التفاوض التعاوني: نهج عملي لتحقيق المكاسب المشتركة

6 دقيقة
مصدر الصورة: دارين روب/غيتي إميدجيز

أصبحت العلاقات التي تتسم بالانفتاح والتعاون أهم من أي وقت مضى في ظل بيئة الأعمال المعاصرة الحافلة بالاضطرابات؛ وهي النقطة التي يعيها الكثير من المسؤولين التنفيذيين ويؤيدها أكثر من 80% ممن خاضوا تجربة مفاوضات العقود. وعلى الرغم من ذلك، فقد كشفت دراستنا العالمية الأخيرة حقيقة مدهشة وهي أن معظم الشركات لا تزال متمسّكة باتباع نهج عفا عليه الزمن يستند إلى اتخاذ مواقف عدائية في إبرام الصفقات. يؤدي هذا النهج القائم على الصراع إلى عرقلة الابتكار والنمو، فضلاً عن تسبّبه في إهدار فرصة ثمينة لتحقيق قيمة مضافة.

لماذا نتمسك، إذاً، باتباع هذا النهج، وكيف نتبنى نهجاً جديداً؟

على الشركات أن تعيد النظر كلياً في نهجها المُتَّبع في التفاوض على العقود بالتركيز على تعزيز التعاون لتحقيق قيمة مضافة لمختلف الأطراف بدلاً من الاكتفاء بمحاولة تجنب الخلافات. لا يهدف هذا التحول إلى تحسين السلوك أو إظهار سلوك ودي خلال المفاوضات، بل يهدف إلى توظيف الإمكانات غير المستثمَرة وتعزيز الابتكار وإقامة علاقات مستدامة تعود بالنفع على مختلف الأطراف. ويمكن تحقيق هذه الغاية بعدة طرق، منها تحسين اختيار الشركاء الذين نثق بهم.

أجرينا دراسة تفصيلية تغطي البنود المثيرة للجدل في المفاوضات، وشملت 937 مؤسسة في مختلف أنحاء العالم تمثل كلاً من الشركات المتعددة الجنسيات والشركات الصغيرة والمتوسطة، واستطعنا من خلالها رسم صورة واضحة للوضع الراهن لمفاوضات العقود:

  • غياب التوافق حول الأولويات: تركز البنود المثيرة للجدل في المفاوضات (تحديد المسؤولية وتغيير الأسعار والتعويض عن الخسائر أو الأضرار وفسخ العقد وخيارات الدفع) بصورة أساسية على الحد من المخاطر والاستعداد لأسوأ السيناريوهات، ما يوحي بغياب الثقة بين الأطراف المتفاوضة.
  • الانفصال بين مجريات التفاوض وما يحدث على أرض الواقع: تهدر الشركات وقتاً طويلاً في التفاوض على التفاصيل القانونية، في حين أن أكثر مصادر الخلاف شيوعاً في أثناء تنفيذ العقود يتعلق بقضايا عملية، مثل التسعير ونطاق العمل ومواعيد التسليم ومواصفاته.
  • اختلال موازين القوى: تعتمد المفاوضات على توازن القوى بين الطرفين؛ ومع ذلك يقول 57% من المفاوضين إنهم يواجهون في أغلب الأحيان تعنُّت الطرف الآخر الذي يمتنع عن إبداء أي مرونة تفاوضية ويسعى لفرض شروطه كاملة، بغض النظر عن مدى ملاءمتها للموقف أو لشركائه في العملية التفاوضية. وتتجلى مظاهر اختلال موازين القوى في العلاقات بين الشركات الكبيرة والصغيرة، حيث تواجه 88% من الشركات الصغيرة والمتوسطة تعنُّت الشركات الكبرى التي تدخل معها في مفاوضات، ولا يعترف سوى 34% من الشركات الكبيرة بالأهمية الاستراتيجية للشركات الصغيرة والمتوسطة. تفتقر هذه الآلية لمعايير الإنصاف؛ علاوة على افتقارها لعنصر الاستدامة في اقتصاد يعتمد على المرونة والابتكار لتحقيق الميزة التنافسية.
  • إهدار الفرص: يؤدي عدم التركيز على القضايا الجوهرية إلى إغفال فرصة مناقشة الجوانب المهمة؛ إذ يرى 16% فقط من المفاوضين أنهم يركزون على الموضوعات الجديرة بالنقاش، بينما يرى 39% فقط أن عقودهم تسهم في تحقيق نجاح ملموس للأعمال.
  • عدم إدراك المخاطر الحقيقية: تؤدي هيمنة الجوانب القانونية والمالية على عملية صياغة العقود إلى إعطاء الأولوية للحد من المخاطر (استناداً إلى الفكرة المغلوطة بأن وضع بنود صارمة في العقود وحده كافٍ للسيطرة على المخاطر) بدلاً من الإدارة البنّاءة للمخاطر (أي اتباع نهج أشمل ينطوي على فهم المخاطر ومراقبتها والتعامل معها بفعالية طوال مدة العلاقة التعاقدية).

يؤدي هذا النهج العدائي في التفاوض إلى تكبُّد خسائر فادحة:

  • إهدار الموارد: تنفق الشركات الكثير من الوقت والمال على التفاوض بشأن بنود نادراً ما تدعو الحاجة إلى تفعيلها، متجاهلة التفاصيل التشغيلية التي تسهم فعلياً في تحقيق النجاح وتؤثر في التكلفة والقيمة.
  • قتل الابتكار: عند تركيز المفاوضات على الحد من المخاطر والإصرار على الالتزام بمعايير محدَّدة، فإنها تعرقل جهود استكشاف الحلول الإبداعية أو التوصُّل إلى طرق للتعاون وبناء شراكات مبتكرة تحقق المنفعة المتبادلة.
  • تدمير العلاقات: يولّد النهج المُتبع في تقديم العروض والتفاوض عادةً أجواء مفعمة بالتنافس بدلاً من التعاون. وفي هذه البيئة تغيب الشفافية والصراحة بصورة ملحوظة، وتصبح العقود مصدراً للانقسام بدلاً من أن تكون وسيلة لتوحيد المصالح بين الأطراف.
  • إهدار القيمة: حين تركز المؤسسات على حماية مصالحها الخاصة، غالباً ما تغفل عن الفرص المتاحة لتحقيق مكاسب متبادلة وخلق قيمة مضافة.

إطار عمل جديد للتعاقد التعاوني

تُظهر هذه النتائج أهمية تبنّي فكر جديد في صياغة عقود الأعمال والتخلي عن منهجية الحد من المخاطر. ويحدّد بحثنا 3 استراتيجيات مترابطة تضمن نجاح التعاقد التعاوني:

المؤسسات الرائدة تتخلى عن نهج نقل المخاطر وتركز على خلق القيمة.

هذا يعني التركيز على البنود التي تؤثر مباشرة في النجاح التشغيلي وتشكيل فرق تفاوضية متكاملة تجمع بين الرؤى التجارية والقانونية والتشغيلية.

النجاح يتطلب توافق أولويات التفاوض مع الواقع التشغيلي.

تعطي المؤسسات التي تحقق هذا التوافق الأولوية للجوانب العملية التي تؤثر في العمليات التشغيلية اليومية، كما تعمل على إنشاء أُطر للتعامل مع التغيُّرات الطارئة على نطاق العمل وتحديات التنفيذ. وتفيد المؤسسات التي تتبنى هذا النهج بأنها تواجه نزاعات أقل بكثير وتتمتع بشراكات أقوى بدرجة ملحوظة.

العقود الحديثة تستلزم التحلي بالمرونة، ولكن بأسلوب منظَّم ومدروس.

بدلاً من محاولة التنبؤ بالحالات الطارئة المحتملة، تعمل المؤسسات الناجحة على تصميم آليات تسمح للأطراف المختلفة بالعمل معاً لتعديل الخطط أو السياسات عند تغيُّر الظروف وإنشاء أُطر حوكمة تساعد على تحقيق الأهداف بسهولة ومرونة، بدلاً من فرض قيود صارمة تُعيق التقدم أو القدرة على التكيف مع المستجدات. لا يهدف هذا النهج إلى صياغة بنود مبهمة، بل وضع مسارات واضحة تسمح بتطوير الاتفاقيات أو العمليات بما يتناسب مع المستجدات.

أثبتت أبحاثنا أن 72% من المشاركين يؤمنون بأن تبسيط العقود يجعلها أوضح وأسهل في الاستيعاب ويختصر زمن المفاوضات، كما يُساعد الشركات الصغيرة على دخول المفاوضات دون تعقيدات قد تعوقهم. وهذه الفكرة مدعومة بأمثلة عملية من أرض الواقع وليست مجرد افتراض نظري؛ فقد تمكّنت إحدى شركات الخدمات التجارية التي شملتها دراستنا من رفع معدلات قبول العقود من 10% إلى 70% بفضل جهودها الموجَّهة لتبسيط العقود، بينما نجحت شركة أخرى في اختصار زمن التفاوض بنسبة 68% من خلال تبني المعايير الشائعة في السوق ضمن شروطها القياسية.

تُظهر هذه النتائج الأثر المزدوج للتبسيط؛ إذ يسهم في تحسين نوعية العلاقات بين الشركات إلى جانب رفع كفاءة العمليات في الوقت نفسه. لا ينحصر هدف هذا النهج في وضوح النصوص أو سهولة قراءتها، بل يُمكن أن يتحول أيضاً إلى أداة استراتيجية تُسهم في إنشاء شراكات تجارية أكثر إنصافاً وفعالية.

إنجاح التعاقد التعاوني

تتطلب عملية التحوّل من الأساليب التقليدية في صياغة العقود إلى نهج قائم على التعاون بين الأطراف المتعاقدة إجراء تغييرات منهجية تشمل عدة جوانب. وقد توصلت أبحاثنا إلى 5 عناصر أساسية لا بد من توافرها لتطبيق التعاقد التعاوني بنجاح.

دور القيادة التنفيذية في تحفيز التحول إلى التعاقد التعاوني.

على القائد ألا يكتفي بالتحدث عن دعم التغيير، بل يجب أن يكون قدوة لمرؤوسيه في تطبيق المنهجيات الجديدة، وهذا يعني ضرورة إعطائه الأولوية المطلقة لبنود التعاقد المعنية بالنتائج العملية بدلاً من التركيز على الحد من المخاطر في أثناء مراجعته للصفقات. على القائد أيضاً التشكيك في النهج التقليدي الذي يركز على البنود المعنية بالمسؤولية القانونية والتعويض عن الخسائر أو الأضرار المالية، مع لفت الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالعوامل التي تضمن نجاح العمليات وتحقيق الأهداف. عليه أيضاً أن يكون صريحاً بشأن أسلوبه في التعامل مع المخاطر، إلى جانب وضع معايير داخلية تتسق مع هذا التوجُّه، ما يمنح مفاوضيه حرية التصرف بأساليب مختلفة.

الربط بين العمليات المختلفة والتخطيط.

تحرص المؤسسات الناجحة على اتباع نهج منظم يضمن التنسيق بين مختلف الأطراف المعنية في مراحل مبكرة؛ فقد أثبتت أبحاثنا أن العمليات المجزَّأة تشكّل عقبة رئيسية تعرقل خوض مفاوضات فعالة. وبدلاً من تركيز الفرق القانونية على توفير الحماية من المخاطر المحتملة وتركيز الفرق التجارية على البنود العملية، تحرص المؤسسات الرائدة على تشكيل فرق متكاملة لوضع رؤية مشتركة لأهداف العقد تضمن نجاح الجميع. يجب أن يشمل هذا التخطيط المتكامل الأطراف المعنية بالشؤون التجارية والقانونية والتشغيلية منذ البداية لضمان إعطاء الأولوية للبنود التجارية الرئيسية، مثل نطاق العمل ومواعيد التسليم ومواصفاته ومستويات الخدمة، إلى جانب الضمانات القانونية اللازمة.

تطوير القدرات.

يتضح الفارق في القدرات بين الأطراف المتفاوضة عندما تتعامل المؤسسات الكبيرة مع الشركات الصغيرة. ومع ذلك تحرص الشركات التي تتبنى ممارسات متطورة، بغض النظر عن حجمها، على استخدام أنظمة دعم شاملة لفهم البنود الرئيسية وتقييمها وتحديد الاتجاهات السائدة في السوق وتحسين استراتيجياتها في التخطيط لضمان سير المفاوضات وتنفيذها بفعالية.

استخدام الأدوات التكنولوجية وتحسين العمليات.

بدلاً من حصر استخدام الأدوات التكنولوجية في حفظ العقود وإدارة سير العمل الأساسي، تحرص المؤسسات الرائدة على الاستفادة منها لإحداث تغيير جذري في نهج التفاوض. وقد كشفت أبحاثنا عن فرص لاستخدام الأدوات التكنولوجية، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، في تخطيط العملية التفاوضية وتحديد الاتجاهات السائدة في السوق وتحليل فعالية بنود التعاقد ودعم تبسيط صياغة العقود وإدارتها، كما أثبتت البيانات أن المؤسسات التي تستخدم الأدوات التكنولوجية بصورة منهجية شاملة تحقق نتائج أفضل بكثير مقارنةً بتلك التي تعتمد نهجاً جزئياً في استخدام التكنولوجيا.

عوامل النجاح الأساسية.

يتطلب النجاح في هذا التحول وجود معايير واضحة تقيس مستوى كلٍّ من الكفاءة وجودة العلاقات. وعلى المؤسسات مراجعة ممارساتها التفاوضية وتعديلها بانتظام استناداً إلى أنماط النزاعات الفعلية، مع مواصلة الاستثمار في تطوير القدرات لدى مختلف المجموعات المعنية. ولا بد من تقديم الإدارة العليا للدعم الفعّال ومراقبة تقدم التنفيذ باعتبارهما عنصرَين مهمَين لضمان نجاح عملية التحول.

دعوة للتغيير

ثبت بالدليل القاطع أن الأساليب التقليدية للتفاوض على العقود التي تركز بدرجة كبيرة على الحد من المخاطر لم تعد تلائم احتياجات المؤسسات في عالمنا المعاصر؛ فقد أثبتت دراستنا أن الشركات تهدر وقتاً طويلاً في المساومة على التفاصيل القانونية، في حين أن أكثر مصادر الخلاف شيوعاً في أثناء تنفيذ العقود يتعلق بقضايا عملية، مثل التسعير ونطاق العمل ومواعيد التسليم ومواصفاته.

ومن هنا لا بد من إجراء تغيير جذري في طريقة تعاملنا مع التفاوض لتحقيق نتائج أفضل. بيد أن هذا لا يعني التخلي عن إدارة المخاطر، بل إدراك أن أفضل استراتيجية لإدارة المخاطر يكمن غالباً في إبرام اتفاقيات واضحة وعملية تركز على النجاح المشترك. ومن الملاحظ أن المؤسسات التي تعتمد هذا النهج تحقق فوائد ملموسة، ممثَّلة في اختصار زمن المفاوضات ورفع معدلات القبول، والأهم من ذلك تكوين علاقات عمل أكثر نجاحاً. وبإعادة النظر إلى التفاوض على العقود باعتباره فرصة للتعاون الذي يعود بالنفع على مختلف الأطراف يمكن للشركات استخدام المفاوضات وسيلة لاستكشاف فرص جديدة للنمو وتعزيز الابتكار وتبني شراكات قادرة على التحمل وقابلة للتكيف مع المستجدات، ما يضمن الازدهار في مستقبل مشوب بالضبابية؛ وبالتالي لم يعد من المهم أن نسأل: "كيف نحقق الفوز في هذا التفاوض؟" فالأهم منه أن نطرح السؤال التالي: "كيف نستخدم هذا التفاوض لخلق قيمة مستدامة لمختلف الأطراف المعنية؟".

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي