تجاوزت الشركات الناجحة النظرة القاصرة إلى ممارسات الاستدامة على أنها نوع من المسؤولية الاجتماعية أو الأعمال الخيرية التي تلجأ إليها بعض الشركات مجبَرة لتحسين سمعتها أو للوفاء بالالتزامات والاتفاقات الدولية المبرمة، إلى نظرة أوسع تعتبِر التنمية المستدامة محركاً أساسياً للنمو وأداة ضرورية لتحسين الأداء وتحقيق الأرباح على المدى الطويل.
تُتابع الأطراف الثلاثة المؤثرة في أداء أي كيان اقتصادي، العميل، والموظف، والمستثمر، الممارسات البيئية والاجتماعية التي تنتهجها الشركات الآن أكثر من أي وقت مضى، ويتخذون قراراتهم وفقاً لهذه الممارسات، فقد وجد البحث الذي أجرته شركة برايس ووترهاوس كوبرز (PwC) أن 78% من العملاء أكثر إقبالاً على شراء السلع والخدمات من الشركات الملتزمة بممارسات التنمية المستدامة، كما ساعد التزام شركة إنغرسول راند (Ingersoll Rand)، على سبيل المثال، بممارسات الاستدامة إلى زيادة اندماج موظفيها، وفقاً لرئيسها التنفيذي، مايكل لاش، إضافة إلى أن الشركات التي تتّبع هذه الممارسات تجتذب أصحاب المواهب أكثر من غيرها. وحتى بالنسبة للمستثمرين، فتشير الأبحاث إلى أنهم يميلون إلى الاستثمار في الشركات الأكثر تبنياً لممارسات الاستدامة، إذ تلقت الشركات ذات تصنيف الاستدامة الجيد استثمارات أكثر بنسبة 15% على مدار فترة الثلاث سنوات 2016-2019، مقارنةً بالشركات ذات التصنيف المنخفض.
لذلك، تتسابق الشركات الكبرى ذات النظرة الطويلة المدى إلى تبني ممارسات الاستدامة الشائعة، بل وابتكار المزيد منها وفقاً لطبيعة كل شركة لاكتساب ميزات تنافسية، وتحسين أدائها. وفي عام 2015، أقرت منظمة الأمم المتحدة خطة رسمية للتنمية المستدامة لعام 2030 تضم 17 هدفاً (تُعرف باسم أهداف التنمية المستدامة)، تمثل دليلاً واضحاً للشركات على المستوى الدولي للمساهمة في تحقيق عالم يسوده السلام والازدهار والمساواة.
أدركت شركات ناجحة كثيرة أهمية دمج تلك الأهداف ضمن نماذج أعمالها، ومواءمتها مع أهدافها الفعلية، ليس فقط من باب الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية، أو لتحسين صورتها أمام أصحاب المصلحة، أو حتى لتجنب المخاطر البيئة والاجتماعية المحتملة جراء عدم التزامها، وإنما لتحقيق النمو وتحسين الأداء. فوفقاً لتقرير لجنة الأعمال التجارية والتنمية المستدامة لعام 2017، يمكن أن تستقطب أهداف التنمية المستدامة 12 تريليون دولار من الفرص السوقية عبر أربعة قطاعات اقتصادية حيوية بحلول عام 2030، تتركز أساساً في المدن وقطاعات الطاقة والزراعة والصحة، "وربما أكثر بمرتين أو ثلاثة" بحسب التقرير، مع خلق نحو 380 مليون منصب شغل.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال شركات كثيرة تتعامل مع أهدافها الربحية وأهداف التنمية المستدامة بمعزل عن بعضهما، غير أن بعض الشركات الذكية وضعت خطة فعّالة لمواءمة الهدفين معاً، وتحويل التحديات العالمية إلى فرص مناسبة لخلق عالم أفضل، مثل شركة الهلال للمشاريع (Crescent Enterprises)، التي وضعت خطة لجعل أهداف التنمية المستدامة جزءاً لا يتجزأ من أعمالها، سواء فيما يتعلق باختيار استثماراتها وتقييمها وفقاً لنهجها البيئي والاجتماعي، أو باتباعها ممارسات الاستدامة خلال عملياتها التشغيلية. تشمل خطتها ثلاث خطوات رئيسية مكّنتها من دمج أهداف التنمية المستدامة ضمن نماذج أعمالها لتحسين أدائها، وهي كالتالي:
1. رسم إطار واسع لجهود الاستدامة
تتضمن قائمة أهداف التنمية المستدامة أفكاراً طموحة ومغرية، غير أن محاولة إدراجها جميعاً تبدو مهمة غير قابلة للتنفيذ، إذ في النهاية تبقى الموارد محدودة ونطاق التطبيق العلمي للشركة ضيقاً جداً. كما أن محاولة إدراج جميع الأهداف قد تؤدي إلى تشتيت الموارد، وعدم توافق استثمارات أهداف التنمية المستدامة مع استراتيجية الشركة، بل وقد ينتج عن ذلك تأثير متناقض أيضاً، وذلك حسب عميد كلية فليتشر (Fletcher) للأعمال الدولية، باسكار تشاكرافورتا، في مقال له منشور في هارفارد بزنس ريفيو.
لذا، بدأت شركة الهلال للمشاريع بتجزئة هذه القائمة وفقاً للقطاعات التي تستطيع إحداث تأثير ملموس فيها، إذ تنفذ الشركة أعمالها عبر أربع منصات رئيسية، هي: الهلال للمشاريع التطويرية، والهلال للمشاريع الاستثمارية، والهلال للمشاريع الناشئة، والهلال للمشاريع الابتكارية. فكانت الخطوة الأولى للشركة هي وضع إطار الاستدامة المكوّن من أربعة مجالات، وبناءً عليه تختار الأهداف الملائمة له من قائمة الأمم المتحدة، وأول المجالات هي الحوكمة؛ إذ تعتقد الشركة أن الحوكمة الرشيدة أمر حيوي لتنفيذ الشركة نهجاً متكاملاً يضمن الشفافية والامتثال ويحافظ على الربحية على المدى الطويل، والمجتمع؛ وذلك من خلال دعم البنية التحتية المستدامة والتنمية الاقتصادية للمجتمعات، والبيئة؛ عبر تحسين العمليات التي تقوم بها الشركة لتقليل التأثير السلبي على المناخ وموارد البيئة، وأخيراً الأفراد؛ عبر خلق الوظائف وتطوير المواهب وتطوير المهارات، ودعم العاملين ورواد الأعمال.
2. ربط أهداف التنمية باستراتيجية الشركة
بعد توضيح الشركة مجالات التركيز الرئيسية الخاصة بالاستدامة، يتم دمج كل هدف من أهداف التنمية المستدامة مع استراتيجية القسم المناسب له. وفي شركة الهلال للمشاريع، دُمجت هذه الأهداف بالمنصات الأربع وفقاً لعمل كل منها، وإليكم بعض الأمثلة:
- تُركز منصة الهلال للمشاريع التطويرية (CE-Operates)، وهي المنصة المعنية بالشركات التطويرية العاملة تحت مظلة الهلال للمشاريع، على قطاع البنية التحتية كمحفز أساسي للتطور والنمو الاقتصادي. وتركز الشركات العاملة تحت مظلتها على توسيع نطاقها وبصمتها العالمية بالدخول إلى الأسواق التي تحتاج إلى استثمارات في بنيتها التحتية، مثل شركة غلفتينر (Gulftainer)، أكبر شركة خاصة مستقلة لإدارة الموانئ على مستوى العالم، تمكنت من الحفاظ على سير سلاسل إمداد الشركة بلا انقطاع لدعم المجتمعات في مختلف أنحاء العالم إبان الجائحة، كما حرصت على تركيب جسور مطاطية هجينة في كل محطاتها للقضاء على انبعاثات الكربون، إضافة إلى إعادة تدوير جميع مياه الصرف الصحي المتولدة في محطات غلفتينر.
- تقيّم منصة الهلال للمشاريع الاستثمارية (CE-Invests)، وهي المنصة التي تتولى إدارة استثمارات الشركة في مجال الأسهم الخاصة والاستثمارات البديلة، الاستثمارات المحتملة وفقاً للدرجة التي يلبي بها كل استثمار الأهداف البيئية والاجتماعية والحوكمة. إذ تشير دراسة أجرتها شركة مورنينغ ستار (Morningstar)، حللت خلالها أداء 4,900 صندوق استثماري على مدار 10 سنوات حتى عام 2019، إلى أن غالبية صناديق الاستثمار المستدام تغلبت على أداء نظيراتها التقليدية، وأن المستثمرين الذين اختاروا استثماراتهم على أساس الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات كانوا أقل عرضة لفقدان العوائد مقارنة بحالة استثمارهم في الصناديق التقليدية.
- تركز منصة الهلال للمشاريع الناشئة (CE-Ventures)، وهي المنصة المختصة برأس المال الاستثماري المؤسسي، على الاستثمارات الاستراتيجية في الشركات التي تحقق معدلات نمو مرتفعة في مراحل التمويل المبكرة وصولاً إلى مراحل النمو المتقدمة، إذ نجد أن المنصة تستهدف الاستثمار في الشركات التي تتوافق مع عمليات شركة الهلال للمشاريع مثل تكنولوجيا إدارة سلسلة التوريد، والتكنولوجيا الطبية، والبرمجيات كخدمة للشركات، والتكنولوجيات الناشئة الخاصة بالمستهلكين، مثل فيزيتا (Veezta) وبرايم ميدسين (Prime Medicine) للرعاية الصحية، ويونيون باي (UnionPay) وبوابة ترابط (Tarabut Gateway) للتكنولوجيا المالية، وغيرها من عشرات الشركات المسؤولة في محفظة الشركة الاستثمارية.
- تركز منصة الهلال للمشاريع الابتكارية (CE-Creates)، وهي المنصة التي تتولى تأسيس شركات ناشئة ذات أثر اجتماعي وجدوى اقتصادية واحتضانها، على تعزيز ريادة الأعمال والابتكار، وتحقيق تأثير إيجابي مستدام.
وتتنوع الشركات في المحفظة الاستثمارية للهلال للمشاريع الابتكارية بين مجالات الأغذية، والنقل المستدام والزراعة المستدامة، كما تحرص الهلال للمشاريع الابتكارية على اعتماد المعايير البيئية والاجتماعية التي تمارسها الشركات التي تحتضنها، فتجد أن سلسلة مقاهي كافا آند تشاي (Kava & Chai) تتبع استراتيجية استدامة تركز على صحة العملاء والموظفين وسلامتهم، وتعتمد على التوريد المستدام، والاستهلاك المسؤول، والمشاركة المجتمعية، إضافة إلى جهودها لتقليل بصمتها الكربونية، وإعادة تدوير أكثر من 33% من نفاياتها، إلى جانب بعض المبادرات الاجتماعية مثل مبادرة للتوعية وجمع التبرعات لمكافحة أمراض المناطق المدارية المهمشة. وبذلك تتواءم أهداف الشركة مع أهداف التنمية المحلية مثل الهدف الثالث (الصحة)، والسابع (إتاحة مصادر طاقة حديثة ومستدامة)، والثامن (تعزيز النمو الاقتصادي المستدام للجميع)، والثاني عشر (الاستهلاك والإنتاج المستدام)، والثالث عشر (العمل المناخي)، والسادس عشر (إقامة مجتمعات مسالمة وعادلة دون تهميش)، وغيرها من الأهداف.
3. مؤشرات الأداء وآلية الإبلاغ
وضعت الشركة إطار الاستدامة الخاص بها، وبعدها حددت الأهداف التي تتواءم مع استراتيجيتها، وبقي أن تضمن تحقيق هذه الأهداف عبر طريقتين، الأولى وضع مؤشرات للأداء، والثانية ضمان آلية للإبلاغ والتواصل عن التقدم المحرز في تحقيق الأهداف المرتبطة بأهداف التنمية المستدامة. فيشير تحليل أجرته المبادرة العالمية للتقارير (Global Reporting Initiative) إلى أن أربعاً من كل خمس شركات تلتزم الآن بإصدار تقارير استدامة تُعنى بمساهمتها في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، غير أن أقل من النصف من هذه الشركات حدد أهدافاً قابلة للقياس لكيفية مساهمتها في تحقيق الأهداف. لذلك، من الأهمية ربط هذه الأهداف بأهداف العمل الفعلية ومؤشرات الأداء الرئيسية لمراقبة التقدم والإبلاغ عنه.
اتبعت شركة الهلال للمشاريع نهجاً علنياً لممارساتها الأخلاقية، إذ أعلنت التزامها بعدد من مبادرات التأثير العالمية والإقليمية الرئيسية، مثل الاتفاق العالمي للأمم المتحدة، الذي يشجع الشركات على مواءمة أعمالها مع 10 مبادئ تعزز حقوق الإنسان والعمل واحترام البيئة ومكافحة الفساد ودعم أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. وقد التزمت الهلال للمشاريع بالإفصاح عن التقدم المحرز في عملياتها وتأثيرها البيئي والمجتمعي، إذ تصدر سنوياً، منذ عام 2013، تقريراً عن خطواتها نحو الاستدامة.
أثبتت الشركات التي استطاعت دمج أهداف التنمية المستدامة ضمن استراتيجيتها مثل شركة الهلال للمشاريع، أن النظرة البيئية والمجتمعية يمكن أن تسهم في تعزيز الابتكار في الشركة وتحسين أدائها ومكانتها في المنافسة أيضاً.