أمانة نقل الخبرة

4 دقائق

كان من أوائل الدروس التي تعلمتها في بداية حياتي المهنية، حدث عندما بدأت العمل في سفارة بلادي في واشنطن. في تلك الفترة زارنا صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في مقر السفارة خلال إحدى زياراته للولايات المتحدة، وأذكر أنه سألني يومها عن طبيعة عملي وأحوالي المهنية والشخصية، ثم أوصاني باستغلال فرصة وجودي في واشنطن لتطوير مهاراتي وبناء خبراتي عبر استكمال الدراسة الجامعية أو التسجيل في المساقات التعليمية المتخصصة.

أخذتني مشاغل العمل والحياة في تلك الفترة، فلم أتمكن من التسجيل لمتابعة دراستي ذلك العام، وفوجئت في العام التالي بالشيخ محمد بن زايد وفي إحدى زياراته، يسألني عن الموضوع ذاته، ويذكرني بضرورة عدم إضاعة الفرصة في نهل العلم.

لم تكن هذه القصة مجرد تحول في حياتي المهنية والشخصية فقط، حيث قررت بعدها عدم التردد في متابعة تعليمي واعتماد التعليم كنهج مستمر في حياتي، بل تركت تلك القصة في نفسي آثراً بالغاً تعلمت منه دروساً عديدة، منها أن القائد وبرغم كل ما يحيط به من مشاغل يبقى الموجّه والمرشد الذي يحفز فريق العمل لتقديم أفضل مالديه وتطوير مهاراته. لقد اكتسبت من هذا الدرس منهجاً أعتمده في مهماتي التي كنت مسؤولاً فيها عن مجموعات من فرق العمل، مفاده بأن التوجيه والإرشاد يجب أن يكونا جزءاً من التزامي تجاه فريق عملي.

لقد تعلمت من بيئة العمل التي توارثناها في الإمارات بأن علاقة العمل بين القائد وفريق عمله، وبين الزملاء في العمل أنفسهم، ليست مجرد علاقة تعاقدية تقتصر على تقديم العمل مقابل المال، بل هي علاقة يترسخ فيها فيها البعد الاجتماعي والرعاية والتوجيه والمشاركة، وغيرها من القيم التي ابتعد عنها العالم الحديث لفترة، ثم هاهو يعود إليها مؤخراً كما تثبت الأبحاث العلمية المعاصرة.

في هذه البيئة التعاونية التي تعلمت منها، وساهمت بتعليم زملائي أصولها الإدارية والمجتمعية، ازددت يقيناً يوماً بعد يوم بأن نقل المعرفة بين الزملاء، ونقلها من القائد إلى الفريق هو واجب اجتماعي ومهني لضمان استمرار النفع العام، واستمرار قدرة المؤسسات على تقديم خدماتها ومنتجاتها للمجتمع. وبالنتيجة فإن الشخص الذي يحتكر الخبرة ولا يؤهل من يتولى المسؤولية من بعده أو حال غيابه، هو شخص "يخون الأمانة" بحسب مفهومي. ربما يبدو هذا التصنيف صادماً بعض الشيء، لكن دعونا نفكر قليلاً في سلسلة حلقات المعرفة التي أشرت إليها في بداية حديثي، فأنت قد تكون جزءاً من مؤسسة قدمت لك الكثير من الخبرات التشاركية كجزء من فريق العمل، كما قدمت لك الإرشاد والتوجيه من مشرفيك. وهذه كلها فوائد تتجاوز التعاقد الوظيفي مقابل الراتب، بل هي ترتقي لمنزلة بناء شخصيتك وخبرتك. وهنا تفترض المؤسسة التي قدمت لك بيئة الخبرة والتوجيه أن تقوم بدورك بنقل هذه الخبرة إلى جيل آخر من الشباب حديثي العهد بالعمل عندما تصبح أنت خبيراً في مجال ما. وإذا تأملنا في حالة من يكسر هذه الحلقة المستمرة ويحتكر المعلومات والخبرات لنفسه، فإننا نصبح أمام مفهوم واضح لـ "خيانة الأمانة".

وقد يتساءل بعض ممن اكتسبوا الخبرة بعد جهد وعناء: "هل علي أن أنقل خبرتي التي تعلمتها بالعرق والجهد بكل بساطة لشاب أو شابة لم يعانوا ما عانيته خلال تعلمي؟". ورغم أن هذه الفكرة في جوهرها تكشف ضعفاً في ثقة الشخص بنفسه، حينما يعتقد أن مجرد تقديم ما لديه للآخرين سيجعله مفلساً من الخبرة، وأنه لن يستطيع تطوير ذاته بمهارات أرقى وأحدث وأكثر تعقيداً في مجال اختصاصه، إلاّ إنني أود أن أدحض هذه الفكرة من خلال قصة بسيطة حصلت معي خلال فترة دراستي، فقد كنت أدرس اختصاص "إدارة التقنية"، وهذا ما جعلني حينها مولعاً بابتكار بعض الأفكار. وفي إحدى المرات، عندما رأيت مالكة البيت الذي كنا نستأجره تتعامل مع دبور دخل من نافذة البيت فجأة، حيث عملت السيدة على توجيهه ليخرج من النافذة. عندها تذكرت كيف يلجأ الكثيرون إلى قتل الدبور دون تردد للتخلص من مشكلة دخوله المنزل، فعملت يومها على ابتكار جهاز صغير معتمداً على مبدأ المكنسة الكهربائية في سحب الدبور والحشرات عبر ضغط الهواء الخفيف ثم إعادة ضغطها إلى خارج المنزل. وقد كنت يومها فخوراً بهذا الاختراع، إلى أن ركبت الطائرة بعدها بفترة، وبينما كنت أتصفح مجلة "سكاي مول" في إحدى الطائرات وقعت عيني على ذات الاختراع الذي ابتكرته، وقد تبين أن الفكرة خطرت لشخص آخر غيري وقد حولها لمنتج وأصبحت تباع في الأسواق. والعبرة التي تعلمتها من هذه التجربة، بأن الفكرة التي قد تخطر في بالك قد تكون خطرت للعشرات أو ربما الآلاف سواك، وهذا يعني أنك لن تستطيع احتكار الأفكار والخبرة بل إنها أمور تتكامل بالمشاركة بين البشر.

وهذا ما يقودني لفكرة العمل الجماعي، والتي أعتقد أنها البيئة المناسبة لظهور الأفكار المبدعة، فلو حلّلنا تجربة أحد الأعمال، ولتكن زيارة أحدنا للعلاج في مستشفى ما، فإننا حينما نطبق على هذه التجربة مبدأ WBS "هيكلية تقسيم العمل" والذي يعرف بـ"Work Breakdown Structure" فسنجد أن التجربة الناجحة، تبدأ من قسم القبول أو الإسعاف، ثم الأطباء والتمريض، ومدير المستشفى، والقسم المسؤول عن النظافة والتعقيم، والصيدلية وغيرها من الأقسام، ولو قررت تقسيم هيكلية الأطباء فستجد التخصصات التي ساهمت في نجاح تجربة زيارتك للمستشفى، من طبيب مختص وطبيب تخدير وغيره وغيره. وهكذا فإن تطبيق هذا المبدأ على كل الأعمال، يؤكد لنا أن النجاح في أي عمل هو عملية تكامل بين فريق العمل الذي يشكل أطراف معادلة "هيكلية تقسيم العمل".

وفي ذات الوقت فإن فكرة الإبداع في العمل الجماعي، تؤكد على أهمية التخصص، حيث أعتقد أن كل شخص في مجال عمله، ينبغي أن يكون في مكانه كقطعة الليغو التي لا يكتمل البناء دونها. وهذا يتطلب من المتخصص أن "يعرف شي عن كل شيء وعن اختصاصه كل شيء" كما يقال، وهذا ما يزيد من قيمة الشخص المتخصص والخبير في مجاله، حيث يشكل "التخصص" الورقة الرابحة بيد المتخصص لتحقيق النجاح المهني وتحقيق العائد المادي الأفضل كما هو معلوم.

وأعتقد أن تنوع التخصصات في كل مؤسسة وكل دولة هو من عوامل قوتها وحيويتها وقدرتها على الابتكار، وإذا أضفنا لهذا العامل مبدأ المشاركة بين الشباب وجيل المخضرمين والخبراء في العمل جنباً إلى جنب في مختلف المؤسسات، بدءاً من مجلس الوزراء وانتقالاً إلى مختلف المؤسسات الأخرى، فسنجد أننا أمام المعادلة التي تشكل ورقة الضمان لمستقبل البلد، وهذا ما تعمل عليه دولة الإمارات عبر رؤية واضحة من قيادتها، حيث دعت قيادة الإمارات الشباب للانخراط في العمل الحكومي كوزراء وقادة في مختلف المؤسسات يعملون جنباً إلى جنب مع القيادات المخضرمة ليشكلوا معادلة ضامنة للنجاح. وهذا خلافاً لما هو سائد في معظم دول العالم، حيث يعاني الشباب من استبعادهم، ويحاولون بمختلف الطرق إيصال أصواتهم للحكومة، بينما في الإمارات يحصل العكس، إذ أن قيادة الإمارات امتلكت الرؤية التي أعتقد أنها فريدة على مستوى العالم، في دعوة الشباب للمشاركة في صنع القرار عبر تولي المناصب والمهام في الدولة ومؤسساتها قولاً وفعلاً.

ومع استكمال صيغة العمل الجماعي ومشاركة الخبرة بين الأجيال، فإن هذه المشاركة تتيح المجال لترسيخ فكرة التوجيه والإرشاد، والتي يتعلم الأجيال الجديدة عبرها الخبرة وفق منهج "الانضباط"، أي الالتزام بتحويل المخططات والطموحات إلى عادات يومية مستمرة، وهو ما يقدم في النهاية أفضل النتائج التعليمية، كما ينتج عنه تكريس فكرة "التعليم المستمر"، حيث أفضّل تشبيه دماغ الإنسان بالمعدة التي تحتاج للتغذية المستمرة. وكما أن تغذية المعدة تمدنا بالقوة والصحة الجسدية، فإن التغذية المستمرة للعقل بالعلم والمهارات والخبرات والتجارب هي التي تمدنا بقوة عقلية ومهنية تقودنا كأفراد ومجتمعات لمستقبل أفضل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .