كان أحد عملائي، عدنان، مسؤولاً تنفيذياً بمجال التكنولوجيا، وقد عينته إحدى الشركات لقيادة مبادرة كبرى. وبعد مرور عام على توليه منصبه، بدا من الواضح أن الرئيس التنفيذي للشركة يشكك في جدارة عدنان بالمنصب في اجتماعاته الأخيرة معه، وتجسّدت هذه المخاوف عندما قال له الرئيس التنفيذي صراحة: "لا أعتقد أنك تمتلك فكراً استراتيجياً بالقدر الكافي". فوجئ عدنان بهذا التصريح لأن الشركة عيّنته في الأساس بسبب عقليته ونهجه الاستراتيجي، وعندما طلب منه ملاحظات أكثر تحديداً لم يعطه الرئيس التنفيذي إجابة مباشرة.
كشف هذا الارتباك عن عدم قدرة الرئيس التنفيذي على رؤية الجانب الاستراتيجي من عمل عدنان، ولكن مشكلة عدنان لم تتمثل فعلاً في عدم تمتعه بالمهارات الاستراتيجية، بل في عدم وضوح قراراته الاستراتيجية أمام رؤسائه؛ يسلط هذا الموقف الضوء على مشكلة شائعة، وهي إذا لم يتمكن رؤساؤك من رؤية استراتيجيتك وفهمها جيداً فستبدو وكأنك لا تملك استراتيجية أساساً.
عندما يقول أحدهم للقائد إن عليه اتباع نهج استراتيجي بدرجة أكبر في عمله، فغالباً ما يكون أول رد فعل منه هو التماس التوضيح من خلال طلب أمثلة أو تعريف محدد للاستراتيجية، وعلى الرغم من أنه يطرح طلبه بنية حسنة فقد يعتبره الآخرون موقفاً دفاعياً. وغالباً ما تنبع الملاحظات نفسها من نقص التواصل الواضح وغياب التفاهم بين القائد وأصحاب المصلحة. وقد يجد أصحاب المصلحة صعوبة في توضيح معنى "امتلاك مهارات استراتيجية"، ما يجعل ملاحظاتهم مبهمة.
لذلك من الأفضل أن تبادر إلى توضيح استراتيجيتك بدلاً من الاكتفاء بطلب التوضيح. وإليك 3 أسباب رئيسية تسهم في صعوبة إظهار المهارات الاستراتيجية لدى القادة، وطرق لتوضيحها وإظهارها أكثر.
1. الاستراتيجية تبدو أحياناً مفهوماً مجرَّداً ونظرياً
تتضمن المحادثات حول الاستراتيجية عادةً مفاهيم مجردة، مثل الرؤية والتخطيط البعيد الأجل والمخاطر والفرص المستقبلية التي يصعب قياسها ووصفها في كثير من الأحيان. وهكذا يصبح من الصعب التوصل إلى سردية موحدة بسبب هذه التعقيدات، إلى جانب ضرورة ربطها بعوامل أكثر واقعية، مثل تحليل السوق وتحديد المكانة التنافسية وما إلى ذلك.
أثبتت الأبحاث استحالة فهم عملية صناعة القرارات الاستراتيجية على نحو صحيح إلا بعد فهم سياقها العام. وإليك طريقتين لوصف هذا السياق:
استخدم السرد القصصي
يمثل السرد القصصي أداة فعالة لتقريب المفاهيم الاستراتيجية المجردة، بحيث يستطيع المتلقي فهمها وتذكُّرها بسهولة؛ إذ تعمل القصص على تبسيط الأفكار المعقدة وتحويلها إلى خطط عمل قابلة للتنفيذ من خلال جذب اهتمام المستمعين عاطفياً وفكرياً. تساعد الرواية المقنِعة على ترسيخ استراتيجيتك في أذهان أصحاب المصلحة، ما يزيد من فرص فهمهم لها وقدرتهم على تذكرها. على سبيل المثال، استخدمت حملة 96 فيلاً (96 Elephants) قصة بسيطة ولكنها مقنِعة لتوصيل استراتيجيتها: "قتل الصيادون العام الماضي 35,000 فيل للحصول على العاج من أنيابها. وتتمثل استراتيجيتنا الثلاثية الأبعاد في وقف قتل الفيلة، ووقف الاتجار بالعاج، ووقف الطلب عليها". أدى هذا السرد القصصي الواضح إلى سهولة فهم السياق والحل ووضوحهما التام.
اعرض الاستراتيجية باستخدام التمثيل المرئي
استخدم التمثيل المرئي لإعطاء المتلقين فكرة ملموسة عن الاستراتيجيات المعقدة أو المجردة وتقريبها إلى أذهانهم؛ إذ يسهم التمثيل المرئي الفعّال في توضيح الأفكار مهما كانت درجة تعقيدها. على سبيل المثال، تشتهر أمازون باستخدام نموذج العجلة الدوارة (Flywheel Model)، وهو تمثيل مرئي للتعزيز المتبادل بين مختلف جوانب أعمالها من أجل تحفيز النمو. تبدأ الدورة بتحسين تجربة العميل، ما يجذب المزيد من العملاء. ويؤدي ازدياد عدد العملاء إلى زيادة حركة زوار المتجر، ما يجلب المزيد من البائعين. ويؤدي ازدياد عدد البائعين إلى ازدياد تشكيلة المنتجات المعروضة، ما يؤدي بدوره إلى خفض التكاليف بسبب وفورات الحجم. ويؤدي انخفاض التكاليف في أمازون إلى خفض الأسعار، ما يسهم في تعزيز تجربة العميل، ومن ثم تبدأ الدورة مجدداً. ساعد هذا التمثيل المرئي فرق العمل على فهم العلاقة بين الإجراءات التي تبدو غير ذات صلة، مثل ازدياد تشكيلة المنتجات المعروضة أو تحسين الخدمات اللوجستية، ودعم الهدف الاستراتيجي الشامل المتمثل في النمو على المدى البعيد. وهذه الطريقة فعالة لتحويل فكرة استراتيجية مجردة إلى خطة ملموسة وقابلة للتنفيذ يستطيع الجميع رؤيتها ومتابعتها.
2. اختلاف وجهات النظر من شخص لآخر
يفترض القائد في أغلب الأحيان أن أصحاب المصلحة الرئيسيين سيفهمون استراتيجيته تلقائياً، لكن تفسير التفكير الاستراتيجي يختلف من شخص لآخر، ما يؤدي إلى الارتباك وعدم الاتساق في التواصل، مثلما حدث مع عدنان. وللتغلب على تحديات التواصل هذه، فكِّر في اتباع الأساليب التالية:
استخدم إطار عمل استراتيجياً مشتركاً
يمتلك معظم الشركات إطار عمل موحداً لتحديد الأهداف، مثل الأهداف والنتائج الرئيسية (OKRs) أو بطاقات قياس الأداء المتوازن أو مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs)، وبدلاً من استخدام أساليب جديدة (أو عدم استخدام أي إطار عمل مطلقاً، وهو الأسوأ)، يكمن سر النجاح في الاستفادة من هذه العمليات الحالية على نحو أكثر فعالية. على سبيل المثال، تطبَّق شركة جوجل نظام "الأهداف والنتائج الرئيسية" للربط بين الأهداف العامة للشركة وأهداف الفريق الفردية، ما يوضح للجميع مجالات التركيز ويتيح توليد نتائج قابلة للقياس. وباستخدام هذه البنية التنظيمية المشتركة، يمكنك الحد من سوء التفسير وضمان قدرة الجميع على فهم دور كل عنصر في تحقيق نتائج استراتيجية أوسع، ما يعزز القدرة على التوافق وتحمّل المسؤولية على المستويات كلها.
أتح الفرصة أمام أصحاب المصلحة لفهم الاستراتيجية بوضوح
لاحظت أمراً لافتاً للانتباه في مناقشات الاستراتيجية التي حضرتها، وهي أن كل شخص يفسر الاستراتيجية استناداً إلى دوره الوظيفي، ويركز في المقام الأول على أثرها فيه أو في فريقه؛ وبالتالي يحتاج كبار القادة إلى إلقاء نظرة عامة وشاملة على التقدم الاستراتيجي المُحرَز، في حين تحتاج الفرق إلى تلقي تعليمات عملية أكثر تحديداً لمواءمة إجراءاتها مع الأهداف البعيدة الأجل، وكثيراً ما يسفر هذا التركيز على الذات عن إغفال الرؤية الأشمل ويؤدي إلى سوء فهم الاستراتيجية.
يحتاج أصحاب المصلحة إلى رؤية رابط بين استراتيجيتك والواقع الذي يعايشونه كي يفهموا خططك وأدوارهم فيها؛ لذلك ينبغي أن تتيح لهم الفرصة لفهمها بوضوح. ويمكن تحقيق هذه الغاية بطرق عدة، مثل مساعدتهم على معرفة الغاية من قراراتك الاستراتيجية عن طريق ربط هذه القرارات بأهدافهم وتحدياتهم وتطلعاتهم. وإليك كيفية فعل ذلك:
- ركِّز على الأثر الجماعي: عند مناقشة استراتيجيتك، اعمل أولاً على صياغة المناقشة بأسلوب يتناول الأثر الجماعي بدلاً من الأثر الفردي أو أثر فريقك فقط. سلِّط الضوء على العلاقة التي تربط بين مختلف الفرق في إطار سعيها لتحقيق الأهداف البعيدة الأجل، مع التأكد من إدراك أصحاب المصلحة جميعاً أن الاستراتيجية مسؤولية مشتركة. عندها فقط يمكنك التحدث عما يجب على كل فريق أو فرد فعله لدعم الجهد الجماعي لتنفيذ الاستراتيجية.
- سهِّل "ربط الأمور بعضها ببعض": شجِّع المناقشات المنتظمة وسهِّلها بحيث يستطيع أصحاب المصلحة الربط بين أعمالهم والأهداف الاستراتيجية بمفهومها الأوسع. تساعد هذه المحادثات أعضاء الفريق على رؤية أبعاد الموقف التي تتجاوز حدود مسؤولياتهم المباشرة وفهم دور جهودهم في تحقيق أهداف المؤسسة. اطرح أسئلة مثل: "كيف تدعم هذه المبادرة أهدافنا البعيدة الأجل؟" لتوجيه المحادثة نحو التفكير في الرؤية الأشمل.
3. إعطاء الأولوية للقضايا القصيرة الأجل
تطغى الضغوط والضرورات المُلحة في الأعمال اليومية أحياناً على الحاجة إلى التواصل بشأن التخطيط الطويل الأمد، وغالباً ما يعطي القادة الأولوية للتنفيذ والعمل التشغيلي على حساب التفكير الاستراتيجي والتواصل، ما يصعِّب توضيح الرؤية الأشمل، حتى إن أحد أصحاب المصلحة قال لي عن عدنان: "يبدو مشغولاً جداً بالأعمال التنفيذية التي تستهلك وقته كله". بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي عدم اليقين والضغوط إلى تردد القادة في توضيح الخطط التي لم تتبلور بالكامل بعد ولن يتمكن أصحاب المصلحة من ربطها بما يحدث على أرض الواقع، ما يسبِّب سوء الفهم وعدم التوافق. وإليك 3 خطوات تضمن بقاء الاستراتيجية في مقدمة اهتمامات أصحاب المصلحة عندما تلوح في الأفق ضغوط أخرى تحاول بسط هيمنتها على المشهد:
احرص على إدراج التفكير الاستراتيجي في روتينك المعتاد
في البيئات المعرَّضة لضغوط مكثفة، تشغل العمليات اليومية حيزاً أكبر من اهتمامات القائد وتجبره على تأجيل التفكير في الاعتبارات الاستراتيجية، لذلك عليك أن تخصص وقتاً محدداً للتفكير الاستراتيجي؛ بدلاً من تخصيص فترة طويلة دفعة واحدة، اختر أوقاتاً موزعة بانتظام على فترات زمنية متباعدة بحيث تصبح جزءاً من روتينك المعتاد. يمكنك أن تبدأ مثلاً بسؤال نفسك كل يوم:
- كيف يساعدنا عمل اليوم على مجابهة تحديات المستقبل؟
- ما هي افتراضاتي الأساسية حول المستقبل، وهل لا تزال سارية المفعول؟
- ما هو التغيير الصغير الذي يمكنني إجراؤه اليوم لمواءمة فريقي مع أهدافنا الاستراتيجية على نحو أفضل؟
قسّم الأهداف البعيدة الأجل إلى مراحل قصيرة الأجل
أحد الأسباب التي تدفع القادة إلى الانشغال بالأعمال التنفيذية هو الضغوط التي يتعرضون لها لتحقيق نتائج قصيرة الأجل. ولمعالجة هذه المشكلة، ينبغي تقسيم الأهداف الاستراتيجية البعيدة الأجل إلى إنجازات مرحلية أصغر يسهل التعامل معها، بحيث تُبرِز التقدم المُحرَز وتسهم في تحقيق الرؤية الأشمل في آن معاً.
وقد رأيت في كثير من الأحيان قادة يفصلون بين المناقشات الاستراتيجية والعمليات اليومية، لكن ثمة نهجاً أكثر فعالية يتمثل في جعل التفكير الاستراتيجي جزءاً لا يتجزأ من وظيفتك. وبدلاً من الاكتفاء بالاجتماعات الرسمية لمناقشة الاستراتيجية، استخدم اللقاءات أو المحادثات غير الرسمية لتعزيز الرابط بين الأنشطة اليومية والرؤية الاستراتيجية الأوسع باستمرار. على سبيل المثال، اسأل نفسك: ما هو الإنجاز الصغير الذي يمكنني تحقيقه هذا الأسبوع والذي يقربنا من هدفنا الاستراتيجي البعيد الأجل؟
ركِّز على الاستراتيجية خلال الأزمات
ينظر الكثيرون إلى الاستراتيجية وإدارة الأزمات عادة على أنهما قضيتان منفصلتان، وغالباً ما تتعارض إحداهما مع الأخرى. بعبارة أخرى، غالباً ما يهمّشون الاستراتيجية عند ظهور قضايا مُلحة. ومع ذلك تشكّل الأزمات في حد ذاتها فرصاً لإبراز قدراتك القيادية الاستراتيجية من خلال استشراف المستقبل. اغتنم هذه الفرصة للتعامل مع التحديات العاجلة وتوقُّع التحديات المحتملة، مع الأخذ في الاعتبار الاتجاهات المحتملة من خلال التخطيط الاستباقي تمهيداً للتعامل مع الحدث قبل وقوعه.
على سبيل المثال، واجهت شركة إير بي إن بي (Airbnb) أزمة هائلة مع توقف رحلات السفر على مستوى العالم خلال جائحة كوفيد-19، واضطر الرئيس التنفيذي للشركة، برايان تشيسكي، إلى اتخاذ قرار صعب بتسريح 25% من الموظفين، لكنه لم يكتفِ بالتركيز على البقاء في السوق، بل غيَّر استراتيجية الشركة التي ركزت على الإقامات المحلية والإيجارات الطويلة الأجل من خلال الاستفادة من الاحتياجات الجديدة للعملاء، مثل العمل عن بُعد والسياحة المحلية. ساعد هذا التحول شركة إير بي إن بي على تجاوز الأزمة الآنية، كما أهّلها للازدهار في قطاع السفر والسياحة الجديد الذي يتضمن توجيه مزيد من التركيز على العمل عن بُعد والمعيشة المرنة.
في المواقف التي تنطوي على ضغوط شديدة، احرص على توصيل حلولك الفورية إلى جانب توضيح علاقتها بالرؤية الأشمل والطويلة الأجل. وهكذا يمكنك إظهار كلٍّ من خبرتك العملية ورؤيتك الاستراتيجية.
من المؤكد أنك ستشعر بالإحباط حينما يشكك رؤساؤك في قدراتك الاستراتيجية، لكن عليك أن تعتبر هذا الادعاء فرصة لتجديد نظرتهم إليك من خلال تعزيز قدراتك القيادية وإظهار أثرك. وحينما تجعل استراتيجيتك مرئية وسهلة الفهم بالاستفادة من السرد القصصي وأطر العمل الحالية والتواصل المستمر مع أصحاب المصلحة، ستتمكن من تغيير التصورات السائدة وحشد فريقك للعمل يداً واحدة على تحقيق الأهداف البعيدة الأجل، وستضمن أن ينال نهجك الاستراتيجي ما يستحقه من التقدير. يجب ألا تدع الأزمات والضغوط اليومية تعوق تفكيرك الاستراتيجي؛ بل عليك اغتنامها لإبراز نظرتك الاستشرافية وقدرتك على ربط الإجراءات التي تتخذها الآن بالرؤية الأشمل للمؤسسة. وسيكون النجاح حليفك عندما تكون الاستراتيجية مرئية للآخرين وسهلة الفهم وقابلة للتنفيذ.