فكرة المقالة باختصار
المشكلة
يسبب كثير من ممارسات الموارد البشرية في الولايات المتحدة الضرر للشركات والموظفين والمستثمرين على حد سواء، وتشمل هذه الممارسات نقص الاستثمار في تدريب الموظفين وزيادة الاعتماد على العاملين المستأجرين والنقلة من نظام الرواتب التقاعدية إلى خطط التقاعد الأميركية 401(k).
السبب الأساسي
تتعامل معايير إعداد التقارير المالية في الولايات المتحدة مع الموظفين والاستثمار فيهم على أنهم نفقات أو خصوم، ما يؤدي إلى إنقاص قيمة الشركات بنظر المستثمرين.
الحل
فرض إضافة بعض النقاط الصغيرة إلى ما تبلغ الشركات عنه، ويشمل ذلك نفقات تدريب الموظفين ونفقات العمالة غير المتعلقة بالموظفين، ومعدل دوران الموظفين ونسبة الوظائف الشاغرة التي تعمل الشركة على شغلها بمرشحين داخليين. ينبغي للشركات أن تقدم هذه المعلومات طوعاً، وينبغي للمستثمرين الاستمرار بالضغط على هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية لإجراء الإصلاحات.
يصعب شرح كثير من الممارسات الشائعة المتبعة في إدارة الموظفين؛ لماذا تركز الشركات اهتمامها على تكلفة التوظيف، ولكنها لا تخصص الوقت الكافي للتحقق من أنها تعيّن الموظفين المناسبين؟ لماذا لا تقدم تدريباً كافياً على الرغم من معرفة أهمية التدريب في تحسين مستوى الأداء وقبول كثير من المرشحين بتخفيض رواتبهم في سبيل الحصول عليه؟ لماذا ترجئ الشركات شغل الوظائف الشاغرة وتسمح بتعطيل العمل؟ لماذا تنفق أموالاً طائلة على استئجار موظفين من الشركات المزودة للخدمات بدلاً من تعيين موظفين دائمين؟
يتمثل أحد الأجوبة المحتملة لهذه الأسئلة في الطريقة المتميزة التي تتعامل بها أنظمة المحاسبة المالية في الولايات المتحدة مع تكاليف التوظيف (والتي تختلف عن طريقة تعامل المعايير الدولية معها)، وعلى الرغم من جميع الشعارات الرنانة حول "الاستثمار في موظفينا"، فتدريب الموظفين وتطويرهم لا يعدّان استثماراً وإنما يدرجان ضمن النفقات الجارية، وهي تكلفة ثابتة مثل تكلفة فرش المكتب بالسجاد تماماً، وينطبق الأمر ذاته على تكاليف التوظيف الأخرى مثل الأجور والرواتب المدفوعة لجميع الوظائف الإدارية. بما أن الشركات الأميركية تتمتع بقدر كبير من الحرية في تسريح الموظفين، فتعاملها مع هذه النفقات على أنها تكاليف ثابتة لا يمكن تخفيضها في أثناء فترة الركود الاقتصادي منطقي إلى حد ما، ومع فهم القوانين الأخرى المتبعة في الشركات، يمكن تفسير سبب زيادة عدد الشركات التي تلجأ إلى تعيين موظفين غير دائمين خلاف الموظفين الدائمين لمواكبة توجه نشأ بسبب نظام محاسبة التكاليف، وبإبعاد العمل عن الموظفين تتخلص الشركات من التكاليف الثابتة وتنقل تكاليف التوظيف إلى فئة محاسبية أخرى. باختصار، يشوه نظام المحاسبة المالية قرارات الأعمال على نحو يضرّ بجميع الأطراف من مستثمرين وشركات وموظفين.
تتفوق أنظمة المحاسبة المالية على القانون الضريبي في دفع الشركات إلى اتخاذ قرارات حول العمل والموظفين تتضارب مع الكفاءة والفعالية، وكما سأوضح في هذا المقال، يمكنك رؤية التبعات السلبية بصورة عملية بعد تطبيق هذه الأنظمة، وإذا اجتمعت كلها فسيكون أثرها هائلاً. ويتمثل علاجها في إضافة إجراءات بسيطة ومعتدلة إلى متطلبات تقديم التقارير سأوضحها لاحقاً، وعلى الرغم من ضآلة هذا التغيير فهو سيوقع أثراً إيجابياً مهماً على نتائج الموظفين والشركة، ولكننا سنتمعن أولاً في الخلل الذي يسببه نظام المحاسبة المالية.
الموظفون لا يعدّون من الأصول
الشركات العامة الأميركية مُلزمة بتقديم تقارير مالية وفقاً لمعايير مبنية على المبادئ المحاسبية المتعارف عليها التي أسسها مجلس معايير المحاسبة المالية. تفيد هذه القوانين المحاسبية بأن العناصر التي تتمتع بالقيمة هي أصول، ولكن بشرط أن تملكها الشركة نفسها. وعلى هذا الأساس، الموظفون لا يعدّون من الأصول على الرغم من أن مدة خدمة من يتمتع بقيمة كبيرة منهم تكون غالباً أطول من حياة أي مُعدة من المعدات الرأسمالية، وحتى حين تشتري الشركة شركات أخرى بهدف الحصول على موظفيها ذوي المهارات العالية فليس من الممكن التعامل مع الاستحواذ على المواهب على أنه استثمار.
بينما تتيح قوانين المبادئ المحاسبية المتعارف عليها للشركة احتساب البرامج أو المعدات التي تشتريها بوصفها أصولاً تعوض الخصوم (الالتزامات)، كما تتيح للشركة تخفيض قيمة هذه المشتريات على مدى عمرها الإنتاجي. يرغم حساب الإهلاك المدراء على تذكّر أن الأصول تهترئ ويجب تخصيص ميزانية لاستبدالها.
ولكن ماذا يحدث حين تستحوذ الشركة على الموظفين؟ فلنقل إن شركة تدفع أموالاً طائلة لدفع مكافآت التوقيع على عقود العمل وغيرها، من أجل اجتذاب فريق من أهم علماء الكمبيوتر الذين لهم دور مركزي في استراتيجيتها الجديدة، تندرج هذه التكاليف ضمن النفقات الجارية التي يجب اقتطاعها بالكامل من الدخل الخاضع للضريبة في عام التوظيف، حتى وإن لم يتوقع مدير الشركة أن يبدؤوا بتحقيق القيمة قبل عام آخر على الأقل. قد يؤدي ذلك إلى خسارة كبيرة في إيرادات ذاك العام، وحتى إن لم تملك الشركة ما يكفي من المال لتغطية النفقات، فسيبدو عموماً أن العملية تسبب خسارة المال، وهي علامة إنذار خطيرة بالنسبة للمستثمرين وهذا هو الحال حتى وإن كان الموظفون مقيدين بأجور مؤجلة أو اتفاقات غير مكتملة، أو بغيرها من العقود.
كما أنه ليس بإمكان الشركة الادعاء في دفاتر الحسابات أنها تستثمر في موظفيها الحاليين، لأنه بحسب القوانين المحاسبية لا يمكنها الاستثمار فيما لا تملكه. فلنفترض أن شركة قررت إرسال أحد موظفيها إلى دورة تعليمية باهظة في برمجة الكمبيوتر، فيمكنها اعتبار ذلك استثماراً لأنها تؤمن أن الموظف سيكون ذا قيمة خلال الفترة القادمة، ولكن قوانين المحاسبة المالية تشترط إضافة هذا النوع من التكاليف بالكامل كمصروفات في إيرادات نفس العام، وهذا الشرط يفسر النقصان المستمر في برامج تدريب الموظفين وتطويرهم، ما يشكّل بدوره أحد أسباب لجوء الشركات الأميركية اليوم إلى شغل 70% من الشواغر لديها بموظفين بعقود خارجية. كما أن حقيقة أنه ليس بإمكان الشركات تخفيض الاستثمار في رأس المال البشري مثلما تخفض الأصول المادية هي مشكلة إضافية، إذ لا تتوفر طريقة معادلة لتخطيط عملية استبدال أصحاب المواهب الحيوية ووضع ميزانية لها.
تضرّ قوانين المحاسبة المالية بممارسات تدريب الموظفين وتطويرهم بطريقة أخرى تتمثل في تجميع التكاليف الخاصة بهم مع التكاليف الأخرى ضمن فئة التكاليف "العامة والإدارية" شديدة الاتساع. هل تنفق الكثير على تدريب الموظفين أم على سجاد المكتب؟ لا يعرف المستثمر المهتم ذلك ولن يتمكن من اكتشافه.
قد يقول البعض إنه من الحكمة عدم التعامل مع تكاليف التوظيف على أنها استثمارات لأن الموظفين لن يبقوا في الشركة إلى الأبد، ولكن هذا التفكير يتغاضى عن الشروط المقيِّدة التي تراكمها الشركات على الموظفين، مثل اتفاقات الامتناع عن المنافسة وفترات استحقاق خيارات الأسهم وحتى اشتراط سداد تكاليف التدريب والتعليم للمؤسسة في حال مغادرتها. تكمن المفارقة في أنه على عكس الأصول الرأسمالية التي تتهالك على نحو مطرد ومتوقع، تزداد قيمة الموظفين مع مرور الوقت عن طريق "التعلم عبر الممارسة" ببساطة، وهو لا يكلف شيئاً.
تتعامل الأنظمة المحاسبية مع الرواتب التقاعدية على أنها خصوم، وتكون في بعض الأحيان أكبر الخصوم في دفاتر حساباتها. هل يتعين عليك تحسين صورة مركزك المالي بسرعة؟ احرص على إلغاء الرواتب التقاعدية.
الامتيازات لا تعد من الخصوم
تشمل امتيازات الموظفين الإجازات والإجازات المرضية وتأمين الرعاية الصحية، وإما أن يستفيد الموظف منها في حينها أو أن يجمّعها ليستفيد بها مستقبلاً، وهي تشكل التزامات مستقبلية بالنسبة للمؤسسة. تدوّن هذه الامتيازات وفق المبادئ المحاسبية المتعارف عليها على جانب الخصوم في الميزانية العمومية باعتبارها التزامات يجب تعويضها بالأصول المتداولة، وهي تشكل من وجهة نظر محاسبية عبئاً أكبر من عبء النفقات البسيطة.
كانت النقلة الكبيرة من نظام الرواتب التقاعدية أو نظام استحقاقات التقاعد المحددة إلى نظام الاشتراك المحدد، مثل خطة التقاعد الأميركية 401(k)، نتيجة لهذه الميزة المالية الغريبة. نظام الرواتب التقاعدية هو التزام مستقبلي وامتياز مضمون للموظفين، ويقول الرأي القياسي في علم الاقتصاد إن الموظفين يجدون قيمة في الحصول على هذا الامتياز المضمون وتوفيره في الشركة الكبيرة أسهل من أن يتعامل الموظف بمفرده مع خطورة الاستثمار. في الحقيقة، تبين سلسلة دراسات أنه على أساس كل دولار، كان نظام المعاشات التقاعدية (الذي كانت عائدات الاستثمار فيه قبل الجائحة قوية) أقل تكلفة بالنسبة للشركات في السنوات الأخيرة مقارنة بنظام الاشتراك المحدد المكافئ له.
ولكن الشركات تتعامل مع الرواتب التقاعدية على أنها خصوم أيضاً، وهي في بعض الأحيان أكبر التزامات الشركة. هل يتعين عليك تحسين صورة مركزك المالي بسرعة؟ احرص على إلغاء نظام الرواتب التقاعدية وانتقل إلى نظام الاشتراكات المحددة للتقاعد، وبذلك تتخلص من خصم كبير وتزداد قيمة الشركة على الفور. نشأ هوس شركات وادي السيليكون والشركات الناشئة بنظام "الإجازة غير المحدودة" من فكرة مماثلة؛ في غالبية الشركات يجمّع الموظفون أيام إجازاتهم أو يستفيدون منها وفقاً لما تقتضيه مصالحهم، وتلتزم الشركة إتاحة الإجازة المدفوعة الأجر لهم وتسجيلها مع الخصوم في دفاتر حساباتها. وبالانتقال من الالتزام الصريح إلى الوعد المبهم المتمثل في الإجازات غير المحدودة تتخلص الشركة من الخصم وتزيد قيمتها الظاهرة بصورة فورية، كما أنه يساعد في تفسير تقديم عدد متزايد من الشركات إجازات مرضية غير محدودة لموظفيها إذ إنها تتفادى بذلك الخصوم المجمّعة.
قوانين المبادئ المحاسبية المتعارف عليها تحفز النقلة نحو اعتماد التعاقد مع عاملين خارجيين في الشركات
يقال إن عدداً من القوانين دفع الشركات إلى السعي لاعتماد التعاقد مع عاملين خارجيين، وإحدى هذه القواعد تتضمن التعامل مع الأجور والرواتب على أنها تكاليف ثابتة، وهذا النوع من التكاليف يقلق المستثمرين لأن تراجع الأعمال والعائدات مع عدم القدرة على تخفيض هذه التكاليف يؤديان إلى انهيار قيمة الشركة السريع.
يشكّل ما يدفع النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى اعتبار الأجور والرواتب تكاليف ثابتة لغزاً لأن عملية التوظيف اختيارية تماماً وبالتالي يمكن للشركات إنهاء عمل أي موظف من جانبها لأي سبب يتعلق بالعمل؛ لا يبدو أن الشركات تعاني أي صعوبة في تسريح موظفيها إذا كان ذلك سيحسن أداءها المالي، ويبدو أن المستثمرين يحبذون ذلك فعلاً.
كما أن قوانين المبادئ المحاسبية المتعارف عليها تقتضي من الشركات الإبلاغ عن عدد موظفيها فقط وليس عن عدد العاملين الإجمالي. وبما أن عدداً من مقاييس الأداء الرئيسة أنشئ بناءً على أساس كل موظف، وأشهرها الإيرادات والأرباح لكل موظف، فالشركة التي تعتمد التعاقد مع العاملين الخارجيين وتقلّص عدد موظفيها تبدو أكثر نجاحاً على الفور.
والسبب الأخير لاعتماد الشركات التعاقد مع العاملين الخارجيين بدرجة متزايدة متعلق بالتكاليف التي تدخل في إنتاج ما تبيعه الشركة، أي تكلفة السلع المباعة التي تسمى "التكاليف التي تجاوزت الحد" ولها أثر هائل في هامش الربح الإجمالي الذي قد يكون أهم مقياس للربحية، على عكس تكاليف مرحلة التنفيذ (تكاليف تحت الحد)؛ الشركة التي تتمكن من نقل تكاليفها التي تجاوزت الحد إلى تحت الحد ستحسّن هامش الربح الإجمالي. يبدو العمل الذي ينجزه العاملون الخارجيون قيد التعاقد، والذي يندرج ضمن تكاليف مرحلة التنفيذ، أقرب إلى المصروفات العرضية غير المتكررة -وهي تكاليف متغيرة وليست ثابتة- مقارنة بالعمل الذي ينجزه الموظف الدائم. وتستطيع الشركة التي تدفع أجور عقود الموظفين المستأجرين مسبقاً ضم بعض التكاليف إلى الأصول ضمن ميزانيتها العمومية. تنتقل الشركات إلى الاستعانة بعدة أنواع من العاملين الخارجيين، ولكنها لا تفضل الاستعانة بالمتعاقدين المستقلين لأنها تحتاج إلى ضمان الاستقرار والقدرة على التوقع في غالبية أنشطتها، بل تفضل الاعتماد على موظفي الشركات المزودة للخدمات المنتظمين الذين يعملون ضمن مقرات شركات العملاء، أي "الموظفين المستأجرين" الذين يؤدون الوظائف التي يؤديها الموظفون الدائمون عادة بصورة روتينية. من الصعب تقدير حجم هذه القوة العاملة بالأرقام، ولكن بعض الدراسات الاستقصائية تشير إلى أن نسبة تقارب 30% من المبلغ الكلي الذي تنفقه الشركات على الموظفين تدفع للعاملين الخارجيين ومنهم نسبة كبيرة من الموظفين المستأجرين، وهذا ما يفسر تخصيص الشركات ميزانية كبيرة لهم. أجرى زميلي ماثيو بيدويل دراسة على قرارات إحدى الشركات حول الاستعانة بشركة مزودة للخدمات أو بموظفيها الدائمين لأداء أعمال تكنولوجيا المعلومات، وتوصل فيها إلى أن المدراء يلتزمون منح الشركات المزودة للخدمات حصة معينة من حجم العمل الكلي في مشروع ما، ولم يكن هذا القرار قائماً على احتياجات الشركة المحلية. والجدير بالذكر أن الشركة تسمح للمدراء بالتراخي في تحقيق أهداف التكلفة عند الاستعانة بالشركات المزودة للخدمات في أداء العمل أكثر مما تسمح به عند الاستعانة بموظفيها.
يقول أحد المدراء إن مجموعات التكاليف لم تكن متماثلة، كما أن عملية الموافقة على الاستعانة بالشركة المزودة لم تكن مرهقة أو تستلزم درجة عالية من البيروقراطية كما هو الحال عند الاستعانة بموظف داخلي.
تتبع الشركات ممارسة شائعة أخرى تتمثل في التعهيد الخارجي للمهام الإدارية المتعلقة بالتوظيف، مثل تعيين الموظفين الجدد، كي لا تضطر إلى تعيين موظفين داخليين لأدائها، ويقدّر حجم القطاع الذي يقدم خدمات الموارد البشرية بناءً على التعهيد الخارجي بما يربو على 500 مليار دولار. تعمل بعض الشركات على تقليص الأجور التي تدفعها للموارد البشرية الداخلية عن طريق الاستعانة بالبرامج بدلاً من الموظفين. يقول مسؤولو الموارد البشرية التنفيذيون عادة إن الحصول على مبلغ من المال لشراء أحد حلول تكنولوجيا المعلومات أسهل من الحصول على نفس المبلغ لتعيين موظف جديد، لكن ثمة تساؤلات أيضاً عما إذا كانت برامج الموارد البشرية تؤدي العمل بنفس جودة عمل المهنيين الذين تحل محلهم. في عام 2020، نُشرت دراسة استقصائية أجرتها شركة برايس ووتر هاوس كوبرز (PwC)، التي تركز على الأولويات التي تحددها أنظمة المحاسبة المالية، وبيّنت أن كبار المسؤولين التنفيذيين يصدقون أن الحلول التكنولوجية المتخصصة في الموارد البشرية تخفض التكاليف أكثر من تصديق المدراء المباشرين الذين يستخدمون هذه البرامج بنسبة 270%.
ثمة أدلة دامغة على أن هذه الأساليب تعاني مساوئ خطيرة، فالبحث الذي أجريته بنفسي توصل إضافة لأبحاث كثيرة أخرى إلى أن الاستعانة بموظفين مؤقتين ومستأجرين يضر بالإنتاجية، وأن هؤلاء الموظفين لا يتمتعون بسعة المعارف والالتزام مثل الموظفين الدائمين ويزيدون المطالب على كاهل الإدارة ويسببون صعوبات في التنسيق مع الموظفين الدائمين ويثيرون استياءهم، إذ يخشى الموظفون الدائمون على مكانتهم ووظائفهم فيتراجع اندماجهم في العمل. كما أن الشركات تضطر إلى تشكيل قسم خاص لإدارة "العلاقات مع الشركات المزودة للخدمات" من أجل التعامل مع جميع عقود التعهيد الخارجي، ويشير ذلك إلى أن التعامل مع الشركات المزودة للخدمات ليس سهلاً ولا منخفض التكلفة. لا يتمثل الأساس المنطقي للاستعانة بموظفي شركة أخرى في زيادة الكفاءة، بل استغلال قوانين المبادئ المحاسبية المتعارف عليها كي تبدو الشركة أكثر قيمة في نظر المستثمرين.
من الصعب الحصول على موافقة التوظيف
يمارس التوجه الحالي ضغطاً من أجل اختصار ما بقي من الوظائف التي يؤديها الموظفون، وتعمل شركات كثيرة اليوم على تحديد عدد الموظفين في وحدات العمل إضافة إلى تحديد ميزانياتها بمبالغ معينة. ترتبط العلاوات التي يحصل عليها مدراء العمليات التشغيلية عادة بنجاحهم في إبقاء عدد الموظفين في وحداتهم أقل من السقف المحدد.
من السهل رؤية أن كل ذلك يجعل الشركات تقتصد في إنفاق الفتات وتسرف في إنفاق مبالغ طائلة في غير مكانها، ويتمثل أحد أبرز الأمثلة على ذلك في المتاجر التقليدية؛ لطالما اعتبرت أنه بالإمكان الاستغناء عن الموظفين وخفّضت ميزانيات التوظيف والتدريب بسبب الصعوبات التي واجهتها في سعيها للتنافس مع المتاجر الإلكترونية. إلا أن البحث الذي أجراه مارشال فيشر وزملاؤه في كلية وارتون توصل إلى أن استراتيجية خفض النفقات هذه تعود بآثار عكسية غالباً لأن توفر موظفين حاصلين على تدريب أفضل يؤدي إلى زيادة المبيعات وأرباح العمليات في كثير من المتاجر. (لمزيد من المعلومات يمكنك الاطلاع على مقال "متاجر التجزئة تُبدّد أكثر أسلحتها فاعلية" في العدد 19 من مجلة هارفارد بزنس ريفيو العربية لشهرَي يناير/ كانون الثاني - فبراير/ شباط من عام 2019).
ويتمثل المثال الآخر في قطاع الطيران؛ منحت الحكومة في أثناء الجائحة شركات الطيران دعماً مالياً كبيراً لمساعدتها على الاستمرار في دفع رواتب موظفيها، ولكن، حسب ما كتبه بيتر كوي في صحيفة نيويورك تايمز، قال قادة شركات الطيران لمحللي وول ستريت في عام 2021 إنهم تعمّدوا تقليل عدد موظفيهم عند العودة إلى العمل بعد الجائحة كي يتمكنوا من خفض تكاليفهم أكثر. وكانت النتيجة نقص الموظفين في أثناء موسم العطلة حين شهد الطلب على الرحلات ارتفاعاً كبيراً ومتوقعاً، وبالتالي اضطرت الشركات إلى إلغاء بعض الرحلات ما أدى إلى خسارتها. على صعيد النظام الاقتصادي عموماً، يمكن اعتبار إرجاء عمليات التوظيف واحداً من أسباب معاناة شركات كثيرة من مشكلات الوظائف الشاغرة بعد رفع القيود التي فرضتها جائحة كوفيد-19 ربيع عام 2021، ونتيجة لنقص الموظفين تعرضت الشركات للخسارة أيضاً. هذه النتيجة طبيعية، لأن الأدلة توضح أن الشركات التي تخفض تكاليفها بدرجة كبيرة وبسرعة في فترات الركود تعاني صعوبة في الاستمرار حين تعود الأعمال إلى سابق عهدها، وبالنتيجة يكون أداؤها المالي أدنى من أداء الشركات القرينة. يعزى تراجع الإنتاجية الذي عانته الولايات المتحدة في العقد الثاني من الألفية الثالثة إلى حقيقة أن جهات العمل خفضت أعداد الموظفين بدرجة كبيرة جداً في أثناء الركود الاقتصادي الكبير، ما أدى إلى عجزها عن التعافي مع انتعاش النظام الاقتصادي ككل.
هذا التركيز الخاطئ على تقليص عدد الموظفين هو سبب آخر لتقليل أعداد موظفي الموارد البشرية، إذ تراجعت نسبة موظفي الموارد البشرية إلى عدد الموظفين الكلي من موظف موارد بشرية واحد لكل 100 موظف في عام 1980 إلى موظف موارد بشرية واحد لكل 150 موظف اليوم. وفكرة إلغاء وظائف الموارد البشرية مثل وظيفة مسؤول التوظيف، الذي يتقاضى نحو 75 ألف دولار في السنة في الولايات المتحدة، وإضافة مهامه إلى مهام المدير المباشر الذي يتقاضى مالا يقلّ عن ضعفَي هذا الأجر، مناقضة تماماً لغالبية استراتيجيات خفض التكاليف.
ستزداد قيمة الشركات بنظر المستثمرين إذا رأوا أن نسبة كبيرة من "النفقات الإدارية" تستخدم في الواقع لتحسين قدرة الموظفين على أداء وظائفهم.
ما الذي يمكن فعله؟
إن طريقة تعامل أنظمة المحاسبة المالية الحالية مع رأس المال البشري لا يوجد لها مدافعون في الحقيقية، وقد حفّز المستثمرون على اختلاف فئاتهم حركة تغييرها، إذ يرون أنها تؤدي إلى نقص المعلومات وبالتالي تزيد صعوبة تقدير القيمة الحقيقية للشركات، فضغطوا على الشركات وحتى التي يملكون فيها حصصاً كبيرة للإبلاغ عن قدر أكبر ممكن من بيانات الموارد البشرية، ولكنهم حتى الآن لم يشهدوا تغييراً يذكر، ليس لأن الشركات تفضل السياسات الحالية وإنما لأنها تبدي رد فعل لا إرادي ضد مطالبتها بتقديم مزيد من المعلومات نظراً للعمل الإضافي الذي يترتب عليه.
في عام 2020، استجابت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (IFRS) -التي تشرف على ممارسات المحاسبة المالية في الولايات المتحدة وتدعم مجلس معايير المحاسبة المالية- إلى شكاوى مجموعات المستثمرين بمطالبة الشركات بالإبلاغ عن مجالات الموارد البشرية الجوهرية التي تساعد في فهم أعمالها، ولكنها خولت الشركات بتحديد المعلومات التي ستفصح عنها بدلاً من أن تفرض عليها تقديم معلومات محددة. والنتائج حتى الآن محبطة إذ لم تُبلغ نسبة 70% من الشركات عن أي معايير مهمة، ولم تقدم سوى عبارات مبتذلة عن التزامها التنوع والشمول أو غيرها من النتائج الاجتماعية المرغوبة. يؤدي منح الشركات هذا القدر من حرية التصرف إلى تقويض الغاية الأساسية من نظام المحاسبة، وهو تقديم معلومات بأساليب معيارية لغرض المقارنة.
ما الذي ينبغي فعله؟ من مصلحة الشركات الإبلاغ عن إنفاقها على التدريب والأمور الأخرى التي تعدّ استثمارات بالنسبة للجميع، باستثناء المحاسبين الماليين؛ إذ ستزداد قيمة الشركات بنظر المستثمرين إذا رأوا أن نسبة كبيرة من "النفقات الإدارية" تستخدم في الواقع لتحسين قدرة الموظفين على أداء وظائفهم، وسيؤدي هذا الأثر غير المباشر إلى ابتعاد الشركات عن الممارسات الطائشة وغير المجدية التي يشجعها النهج المحاسبي الحالي.
يمكن أن تحرص الشركات التي تنظر إلى رأس المال البشري على أنه مصدر للميزة التنافسية على مطالبة الشركات الموردة بالإبلاغ عن المقاييس التي تدل على الممارسات المسيئة مثل تكاليف الدوران الوظيفي، والتي تدل على الممارسات النافعة مثل الاستثمار في التدريب. وستساعد هذه المعلومات العملاء على تقييم ما يمكن للشركات الموردة فعله حقاً؛ هل تكون الشركة الموردة صادقة عندما تدّعي أنها جديرة بالثقة إذا كان نصف موظفيها يستقيلون كل سنة؟
يجب أن يواصل مجتمع المستثمرين من جهته الضغط على هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية لإحداث تغيير، ويمكن أن يوضح لها أن متطلبات الإبلاغ الجديدة ليس لها تأثير يذكر وأنه بالإمكان اتباع نموذج بديل متمثل في المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية المستخدمة في الشركات خارج الولايات المتحدة. تُلزم هذه الممارسات المحاسبية العالمية الشركات بتقديم معلومات أكثر عن قيمة أصل رأس المال البشري. خير مثال على ذلك هو فرق كرة القدم التي لا تملك أصولاً سوى لاعبيها، إذ تسمح لها ممارسات المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS) استرداد أسهم أصولها البشرية وإعادة تقييم فرقها عند تداول عقود اللاعبين وإنهائها وما إلى ذلك.
ما المعلومات التي ينبغي لنا مطالبة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية بإلزام الشركات الإبلاغ عنها؟ ستكون بعض المقاييس البسيطة مفيدة للغاية؛ الأول ببساطة هو تقسيم فئات التكاليف التي تبلغ عنها بالفعل:
كم تنفق الشركات على العاملين من غير موظفيها؟ لن يتوفر لدينا ما يوضح مدى كفاءة العمليات إذا بقيت تكاليف العمل مثل الموظفين المستأجرين مخفية.
كم تنفق الشركة على تدريب الموظفين وجهود التطوير الأخرى؟
ما هو معدل دوران الموظفين الذي يقيس رأس المال البشري المتسرب من الشركة؟ ما نسبة الاستقالات من هذا التسرب؟ ستساعدنا هذه المعلومات مع العدد الكلي للموظفين الذي تبلغ عنه الشركات بالفعل على تقدير عدد الإقالات الذي يعدّ مؤشراً حقيقياً على وجود مشكلات إدارية.
ما هي نسبة الوظائف الشاغرة التي تعمل الشركة على شغلها بمرشحين داخليين؟ تكشف هذه النسبة درجة تنمية الشركة لأصحاب المواهب من موظفيها أو اضطرارها إلى دفع المال للحصول عليهم من الخارج. تجمع برامج تتبع المتقدمين في كثير من الشركات هذه المعلومات بالفعل (وكذلك الأمر بالنسبة لبيانات الدوران الوظيفي).
أنظمة المحاسبة المالية هي بطاقة الأداء التي تبين للشركات مدى جودة أدائها، ونظرتها إلى رأس المال البشري بهذه الصورة الخاطئة هي في الواقع مشكلة كبيرة. على الرغم من أن مخاوف المستثمرين حول عدم قدرتهم على تقييم الشركات بدقة جذبت الانتباه إلى درجة ما، فهذه المشكلة أصغر بكثير من مشكلة الخلل المنهجي الذي يضرّ بالكفاءة التشغيلية من دون أن ينتبه إليه أحد. لا يمكن معالجة جميع مشكلات تعامل نظام المحاسبة المالية مع رأس المال البشري بالتغييرات البسيطة التي تحدثنا عنها في هذا المقال، ولكن التغييرات البسيطة لها آثار كبيرة في كثير من القضايا المهمة الأخرى التي يصعب حصرها.