيارة تتّجه من تلقاء نفسها إلى المكان المعني بالإعلان.

في المستقبل، عندما لا يعود الناس يجلسون في سياراتهم خلف المقود، ستغدو القيادة أمراً هامشياً بالمقارنة مع الاستفادة من التطبيقات والخدمات التي توفّرها تلك السيارات وهي تقودهم من مكان إلى آخر. وباستثناء أنماط محدّدة وقليلة من السيارات التي ستحافظ على قيمتها بوصفها أداة للاستمتاع بالقيادة، فإن الفروق بين السيارات ستنخفض كثيراً، وستغدو السيارة بوصفها أداة تنقّل سلعة عادية. سيمثّل ذلك خطراً على الأعمال الأساسية لمصنّعي السيارات؛ فالمواصفات التي ستحظى بالاهتمام الأكبر لدى المشترين –وهي البرمجيات والشبكات- ستكون في معظمها خارج سيطرة مصنّع السيارة، وهكذا ستنخفض حصّته من سعرها.

ولعلّ هذا التحوّل سيقلب طيفاً واسعاً من القطاعات المرتبطة به رأساً على عقب –بما في ذلك قطاع التأمين، وقطاع إصلاح السيارات وصيانتها، وقطاع إنشاء الطرق، وقطاع إنفاذ القانون، وقطاع البنى التحتية- وذلك مع استمرار سقوط أحجار الدومينو الرقمية. (انظر العرض التوضيحي بعنوان "النظام الإيكولوجي للسيارات الموصولة مع الشبكة").

تبدو الصورة بالنسبة لمصنّعي السيارات الحاليين محبِطة لكنها ليست ميؤوساً منها. فبعض الشركات تستكشف نماذج الدفع مقابل الاستخدام لسياراتهم، وتسعى إلى الاستحواذ على مزوّدي تطبيقات "السيارة بوصفها خدمة"، أو إطلاق شركات ناشئة توفّر مثل تلك التطبيقات، أو التشارك معها. فشركة "جنرال موتورز" (GM) على سبيل المثال تستثمر 500 مليون دولار في شركة "ليفت" (Lyft) لخدمات تَشارُك التنقل. في حين يعرض قسم السيارات الفارهة في تلك الشركة اليوم خدمة الاشتراك الشهري للسيارة. أما شركة "دايملر" (Daimler) فأطلقت خدمة جديدة للتشارك بالسيارة أسمتها "كار تو غو" (car2go). إلى ذلك قام العديد من مصنّعي السيارات بالاستثمار في أبحاثهم الخاصة في موضوع السيارات ذاتية القيادة أو بالتشارك مع مزوّدين خارجيّين.

إلى جانب هذه التجارب في نماذج الأعمال المبتكرة، يتعيّن على مصنّعي السيارات أن يحذوا حذو الشركات المحورية الكبرى من خلال الاشتراك بالمنافسة على المنصات التي ستحدّد قواعد حصاد القيمة في القطاع ككل. و في الوقت الراهن على الأقل، تُعدّ البدائل عن "جوجل" و"آبل" نادرة جداً. أحد البدائل هو شركة "أوبن كار" (OpenCar) التي جرى استحواذها من قبل شركة "إنريكس" (Inrix)، مزوّد السيارات التقليدي. وبخلاف شركتي "كار بلاي" (CarPlay) من "آبل" و"أندرويد أوتو" (AndroidAuto) من "جوجل" اللتين تقيّدان التهييئات الخاصة بمصنِّع السيارات، وتطلبان الحق بالدخول إلى بيانات ملكية السيارة، فإن إطار عمل شركة "أوبن كار" يقع تحت السيطرة الكاملة لمصنِّع السيارات. ولتحدّي العمالقة الراسخين في السوق، نعتقد أن على "أوبن كار" و"إنريكس" أن تطوّرا منصة إعلانات وتعاملات تجارية فعالة أو اعتماد استراتيجية أخرى غير مباشرة لتحويل القيمة إلى نقود –ولإنجاز ذلك قد تضطرّان إلى الدخول في شراكة مع شركات تمتلك تلك المقدرات.

إدارة الاقتصاد المحوري

وللوصول إلى الحجم المطلوب قبل دخول المنافسة، قد يتعيّن على شركات قطاع السيارات التي كانت متنافسة في يوم ما، أن تتّحد فيما بينها. مثالنا على ذلك شركة "هير تكنولوجيز" (Here Technologies) التي توفّر خدمات بيانات الخرائط وتحديد الأماكن بدقّة. تعود جذور هذه الشركة إلى شركة "نافتك" (Navteq)، إحدى أقدم شركات رسم الخرائط على شبكة الإنترنت، والتي اشترتها أولاً شركة "نوكيا" ومن ثم جرى استحواذها من قبل ائتلاف الشركات "فولكس فاغن" (Volkswagen)، و"بي إم دبليو" (BMW) و"دايملر" (إذ إن سعر الشركة الذي بلغ مليارات الدولارات ربما كان أكبر من أن يتحمّله أي مصنّع سيارات بمفرده). توفّر شركة "هير" للمطوّرين من الأطراف الثالثة أدوات متطوّرة جداً وواجهات برمجة التطبيقات لإنتاج إعلانات مرتبطة بالمكان وخدمات أخرى. وتمثّل هذه الشركة محاولة من قبل مصنّعي السيارات لتشكيل منصة "متّحدة"، وبالتالي تحييد المخاطر المحتملة بتشكّل نقطة اختناق تنافسية في التعاملات التجارية التي تسيطر عليها شركتا "جوجل" و"آبل". قد ينجح هذا الائتلاف في أداء دور بارز في منع عملية حصاد القيمة من أن تتركّز كلياً تحت سيطرة الشركات المحورية الكبرى القائمة.

وبالطبع يتوقّف التعاون الناجح على الالتزام المشترك والقوي. فمع تموضع الشركات التقليدية واتّخاذها وضعاً قتالياً، يتعيّن عليها أن تُدرك وتفهم جيداً كيف أن الديناميكيات التنافسية في قطاعاتها قد تبدّلت وتغيرت بشكل كبير.

من الصعب منافسة ارتفاع نسبة الأرباح إلى الحجم

في كثير من القطاعات، يجري التخفيف من وطأة الميزات التنافسية للشركات الكبرى من خلال انخفاض نسبة الأرباح إلى الحجم لديها. فبالنسبة لشركات المنتجات والخدمات التقليدية، غالباً ما يتسطّح منحنى خلق القيمة كلما نما عدد المستهلكين، كما نرى في العرض التوضيحي بعنوان "الاستفادة من نمو قاعدة الزبائن". فالشركة لا تعود تحقق مكاسب مميزة إذا ما تجاوزت قاعدة زبائنها المستوى الذي يُعدّ مربحاً اقتصادياً، الأمر الذي يفسح المجال لعدد كبير من الشركات الكبيرة المتنافسة بأن تتعايش وتتنافس في السوق.

غير أن بعض القطاعات الأخرى تُبدي ارتفاعاً في نسبة الأرباح إلى الحجم. فبالنسبة لمنصة إعلانات محلية على سبيل المثال، يزداد ربحها كلما ازداد عدد المُعلنين والمستخدمين المتصلين فيها. ومع ازدياد عدد الإعلانات تزداد أيضاً مقدرة المنصة على توجيه الإعلانات إلى المستخدمين، الأمر الذي يزيد من قيمة الإعلان الواحد. وهكذا فإن منصة الإعلانات تشبه إذاً منصات البرمجيات مثل "ويندوز" (Windows) و"لينوكس" (Linux) و"أندرويد" و"آي أو إس"، التي تُبدي ارتفاعاً في نسبة الأرباح إلى الحجم – فنمو قيمة تلك المنصات بالنسبة للمستهلكين يزيد من عدد التطبيقات المتاحة، في حين أن قيمة المنصات بالنسبة لمطوّري التطبيقات تنمو أيضاً مع ازدياد عدد المستهلكين. فكلما ازداد عدد المستهلكين، ازدادت المحفّزات للمطوّرين لإنتاج تطبيقات جديدة، وبالمقابل كلما ازداد عدد التطبيقات على المنصات، ازدادت حماسة المستهلكين للدخول إلى تلك المنصات والاستفادة من خدماتها الرقمية.

إن هذه الاعتبارات مهمة بالنسبة لطبيعة منافسة الشركات المحورية الكبرى. فانخفاض نسبة الأرباح إلى الحجم بالنسبة لشركات الاقتصاد التقليدي يسمح بتعايش عدد كبير من الشركات الكبرى المتنافسة القادرة على تقديم قيمة مميزة ومختلفة لجذب المستهلكين. تلك هي الدينامية السائدة في قطاع السيارات على سبيل المثال، حيث يتنافس مصنّعون كثُر لتقديم طيف من العروض المتنوعة والمختلفة فيما بينها. أما ارتفاع نسبة الأرباح إلى الحجم في الأصول الرقمية كمنصات الإعلانات على سبيل المثال (أو ربما تكنولوجيا السيارات من دون سائق)، فمن شأنه أن يعزّز من الميزة التنافسية للشركة ذات الحجم الأكبر، أو تلك التي تمتلك شبكة مستخدمين أوسع، أو بيانات أوفر. و تتركّز هنا في الغالب فرص الشركات المحورية الكبرى في تعزيز قيادتها القوية وتفرّدها –وبالتالي تركيز القيمة حولها.

وبخلاف شركات المنتجات والخدمات التقليدية، تنحو الأسواق القائمة على الشبكات، والتي تُظهر ارتفاعاً لنسبة الأرباح إلى الحجم، مع مرور الزمن إلى تقليل عدد اللاعبين الأساسيين فيها. هذا يعني أنه إذا تعرّض لاعب تقليدي في مجال عمل يمتاز بانخفاض نسبة الأرباح إلى الحجم، إلى منافسة من قبل نمط جديد من المنافسين الذين يمتاز مجال عملهم بارتفاع نسبة الأرباح إلى الحجم، فإن اللاعب التقليدي يجب أن يتهيّأ لمنافسة مصيرية صعبة جداً بالنسبة له. فمن خلال ارتفاع نسبة الأرباح إلى الحجم، بمقدور صاحب التكنولوجيا الرقمية أن يشكّل نقطة اختناق في التعاملات التجارية بالنسبة لقطاع اقتصادي كامل. وإذا ما تُرك هذا اللاعب يستثمر هذا الاختناق على هواه، فإنه سيستأثر بحصاد القيمة من أمام جميع الشركات التقليدية المنافسة له.

كيفية المجابهة

كثيراً ما تتنافس الشركات المحورية الكبرى ضد بعضها البعض. فلقد وظّفت شركة "مايكروسوفت" استثمارات ضخمة في تكنولوجيا "الواقع المُعزَّز" في مسعىً منها لإنشاء شركة محورية جديدة، وتعديل الموازين مقابل القوة التي تمارسها شركتا "جوجل" و"آبل" في تطبيقات الهاتف الذكي. كما قامت شركة "فيسبوك" باستحواذ شركة "أوكيولوس" (Oculus) من أجل تغيير البنية بشكل مشابه في المجال الناشئ للواقع الافتراضي. وهنالك معركة تلوح في الأفق في ميدان "المنزل الذكي"، حيث تسعى كل من "جوجل" و"آبل" و"مايكروسوفت" و"سامسونج" إلى إضعاف سيطرة "أمازون" في مجال التكنولوجيا المنزلية التي تعمل بالأوامر الصوتية.

لكن، كيف يمكن لباقي القوى الاقتصادية التعامل مع تزايد نسبة الأرباح إلى الحجم لدى الشركات المحورية الكبرى؟

قد تتمكن الشركات التقليدية، إذا ما امتلكت القدر الكافي من البصيرة والإمكانات الاستثمارية، من مجابهة هذا التطوّر من خلال تحوّلها هي أيضاً إلى شركات محورية كبرى، الأمر الذي نشهده اليوم في مجال "إنترنت الأشياء". ولعلّ شركة "جنرال إلكتريك" (GE) هي المثال التقليدي لهذا التحوّل من خلال استثماراتها في منصة "بريديكس" (Predix) وإنشائها شركة "جنرال إلكتريك ديجيتال" (GE Digital) . [انظر المقالة بعنوان: "كيف أعدتُ صناعة شركة جنرال إلكتريك"، صفحة 42. (How I Remade GE)]. وهنالك العديد من الشركات الأخرى التي تحذو حذو هذه الشركة ضمن ظروف مختلفة –مثل شركتَي "فيرايزون" (Verizon) و"فودافون" (Vodafone) اللتين أنشأتا منصتيهما الخاصّتَين لإنترنت الأشياء.

كما بمقدور الشركات التأثير على المنافسة من خلال الاستثمار في ضمان تعدّد الشركات المحورية الكبرى المتنافسة في قطاع العمل الواحد –وحتى التأثير في تحديد الشركة الرابحة. يمكن للشركات العادية تنظيم صفوفها لدعم منصات ذات شهرة متواضعة بغرض التقليل من سيطرة إحدى الشركات المحورية الكبرى، وجعل القطاع أكثر تنافسية على المدى الطويل. فشركة "دويتشه تليكوم" (Deutsche Telekom) الألمانية للاتصالات على سبيل المثال تتشارك مع شركة "مايكروسوفت أزور" (Microsoft Azure) (وليس مع شركة "أمازون ويب سيرفيسز" (Amazon Web Services)) من أجل أعمال الحوسبة السحابية في أوروبا الوسطى.

والأهم من ذلك كلّه أن القيمة المولَّدة من الشبكات ستتغيّر وتتحوّل مع قيام الشركات بالتنافس والابتكار والاستجابة لضغوط  المجتمع والضغوط الناتجة عن التشريعات والقوانين. فمبدأ التوجّه المتعدّد –وهي ممارسة تسمح للمشاركين في النظام الإيكولوجي التي تعمل فيه إحدى الشركات المحورية الكبرى بالاشتراك بنظام شركة أخرى دون أية صعوبة- بوسعه التقليل من تفاقم سيطرة الشركات المحورية الكبرى وسطوتها. فعلى سبيل المثال، بإمكان السائقين والمسافرين أن يتوجّهوا ويتنقّلوا بين منصات مختلفة للتشارك في الرحلات، حيث نجدهم يستعلمون عن الأسعار لدى شركات مختلفة مثل "أوبر" و"ليفت" و"فاستن" (Fasten) ليقارنوا بين الفرص المتعددة ويختاروا الأفضل بينها. كما أن تجّار التجزئة باتوا يتوجّهون بين عدد من أنظمة الدفع المختلفة ويدعمون حلول الدفع المتعدّدة (مثل خدمات الدفع الإلكتروني "آبل باي" (Apple Pay) و"محفظة جوجل" (Google Wallet) و"سامسونج باي" (Samsung Pay)). فعندما يسود مبدأ التوجّه المتعدّد، ينخفض احتمال سيطرة لاعب أساسي واحد على السوق كلّه، الأمر الذي يحافظ على التنافسية، ويؤدي إلى توزيع حصاد القيمة بشكل أقل تركيزاً. وفي الواقع، يتعيّن على الشركات العادية أن توفّر منتجاتها وخدماتها على أكثر من منصة محورية كبرى، وأن تشجّع على تشكيل منصات محورية جديدة لتفادي استحواذها من قبل لاعب مسيطر وحيد في القطاع. خذ على سبيل المثال مصنّع مكبرات الصوت اللاسلكية "سونوس" (Sonos)، لقد ضمن هذا المصنّع توافق أنظمته الموسيقية مع أكبر عدد ممكن من مزوّدي الخدمات الموسيقية، بما فيها "آبل ميوزيك" (Apple Music) و"أمازون ميوزيك أنليميتيد" (Amazon Music Unlimited) و"جوجل بلاي ميوزيك" (Google Play Music) و"باندورا" (Pandora) و"سبوتيفاي" (Spotify) و"تايدال" (Tidal).

على الشركات أن توفّر منتجاتها وخدماتها على منصات محورية متعددة لتتفادى استحواذها من قبل لاعب مسيطر وحيد.

بإمكان الأعمال الجماعية أيضاً أن تعدّل في تركيبة الشبكات الاقتصادية، وتغيّر من توزّع خلق القيمة وحصادها، وتخفّف من نقاط الاختناق التنافسية. ففي التسعينيات من القرن الماضي وحّد مجتمع المصادر المفتوحة صفوفه لمنافسة نظام  التشغيل "مايكروسوفت ويندوز" بنظام "لينوكس". ولقد تلقّت تلك الجهود دعماً فعالاً من لاعبين تقليديين مثل "آي بي إم" (IBM) و"هيوليت-باكارد" (آتش بي) (Hewlett-Packard)، ومن ثم جرى زيادة ذلك الدعم من قبل "جوجل" و"فيسبوك". ولقد بات نظام "لينوكس" اليوم (إضافة إلى المنتجات المرتبطة به) راسخاً في الشركات والأجهزة الاستهلاكية والحوسبة السحابية. وبالمثل عمل مجتمع "موزيلا" (Mozilla) مفتوح المصدر ومتصفّحه "فايرفوكس" (Firefox)على كسر احتكار "مايكروسوفت" لتصفّح شبكة الإنترنت. وحتى شركة "آبل" المعروفة بتوجّهها نحو امتلاك مصادرها الخاصة، اعتمدت على برمجيات المصادر المفتوحة في بناء أنظمة التشغيل الأساسية والخدمات الشبكية لديها. ولعلّ الميل الجنوني إلى محاولات كسر القيود على استخدام برامج "آي فون" المحمية يُظهر بوضوح الطلب الهائل على تطبيقات الأطراف الثالثة من جهة، وتنامي إمدادها من جهة أخرى.

لقد نمت المصادر المفتوحة وتجاوزت كل التوقّعات مشكّلة إرثاً أساسياً متنامياً من الملكيات الفكرية والإمكانات والمنهجيات العامة. وتتجاوز الجهود المشتركة الآن مجرّد التشارك في البرمجيات لتشمل التنسيق في جمع البيانات، واستخدام البنى التحتية المشتركة، واعتماد الممارسات المعيارية من أجل إضعاف قوة الشركات المحورية الكبرى وتخفيف سطوتها. فالجهود المشتركة، مثل مبادرة "خرائط الطرقات المفتوحة"، باتت رائدة في مجال الخرائط، في حين يعمل مشروع "الصوت المشترك" من "موزيلا" على تجميع بيانات الصوت العالمية وإتاحتها للعموم من أجل القضاء على نقاط الاختناق في مجال التعرّف على الكلام.

وتتّضح أهمية العمل المشترك يوماً بعد يوم من أجل الحفاظ على التوازن في الاقتصاد الرقمي.

فلما كانت القطاعات الاقتصادية تتّحد ضمن شبكات مصالح، والشركات المحورية الكبرى تستمرّ بالتشكّل، فإن من واجب الشركاء الآخرين أن يعملوا معاً لضمان اهتمام الشركات الكبرى بمصالح جميع مكوّنات تلك الشبكات. كما أن التعاون سيكون أكثر ضرورة بالنسبة للشركات المتنافسة التي تدور في فلك الشركات المحورية الكبرى، فقد يشكّل التعاون الاستراتيجي فيما بين الشركات غير المحورية أفضل عمل لمواجهة القوة المتنامية لمنافسة الشركات المحورية الكبرى.

وعلاوة على ذلك فإن الناس عموماً بدؤوا بالقلق حيال مواضيع الخصوصية، والتتبّع عبر الشبكة، والأمان الشبكي، وتجميع البيانات الخاصة. ومن بين الحلول المقترحة، تحديد متطلّبات يجب توفّرها في الشبكات الاجتماعية وحَمَلة البيانات، مشابهة لتلك المفروضة على حَمَلة أرقام الهواتف من قبل الجهات الناظمة للاتصالات بغية زيادة التنافسية بين مزوّدي الخدمات الهاتفية.

أخلاقيات قيادة الشبكة

إن مسؤولية الحفاظ على اقتصادنا (الرقمي) تقع جزئياً على نفس القادة المهيَّئين للسيطرة عليه. ومن خلال تطويرها لمثل هذه المراكز من القوة والتأثير، باتت الشركات المحورية الكبرى تشرف على صحة وعافية اقتصادنا على المدى الطويل. ويتعيّن على قادة تلك الشركات أن يدركوا أن شركاتهم تشبه الأنواع الرئيسية في النظم الإيكولوجية البيولوجية –التي تؤدي دوراً حيوياً في الحفاظ على بيئتها. ولشركات "آبل" و"علي بابا" و"ألفابت/جوجل" و"أمازون" وغيرها من الشركات التي تستفيد بنسبة غير متكافئة مع غيرها ضمن النظم الإيكولوجية التي تسيطر عليها، أسباب منطقية وأخلاقية تدفعها إلى دعم نماء محيطها، لا المحيط المباشر فحسب، بل الذي يشمل قطاع عملها الأوسع. وعلى وجه التحديد، نرى أن على تلك الشركات أن تُدخل إلى نماذج عملها مبدأ "مشاركة القيمة"، إلى جانب مبدأَي "خلق القيمة" و"حصاد القيمة".

يمثّل بناء نظام إيكولوجي صحيح ومعافى مصلحة عليا للشركات المحورية الكبرى. فشركتا "أمازون" و"علي بابا" تستحوذان على الملايين من باعة السوق، وهما تكسبان من كل معاملة تجارية يقوم بها أولئك الباعة. وبالمثل، تكسب شركتا "جوجل" و"آبل" مليارات الدولارات من تطبيقات الأطراف الثالثة التي تعمل على منصّتَيهما. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل كلتا الشركتين على الاستثمار في مجتمع مطوّري البرمجيات، إذ توفّران له الأطر والأدوات البرمجية، والفرص، ونماذج الأعمال التي من شأنها أن تمكّن المبرمجين من تنمية أعمالهم. غير أن مثل هذه الجهود يجب أن تزداد وتتطور وتتحسن مع تنامي الدور المركزي الذي تضطلع به تلك الشركات المحورية الكبرى في النّظم الإيكولوجية التي تنمو وتتعقّد باطّراد. وهكذا، يغدو الحفاظ على قوة وإنتاجية المجتمعات التكميلية جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية كل شركة محورية كبرى تسعى إلى الحفاظ على مكانتها.

وتمثّل شركة "أوبر" مثالاً مهماً على التبعات السلبية التي قد تنجم عن عدم الاهتمام بالمجتمعات التكميلية للشركات المحورية الكبرى. فمقدرة هذه الشركة على البقاء متوقفة على علاقاتها مع السائقين والركاب، الذين كثيراً ما انتقدوا ممارساتها. وبفعل ضغط هذه المجتمعات–إلى جانب الضغط الذي تمثّله الشركات المنافسة التي تعرض على السائقين دخلاً أعلى- وجدت الشركة نفسها مضطرّة لإجراء بعض التغييرات نحو الأفضل. ومع ذلك، فإن ما تواجهه الشركة من مصاعب وتحديات يُظهر أن ما من شركة محورية كبرى تستطيع الحفاظ على مكانتها وميزاتها على المدى الطويل ما لم تهتمّ بمصالح شركائها في النظام الإيكولوجي الذي تعمل فيه. ولعلّ شركة "مايكروسوفت" قد تعلّمت هي أيضاً درساً قاسياً عندما أهملت الحفاظ على صحة وعافية النظام الإيكولوجي لبرمجيات الحواسب الشخصية الذي تعمل فيه، الأمر الذي أدى إلى خسارتها جزءاً من أعمالها لصالح مجتمع نظام التشغيل المنافس "لينوكس" في مجال الخدمات السحابية.

بيد أن منظومة الأخلاقيات الشبكية ليست حكراً على الاعتبارات المالية فقط.

فالقضايا الاجتماعية لا تقلّ أهمية عنها. فلقد ثبت أن منظمة "كيفا" (Kiva) للاستثمار الخيري، وشركة "إير بي إن بي" لحجز الإقامة، متهمتيْن بالتمييز العرقي. وفي حالة شركة "إير بي إن بي" أظهر باحثون من خارج الشركة أن الزبائن الأميركيين من أصل أفريقي كانوا أكثر عرضة لرفض طلب حجز إقامتهم من سواهم. وهكذا تتنامى الضغوط اليوم على هذه الشركة لمحاربة هذا التمييز، وذلك من خلال تثقيف مستضيفيها، وتعديل سمات محددة لمنصتها. علاوة على ذلك، ومع استمرار نمو هذه الشركة، يتعيّن عليها ضمان التزام مستضيفيها بالأنظمة البلدية لتجنب مواجهة عواقب قانونية قاسية.

وفي الواقع، إن لم تعمل الشركات المحورية الكبرى على الاهتمام بصحة وعافية واستدامة ذلك الكمّ الهائل من الشركات والأفراد الذين تشملهم شبكاتها، فإن جهات أخرى ستقوم بهذه المهمة دون أدنى شكّ. وستعمل الحكومات والجهات التشريعية والتنظيمية بشكل متزايد على تشجيع التنافسية، وحماية المستهلكين، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي. خذ على سبيل المثال الصعوبات التي تواجهها شركة "جوجل" في أوروبا، حيث تتنامى مخاوف الجهات التشريعية والتنظيمية حيال سيطرة أعمال تلك الشركة في مجال الإعلانات البحثية وعلى منصة "أندرويد".

من غير المتوقع تباطؤ نمو قوى تمركز التحوّل الرقمي في المدى المنظور. ولا شكّ في أن انبثاق شركات محورية كبرى وقوية هو أمر حاصل لا محالة، وأن المخاطر التي تهدّد سلامة الاقتصاد العالمي بادية للعيان ولا يمكن تجاهلها. ويتعيّن على جميع الجهات الفاعلة في الاقتصاد – وبخاصة الشركات المحورية الكبرى- أن يعملوا على إدارة الاقتصاد المحوري وحماية النظام الإيكولوجي الكلي، والتقيّد بمبادئ جديدة لأسباب استراتيجية وأخلاقية. وإلا واجهنا جميعاً مشاكل حقيقية.

 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي