ملخص: تزداد الشركات التي تقدم امتيازات إجازات الأبوة مدفوعة الأجر، إلا أن معظم الآباء الجدد يأخذون إجازات أقصر مما هو متاح لهم، و70% ممن يأخذون إجازة الأبوة يعودون إلى العمل بعد 10 أيام أو أقل. لماذا؟ يعود جزء كبير من المشكلة إلى الثقافة، التي تغرس شعوراً لدى معظم الآباء بأنهم لا يحظون بدعم القيادة في قرار أخذ إجازة الأبوة. وتقديم الامتيازات وحده ليس كافياً، بل يجب على القادة والمدراء أن يلتزموا بتعزيز ثقافة عمل تدعم الآباء؛ ويجب أن يكونوا واعين للسلوكيات والتصرفات التي تنشئ ثقافة تسبب التوتر للآباء والأمهات العاملين؛ ويجب أن يظهروا حساسيتهم وصدقهم وتعاطفهم مع حياتهم الخاصة كآباء وأمهات عاملين؛ والأهم من ذلك كله هو ضرورة أن يكونوا قدوة يحتذى بها في استخدام امتيازات إجازات الأبوة وخطط رعاية الأطفال البديلة ومرونة جداول العمل. ستشهد المؤسسات التي تلتزم بثقافة تدعم الأب تأثير الهالة الإيجابي الذي يفيد الأمهات العاملات ويعزز المساواة بين الرجل والمرأة ويحسن معدلات استبقاء الموظفين.
يوم وُلد طفلاي التوأم كان أسعد يوم في حياتي. لكني نادم على أمر واحد، وهو الاجتماع عبر الاتصال الهاتفي مع فريقي التنفيذي الذي أنهيته وأنا أدخل مسرعاً من باب المستشفى.
أتمنى لو أني لم أتلقّ ذاك الاتصال، لكن كانت تلك اللحظة مضطربة جداً. فعلى الرغم من شعوري بالفرح، كانت التوقعات تثقل كاهلي، وشعرت على اعتباري رئيساً تنفيذياً بمسؤولية مفروضة عليّ بأن أكون متاحاً، مهما كانت الظروف.
لم تتوقف روح العمل المستمر لدي عند هذا الحدّ. فبدلاً من أخذ إجازة الأبوة مدفوعة الأجر التي قدمتها شركتي "آي أيه سي" (IAC) بسخاء، أخذت إجازة لأسبوع واحد موزع على مدى الأسابيع التالية. وحتى عندما كنت أبقى في المنزل غارقاً فيما يترافق مع الأبوة الجديدة من مشاعر البهجة وحماس الحياة الجديدة وإرهاق الحرمان من النوم (هل ذكرت أني رزقت بتوأمين؟)، كنت مستمراً بالعمل. كنت أتلقى المكالمات الهاتفية وأرد على الرسائل الإلكترونية، وأدرس جداول البيانات وأتخذ القرارات. كنت أقول لنفسي: " العمل لا يتوقف، لذلك لا يمكنني أن أتوقف أنا أيضاً. مئات الموظفين في العمل يعتمدون عليّ، ويجب ألا أخذلهم". لم أسمح لنفسي بالانفصال عن العمل تماماً، ولا حتى لأسبوع واحد.
هذه مشكلة شائعة بين الآباء العاملين، وخصوصاً كبار القادة والمدراء. توصلت جمعية إدارة الموارد البشرية إلى أن نسبة الشركات التي كانت تقدم امتيازات إجازة الأبوة مدفوعة الأجر في عام 2019 وصلت إلى 30%، بعد أن كانت ذروتها قد بلغت 21% في عام 2016. وعلى الرغم من هذه الزيادة، فإن معظم الآباء الجدد يأخذون إجازات أقصر كثيراً مما تتيحه امتيازاتهم. ومن بين الآباء الذين يأخذون إجازة مدفوعة الأجر في الشركات التي تتيحها، يعود 70% منهم إلى العمل في غضون 10 أيام أو أقل، وفقاً لوزارة العمل الأميركية. وأحد الأسباب الرئيسية في ذلك هو القيادة التي لا تدعم هؤلاء الآباء. ففي دراسة أجراها مركز كلية بوسطن للعمل والأسرة عام 2019، قال 55% من الرجال إنهم لم يشعروا بدعم كبير من الإدارة العليا لقرارهم بأخذ إجازة الأبوة.
أصبح ولداي في الخامسة، وأنا وزوجتي نشعر بالقلق من دخولهما إلى روضة الأطفال أكثر من قلقنا على قضاء ليالينا بلا نوم. احتجت إلى التأمل والخبرة التي أتمتع بها بوصفي أباً وقائداً للاعتراف بالحقيقة الصعبة، وهي أني عندما لم آخذ إجازة الأبوة، وواصلت العمل حينما كان يجب عليّ التوقف عنه تماماً، خذلت ولديّ كأب وخذلت زوجتي كشريكة؛ وخذلت الآباء الآخرين في الشركة بوصفي قائداً ونموذجاً يحتذى به.
مرة أخرى، لم تكن المشكلة تتعلق بامتيازات الأبوة، فشركتي تطبق السياسات المناسبة، بل كانت المشكلة هي الانفصال بين السياسة المكتوبة والثقافة الفعلية. كنت أساهم في بناء قاعدة تقول إن الشركة تأتي في المرتبة الأولى، ومسؤوليتي كأب تأتي في المرتبة الثانية. فعندما تلقيت تلك المكالمة في يوم ولادة ولديّ، كنت أبعث عن غير قصد رسالة للآباء الآخرين في مكتبي تقول إن عدم القيام بالشيء نفسه سيؤدي إلى وصمهم، وكنت أبلغهم بأنهم سيُهمشون في تقدمهم الوظيفي وسيعتبرون غير ملتزمين بالوظيفة إذا أظهروا التزاماً بأبوتهم.
تتفاقم ثقافات العمل التي لا تدعم الآباء بطرق ماكرة أخرى، فغالباً ما يخفي القادة والمدراء الرجال مسؤولياتهم الأبوية عن فرقهم، أو لا يستفيدون من المرونة المتاحة لهم في العمل كي يظهروا بمظهر "الموظف المثالي". وبالتالي، يرزح الموظفون الآباء الآخرون تحت ضغط لاتباع السلوك نفسه. أجرت شركة "كير دوت كوم" (Care.com) دراسة استقصائية في صيف عام 2020 الذي شهد انتشار جائحة "كوفيد-19"، وتوصلت من خلالها إلى أن 51% من الآباء العاملين يخفون مخاوفهم بشأن رعاية الأطفال أحياناً خشية من عدم تفهم أصحاب العمل أو الزملاء.
تؤدي هذه السلوكيات إلى استمرار التوقعات غير الصحية وغير الواقعية من الآباء العاملين، وتولّد ثقافة تلفها الأكاذيب مبنية على الاحتراق الوظيفي.
ماذا يحدث عندما تدعم ثقافة الشركة الآباء العاملين؟
تؤدي البيئة الداعمة للآباء إلى نشوء تأثير الهالة الذي يفيد الأمهات العاملات أيضاً، فيتردد صدى الآثار الإيجابية في المؤسسة بأسرها.
تعزيز المساواة بين الرجل والمرأة
كان الافتراض التاريخي الخاطئ يقول إنه ليس على الرجال الاهتمام بشؤون رعاية الأبناء، لأن هذه وظيفة الأمهات. لذلك عندما يدخل الرجال إلى مناصب قيادية عليا، فهم لا يتمكنون غالباً من منح أمور الرعاية العائلية الأولوية في مؤسساتهم لأنهم لم يواجهوا مشكلة موازنة أعمال تربية الأبناء والعمل في أي مرحلة من مراحل حياتهم المهنية.
لكنها كانت مشكلة كبيرة بالنسبة لحياة النساء المهنية. وقد تم تأكيد ذلك في العديد من الأبحاث، ومنها تقرير عام 2020 عن المرأة في مكان العمل الذي أصدرته شركتَا "لين إن دوت أورغ" (LeanIn.org) و"ماكنزي آند كومباني" (McKinsey & Company)، والذي أجري فيه استطلاع للآراء في أكثر من 300 شركة وشمل أكثر من 40 ألف موظف من جميع المستويات، بدءاً من الموظفين حديثي التخرج وصولاً إلى أصحاب المناصب التنفيذية العليا. لا يقتصر الأمر على قيام الأمهات بقدر أكبر من أعمال المنزل مقارنة بالآباء، بل على الأرجح أيضاً أنهن يعانين من قلق أكبر بنحو الضعف من أن تُطلق عليهنّ أحكاماً قاسية أكثر بسبب التزاماتهن في تربية الأبناء ورعايتهم في المنزل. كما أن الأمهات يشعرن براحة أقل بكثير من الآباء في التحدث عن التحديات التي تواجههن بين حياة المنزل والعمل مع زملائهن، أو حتى التحدث عن حقيقة أنهن أمهات أساساً.
لقد أدت جائحة "كوفيد-19" إلى تضخيم هذا الواقع وزادت الأمور سوءاً. فمع إغلاق مراكز رعاية الأطفال وانتقال المدارس إلى أسلوب التدريس الافتراضي أو الهجين، أخذت النساء على عاتقهن مزيداً من أعمال رعاية الأطفال في المنزل. وهن نتيجة لذلك يتسربن من القوى العاملة، لاسيما النساء في القيادة العليا وذوات البشرة السمراء. وهذا يمحو عقوداً من التقدم الذي حققناه نحو المساواة بين الرجل والمرأة. فمنذ شهر سبتمبر/أيلول 2020، انخفضت نسبة النساء المشاركات في القوى العاملة الأميركية إلى 55.6%، بعد أن بلغت ذروتها 60.3% في شهر أبريل/نيسان من عام 2000.
الطريقة الوحيدة لتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في العمل هي تشجيع الموظفين الرجال ومنحهم الدعم الذي يحتاجون إليه في العمل كي يتمكنوا من المشاركة بشكل أكبر في المنزل، والسماح لزوجاتهم بالعمل أيضاً.
استقطاب أصحاب المواهب من الآباء العاملين والاحتفاظ بهم
يجازف قائد الشركة الذي لا يدعم الآباء العاملين بفقدانهم لصالح الشركات التي تدعمهم. يقول ما يقارب 70% من الآباء العاملين إنهم سيغيرون وظائفهم كي يتمكنوا من قضاء وقت أكبر مع أطفالهم، وذلك وفقاً لدراسة من عام 2018 أجرتها شركتي "بروموندو" (Promundo) و"دوف مين + كير" (Dove Men + Care).
يبدأ الاحتفاظ بالموظفين الموهوبين من الآباء بفهمهم ومحاورتهم والاستماع إليهم. اطلب ملاحظاتهم عن طريق استطلاعات الرأي كي تتمكن من الكشف عن الصعوبات التي يواجهونها. استخدم مجموعات موارد الموظفين من أجل التواصل معهم على نحو صريح وصادق، وفكر في الانضمام إلى إحدى هذه المجموعات بنفسك والمشاركة معهم على قدم المساواة.
يحتاج الآباء العاملون أيضاً إلى الشعور بأنهم يحظون بالتشجيع لمواجهة مخاوفهم وإجراء محادثات صادقة مع الإدارة حول ما يحتاجون إليه، مهما كانت هذه المحادثات صعبة. فمن خلال هذه المحادثات، قد تكتشف أن امتيازات الأبوة والأمومة الموحدة ليست مفيدة دائماً، وأن الآباء والأمهات يحتاجون إلى المزيد من الخيارات المخصصة.
تبين الأبحاث أن القادة الناجحين يتبنون عقلية التعلم والنمو على الصعيد الشخصي وفي شركاتهم على حد سواء. تبنَّ طريقة التفكير هذه فيما يتعلق بالآباء العاملين لديك. أولهم اهتماماً بقدر اهتمامك بإطلاق منتجك التالي أو بأرباحك ربع السنوية.
الالتزام بالثقافة
قبل أن أقبل استلام منصب الرئيس التنفيذي لشركة "كير دوت كوم"، تبنيت فلسفة جديدة تتعلق بالعمل والحياة. فقد كنت أباً أولاً، وكي أكون قائداً عظيماً يتعين عليّ أن أحضر بهويتي الحقيقية إلى العمل. وضحت لفريق القيادة والموظفين أني أتوقع منهم أن يتبنوا نفس الفلسفة. تتمثل مهمة شركة "كير دوت كوم" في مساعدة الأسر على تحقيق التوازن بين الحياة والعمل مع الاهتمام بكل ما تحبه. لا يمكننا كشركة تنفيذ هذه المهمة إذا لم نجسدها بأنفسنا.
وبصفتي رئيساً تنفيذياً، يجب أن أبدأ بتجسيد هذه الرسالة بنفسي، ويجب على القادة والمدراء في كل مؤسسة أن يكونوا نموذجاً يحتذي به جميع موظفينا. ويجب أن يكونوا واعين للسلوكيات والتصرفات التي تنشئ ثقافة تسبب التوتر للآباء العاملين. خلال أسبوع إجازتي، كان زملائي يطلبون مني غالباً إجراء مكالمة سريعة، إذ كانوا يقولون: "5 دقائق فقط". وكنت أشعر بواجب الموافقة على ذلك، وبالطبع كانت تتحول هذه المكالمة السريعة إلى عدة مكالمات "سريعة" لمدة 5 دقائق. إذا لم يضع القادة والمدراء حدوداً، فلن يضعها أي شخص آخر في الشركة.
لذا، بوصفك قائداً، أظهر حساسيتك وصدقك وتعاطفك بشأن حياتك كأب؛ وشجع الآباء الآخرين في الشركة على فعل المثل؛ واحرص على حصول جميع الآباء والأمهات في مؤسستك على امتيازات رائعة، كالإجازة مدفوعة الأجر وخطط رعاية الأطفال البديلة وجداول العمل المرنة، واحرص على أن تستخدمها بنفسك كي يستخدموها هم أيضاً.
قبل بضعة أسابيع، أجريت اجتماعاً على منصة "زووم" مع فريقي، وتفاجأت برؤية أحد كبار الإداريين في الاجتماع، وكنت أعرف أنه من المفترض أن يكون في إجازة عائلية. فقلت له بصورة عفوية: "أنا أقدر التزامك حقاً، لكن ليس من المفترض أن تعمل الآن. سأعلمك بالمستجدات عندما تعود إلى العمل بعد قضاء وقت مع عائلتك". مع ظهور أطفاله على الشاشة من ورائه، فهم الرسالة وأنهى اتصاله بسرعة.
لم أكن أوجه الحديث له وحده، بل كنت أوجهه للجميع في ذاك الاجتماع، وأنا معهم.