عندما طُلب مؤخراً من مايكل ديل، الرئيس التنفيذي لشركة "ديل"، تحديد الصفة الأهم التي يحتاجها الرؤساء التنفيذيون للنجاح في الأوقات العصيبة القادمة، أجاب: "أراهن بأن الفضول المعرفي سيكون أكثر صفة مطلوبة".
هذه كانت إجابة ديل خلال مشاركته في استطلاع أجرته شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" (PwC)، في عام 2015، شمل أكثر من ألف رئيس تنفيذي، ذكر عدد منهم بأن "الفضول" و"الانفتاح الذهني" هما صفتان تتزايد أهميتهما في زمن التحديات. ومن بين الأشخاص الآخرين المشاركين في الاستطلاع، آلان ويلسون، الرئيس التنفيذي لشركة "ماكورميك آند كومباني"، الذي قال: "إن قادة الشركات الذين يوسّعون نظرتهم إلى الأمور دائماً ويزيدون من معارفهم – ويتمتعون بالفضول المعرفي الطبيعي – هم الناس الذين سيحالفهم النجاح".
فأهلاً بكم في زمن القائد الفضولي، حيث لا يحتاج النجاح فيه إلى امتلاك كل الإجابات بقدر حاجته إلى التشكيك وطرح الأسئلة. وكما قال ديل: "إن الفضول المعرفي يمكن أن يلهم القادة لمواصلة البحث عن الأفكار والمقاربات الجديدة المطلوبة لمواكبة التغيير الحاصل بل والتفوق على المنافسين.
فالقائد الذي يتمتع بفضول معرفي وذهن استقصائي يمكن أن يكون مثالاً يُحتذى به لجميع من في الشركة ومصدر إلهام لهم، لكي يفكروا بطريقة خلاقة ومُبدعة، كما قال براين جرازير، المنتج الشهير في هوليود، في كتابه "العقل الفضولي" (The Curious Mind): "إذا كنت أنت المدير وتمارس إدارتك من خلال طرح الأسئلة، فإنك بذلك ترسي الأساس للثقافة التي ستسود في شركتك أو في مجموعتك. ويذهب جرازير وآخرون إلى القول بأن القيادة بأسلوب يعتمد على الفضول المعرفي، يمكن أن تساعد في توليد المزيد من الأفكار في جميع أنحاء الشركة، عدا عن أن ذلك يمكن أن يسهم في زيادة مستويات تفاعل الموظفين مع العمل.
وبطبيعة الحال، ليس المفهوم القائل "إن الفضول المعرفي يمكن أن يكون أمراً جيداً للشركة"، جديداً بالكامل. فقبل عقود من الزمن، صرح والت ديزني بأن شركته قد تمكنت من الاستمرار في الإبداع "لأننا نتمتّع بالفضول المعرفي، ولطالما كان الفضول المعرفي يقودنا إلى دروب جديدة". ولكن امتلاك تلك الرغبة بمواصلة استكشاف "الدروب الجديدة" يصبح أكثر أهمية حتى في أسواق اليوم السريعة التغيّر والتي يحركها الابتكار.
خلال الأبحاث التي أجريتها شخصياً أثناء تأليفي لكتابي "سؤال أجمل" (A Beautiful Question)، اكتشفت عدداً هائلاً من الأمثلة عن رواد الأعمال والمُبتكرين في العصر الحالي، بمن فيهم ريد هاستينغز صاحب شركة "نتفليكس"، وجاك دورسي صاحب شركة "سكوير"، وكذلك الفريق الذي يقف وراء موقع "إير بي إن بي"، والذين اعتمدوا على الاستقصاء الفضولي كنقطة بداية لتغيير قطاعات وصناعات بأكملها، وإعطائها وجهاً جديداً تماماً. فجاك دورسي، على سبيل المثال، شعر بالذهول عندما خسر صديقه الفنان صفقة كبيرة مع زبون محتمل، ببساطة لأن ذلك الفنان لم يكن يقبل البطاقات الائتمانية. وقد تساءل دورسي عن السبب الذي يمنع رواد الأعمال الصغار من إجراء صفقات تعتمد على الدفع بالبطاقات الائتمانية أسوة بالشركات الكبيرة الراسخة. وخلال بحثه عن الإجابة توصّل إلى "سكوير" وهو حل أسهل للدفع بالبطاقة الائتمانية.
وعلى الرغم من أن الفضول المعرفي كان الشرارة التي قادت إلى إقامة عدد هائل من الشركات الناشئة، فقد لعب هذا الفضول دوراً مهماً أيضاً في الشركات القديمة الأكثر رسوخاً، والتي يضطر قادتها إلى مواجهة التغيّرات المُزعزعة التي تحصل في الأسواق. فقد قال لي رون شايخ، الرئيس التنفيذي لشركة "بانيرا بريد": "في هذه الأيام، يجب أن يكون الشغل الشاغل للقائد هو اكتشاف المستقبل". وبحسب رأيه أيضاً، فإن عملية البحث هذه يجب أن تكون مستمرة، وهي تتطلب من القائد في هذه الأيام مواصلة البحث عن الأفكار الجديدة، بما في ذلك استعارة الأفكار من القطاعات الأخرى، أو حتى من خارج عالم الأعمال ذاته.
قد يبدو توجيه النصيحة إلى قادة الشركات بأن يكونوا "أكثر فضولاً" أمراً سهلاً للغاية، لكن الأمر ليس بهذه البساطة التي يبدو عليها، لأنه قد يتطلب تغييراً في أسلوب القيادة. ففي العديد من الحالات، نجد بأن القادة وكبار المدراء التنفيذيين قد ارتقوا بالسلم الوظيفي إلى القمة لأنهم عملوا على توفير الحلول والعلاجات، وليس لأنهم كانوا يطرحون الأسئلة. وبعد وصولهم إلى سدّة القيادة، قد يشعرون أنهم بحاجة إلى الظهور أمام الناس بمظهر خبير واثق.
لكن اعتراف القائد بحالة عدم اليقين والغموض من خلال طرحه للتساؤلات بصوت مرتفع، وطرحه للأسئلة العميقة، هو أمر ينطوي على الخطر، لأن ذلك قد يجعل هذا القائد يبدو في عيون الناس شخصاً يفتقر إلى المعرفة. وكان كل من كلايتون كريستنسن، وهال غريغرسن، وجيف داير، قد لاحظوا في كتابهم "الجينات الوراثية للمُبتكر" (The Innovator's DNA)، الذي تضمن دراسة للقادة الفضوليين الذين يطرحون الأسئلة، بأن هؤلاء القادة تمكنوا من التغلب على ذلك الخطر لأنهم تمتعوا بمزيج نادر من التواضع والثقة: فقد كانوا متواضعين بما يكفي ليعترفوا بينهم وبين أنفسهم بأنهم لا يمتلكون كل الإجابات، لكنهم كانوا في الوقت نفسه يتمتعون بما يكفي من الثقة ليقرّوا بذلك أمام الآخرين.
ورغم أننا قد نميل إلى الاعتقاد بأن الفضول المعرفي هو خصلة فطرية ترافق الإنسان منذ مولده – أي إما أن يولد الإنسان ولديه "عقل فضولي" أو لا يكون كذلك – ولكن إيان ليزلي مؤلف كتاب "الإنسان الفضولي" (Curious)، يقول: "إن الفضول المعرفي هو حالة ذهنية أكثر من أنه خصلة شخصية". أي أننا جميعاً لدينا إمكانية لأن نكون أشخاصاً فضوليين، إذا ما وُضِعنا في الظروف الصحيحة.
يقول ليزلي: "إن معدل الفضول المعرفي يرتفع لدينا على ما يبدو عندما نتعرّض إلى معلومات جديدة، ومن ثم نجد أننا بحاجة إلى المزيد من هذه المعلومات. وبالتالي، فإن القائد الذي يريد أن يصبح قائداً فضولياً يجب أن يحاول الخروج من الشرنقة، كلما أمكنه ذلك، من أجل البحث عن تأثيرات وأفكار وتجارب جديدة قد تشعل الرغبة لديه لتعلّم المزيد والبحث بشكل أعمق".
وحتى عندما يكون القادة الفضوليون محاطين بقيود ومحدّدات مألوفة بالنسبة إليهم، فإنهم يميلون عادة إلى محاولة رؤية الأشياء من زاوية جديدة. فالقادة الذين درست وضعهم كجزء من أبحاثي الخاصة بكتابي بدوا مُغرمين بحل المشاكل القديمة ومواجهة التحديات المعنّدة بعقلية الشخص المبتدئ. فقد ظلّوا يراجعون افتراضاتهم وممارساتهم، ويعيدون النظر فيها بصورة مستمرة، ويطرحون أسئلة عميقة تحاول الدخول إلى لب الموضوع المعني (لماذا؟)، عدا عن محاولة تصور مختلف السيناريوهات المحتملة من خلال طرح السؤال التالي (ماذا لو حصل هذا أو ذاك؟)، إضافة إلى السؤال الشهير (كيف؟).
كما أن هذا النوع من القادة يلجأ أحياناً إلى ممارسة التبشير لدى الآخرين بأهمية الفضول المعرفي، حيث إنهم يحثّون الناس العاملين في مؤسساتهم على "التشكيك في كل شيء وطرح الأسئلة حوله". وهذا بحد ذاته يعتبر سلوكاً نموذجياً ومثالاً يُحتذى للآخرين، وإن كان هؤلاء القادة مضطرين أحياناً إلى اتخاذ خطوات إضافية بحيث يوفرون لهؤلاء الموظفين ما يكفي من الحرية والحوافز، من أجل خلق الظروف الفعلية التي تسمح بازدهار الفضول المعرفي وانتعاشه في جميع أنحاء الشركة.
في نهاية المطاف، ليس من السهل على القائد بالضرورة تعزيز الفضول المعرفي على المستوى الفردي أو على مستوى المؤسسة، لكن الأمر يستحق العناء في سبيله. يقول مايكل ديل: "الفضول يقود إلى التعلم وإلى أفكار جديدة. فإذا لم تفعل ذلك، فإنك ستواجه مشكلة حقيقية".