على النقيض من الحالة المناخية لكوكب الأرض، ظل مناخ الصفقات التجارية على حاله بإصرار شديد عام 2019. أليس كذلك؟
إن الصفقات التجارية مؤشر تخلف وتقدم للتحولات الاقتصادية في آن واحد. وبعضها يعكس ظروفاً سابقة، بينما يشير البعض الآخر إلى اتجاهات ناشئة. ويمكن أن يطلعنا استعراض لأبرز صفقات العام الماضي (والصفقات التي لم تكلل بالنجاح) على مركزنا السابق والوجهة التي نقصدها الآن.
وفقاً لمقاييس كثيرة، لم تكن أنشطة الدمج والاستحواذ عام 2019 صاخبة كما كانت في الأعوام السابقة، غير أن نمط الصفقات كاشف، وجديد من بعض الأوجه. وتعكس العديد من صفقات العام الماضي الاندماج الصناعي واتجاهات الرقمنة التي ترجع إلى عقود من الزمان. ولكن، ثمة مؤشرات أيضاً على أن عشرينيات القرن الحادي والعشرين ستبشر باتجاهات جديدة بخصوص النحو الذي سنسخر به قوة التقنية. ولقد نما إلى علمنا مرة أخرى أن التغير المناخي ليس بالهزل، ولو أننا لا نعلم بعد كيف ستستجيب الشركات له. في الوقت المناسب، ستعكس الصفقات التجارية التحول الطارئ على خليط طاقتنا أيضاً.
صفقات الأعمال التقليدية
من بين الاتجاهات الراسخة بالفعل استمرار شركات المستحضرات الدوائية الكبرى هذا العام في التوسع والتحلي بمزيد من الحنكة والذكاء. منذ تسعينيات القرن الماضي، عكفت شركات المستحضرات الدوائية على التآزر لزيادة قوتها التفاوضية في سلسلة الرعاية الصحية. وراحت تلك الشركات أيضاً تحصد الابتكارات من شركات التقنية الحيوية الناشئة. في عام 2019، استحوذت شركة بريستول مايرز سكويب Bristol-Myers Squibb على شركة سلجين Celgene (في صفقة قيمتها 74 مليار دولار)، واستحوذت شركة تاكيدا Takeda على شركة شاير Shire (في صفقة قيمتها 62 مليار دولار)، واستحوذت شركتا سانوفي Sanofi ونوفارتس Novartis على شركات تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار تقريباً. وتحقق تلك الصفقات مهمة مزدوجة، فهي تجلب تقنيات جديدة إلى الشركات الكبرى، وتحافظ أيضاً على هيكل صناعة مركز. وفي الوقت ذاته، بدأت عمليات الاندماج بين شركات التأمين الكبرى العام الماضي (سي في إس CVS وأتنا Aetna وسيغنا Cigna وإكسبرس سكريبتس Express Scripts) كما بدأت أعمال التكامل، ولو أن المداولات ما زالت مستمرة بخصوص المزايا التي ستعود على المستهلكين.
واتبعت شركات الإعلام والاتصالات أيضاً السيناريو الراسخ نفسه بغية بناء قوة سوقية لنفسها. فقد تم الانتهاء من ثلاث عمليات اندماج كبرى العام الماضي— بين شركتي سبرينت Sprint وتي موبايل T-Mobile (بقيمة 26 مليار دولار)، وأيه تي آند تي AT&T وتايم وارنر Time Warner (بقيمة 85 مليار دولار)، وديزني وتوينتي فيرست سينتشري فوكس 21st Century Fox (بقيمة 71 مليار دولار). وتعزز عمليات استحواذ شركة "ديزني" خلال السنوات القليلة الماضية عروضها القوية في مجال البث التدفقي. وظلت حرب البث التدفقي تدور رحاها لفترة بين شركات "ديزني" و"نتفليكس" و"هولو" (Hulu) و"أمازون" و"آبل" و"آتش بي أو" (HBO)، وانضم الجميع إلى هذه الحرب الآن بكامل عدتهم وعتادهم. وتفسح بيئة العمل هذه المجال في نهاية المطاف أيضاً للاندماج، لكننا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد. في الوقت الراهن، يشي المشهد بمنافسة يشارك فيها جميع الأطراف لاستقطاب جيل جديد من مستهلكي وسائل الإعلام الذين يتخلون عن التلفزيون الكبلي.
كما لعب المنتجون الصناعيون أيضاً دور البطولة في رواية بدأت منذ عقد مضى – ألا وهي تداعي التكتلات الصناعية. فقد قسمت شركة داو Dow نفسها إلى ثلاث شركات هذا العام، كما وعدت عندما اندمجت مع شركة "دوبونت" (DuPont) منذ عامين. وانطوت هذه العملية التي اقتضت خطوتين على اندماج لتوحيد الأعمال، تبعها انقسامات خلقت شركات فرعية ارتقت بالتركيز في كل مجال من مجالات الأعمال، مع الحفاظ في الوقت ذاته على قوتها السوقية. والواقع أن قصة تفكك التكتلات غالباً ما كانت تتقدم خطوتين وتتخلف خطوة واحدة. لقد تضاءل حجم شركة داناهير Danaher وإذا بها تتضخم مرة أخرى بشرائها وحدة المستحضرات الدوائية الحيوية التابعة لشركة جنرال إلكتريك General Electric (في صفقة بلغت قيمتها 21 مليار دولار). ويبدو أن شركة "جنرال إلكتريك"، حتى بعد صفقة البيع هذه، قد تضاعفت استثماراتها في قطاع الصحة الخاص بها. وفي صناعة الفضاء والدفاع، عادت شركة "يونايتد تكنولوجيز" (United Technologies) التي قسمت نفسها إلى ثلاث شركات لتنضم إلى شركة رايثيون Raytheon في صفقة اندماج بين طرفين متكافئين بلغت قيمتها تقريباً 135 مليار دولار.
كانت هذه هي الصفقات الكبرى كلها، لكنها كانت ضمن الأعمال التقليدية. فما الصفقات التي ربما تمثل استعراضات لما سيحدث في عشرينيات القرن الحادي والعشرين؟ إن غياب أنواع معينة من الصفقات، على نحو مثير للفضول، هو أكبر حدث يتعين علينا أن نترقبه.
اتجاهات ناشئة في قطاع التقنية
كانت هناك جهود متجددة في العام الماضي لاحتواء نمو قطاع التقنية. فكرة أن شركات مثل "جوجل" و"فيسبوك" و"أمازون" تزداد ضخامة وتوسعاً وتدخلاً في حياتنا قد واصلت اكتساب الزخم في واشنطن. فقد واجهت "جوجل" تحقيقات خاصة بمكافحة الاحتكار في خمسين ولاية، واقترح رئيس لجنة التجارة الفيدرالية أن اللجنة من الممكن أن تلاحق شركات أخرى. في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، قيل إن لجنة التجارة الفيدرالية تبحث استصدار أمر قضائي ضد شركة "فيسبوك" كي تمنعها من دمج "إنستغرام" و"واتساب" و"ماسنجر"، تحسباً لأن يستقر رأي هيئات مكافحة الاحتكار لاحقاً على تقسيم الشركة. وقد لا تسفر هذه الجهود عن أي شيء. ولكن، سيكون من قبيل المفاجأة لو لم تؤدي الضغوط إلى أن تنأى شركات التقنية الكبرى بنفسها عن عمليات الاستحواذ الكبرى. ثمة صفقة تقنية ضخمة أبرمت في العام 2019 (بين شركة آي بي إم IBM وشركة ريد هات Red Hat بلغت قيمتها 34 مليار دولار)، واستحوذت شركة "سيلز فورس" (Salesforce) على تابلو Tableau (بقيمة 16 مليار دولار). لكن شركات "آبل" و"جوجل" و"أمازون" كانت مقيدة نسبياً، إذا ما نظرنا إلى الأموال الطائلة التي تمتلكها، حيث لم تنفق أي منها أكثر من 3 مليارات دولار على أي صفقة منذ عام 2017.
وهناك اتجاه وثيق الصلة اكتسب زخماً عام 2019 يتمثل في إعادة ترسيم الحدود التقنية – أي ارتفاع جدار افتراضي بين نطاقي النفوذ الصيني والأميركي في ميدان التقنية. فقد تراجعت الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة بنسبة 90% في السنوات الثلاثة الأخيرة. وافتتحت الحرب التجارية هذا التراجع، غير أن هذا التوجه تؤججه الشكوك المتبادلة بين صفوة البلدين والنظامين الحاكمين. ويؤمن الجانبان بأن الصناعات الجديدة كالذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني ووسائل التواصل الاجتماعي أمور محورية للأمن القومي ولإدارة شؤون المجتمع. وبطريقة غير مسبوقة، بادرت هيئة الاتصالات الفيدرالية إلى حظر شركة "هواوي" من السوق الأميركية العام الماضي، مستشهدة بمخاوف تتعلق بأمن البيانات. ورحلت شركة "جوجل" بالفعل عن الصين منذ عقد من الزمان بسبب الرقابة. وعلى أي حال، تهيمن الشركات الصينية على الأسواق الصينية، وتبسط الشركات الأميركية سيطرتها على الأسواق الأميركية. وشركات التقنية مشهورة بتمتعها بتأثير الشبكة، ولكن يبدو أن شبكاتها ستتوقف عند الحدود الجديدة.
ما الذي تشي به هذه الاتجاهات القديمة والجديدة حول التحول في مزيج الطاقة الخاص بنا؟ لا تشي بالكثير مع الأسف.
ردود الأفعال تجاه التغير المناخي
فيما يتعلق بانبعاثات الكربون، فإن الفجوة بين موقفنا الحالي والموقف الذي ينبغي أن نتبناه شاسعة. تكتسب الطاقة الشمسية وطاقة الرياح زخماً، غير أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت قبل أن يتسنى استغلال إمكانات البنية التحتية لطاقتنا بالكامل. وما زلت كبرى شركات النفط تتودد إلى شركات الطاقة المتجددة الناشئة، وعلى أقل تقدير تتمخض هذه الشراكات عن إعلانات تلفزيونية رائعة، وربما طمأنت المستثمرين في قطاع الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. ولكن على مستوى العالم، فإن تمويل المشروعات والتطوير والأبحاث العامة في مجال الطاقة المتجددة تراجعت في حقيقة الأمر في السنوات الأخيرة.
ومع ذلك، وقعت اضطرابات أيضاً في مجال النفط. فقد استحوذت شركة أوكسيدنتال بتروليوم Occidental على شركة أناداركو Anadarko (في صفقة بلغت قيمتها 38 مليار دولار)، غير أن الشركة الجديدة بدأت على الفور في التخلص من حقول النفط في الخارج كي تسدد قيمة الصفقة. ويؤيد المستثمر الناشط كارل آيكان تفكيك هذا الاندماج، متحججاً بأنه يعرض قيمة الشركة إلى الخطر- حدث ذلك بعد أن نجح في المساعدة على إفشال الاندماج المشؤوم بين شركة فوجي فيلم Fuji Film وشركة زيروكس Xerox. ولم تسر هذه التطورات حملة أسهم شركة "أوكسيدنتال"، ولم تأتِ على هوى حملة أسهم شركات النفط الأخرى أيضاً. فقد جاهدت شركات "إكسون" و"شل" و"بريتيش بتروليوم" كي تسدد أرباح المساهمين العام الجاري، وتبادر بعضها إلى إعادة تقييم أصولها في بيئة تحكمها الأسعار المنخفضة والضغوط المجتمعية. ولم يساعد الاكتتاب العام الأولي لشركة "أرامكو السعودية" على رفع الروح المعنوية للمستثمرين في الوقود الأحفوري، حيث تراجعت قيمة الاكتتاب العام الأولي المستهدفة، وأُدرجت الشركة فقط في سوق الرياض. ومع ذلك، فقد جمعت الشركة أموالاً أكثر من أي عملية طرح أسهم للاكتتاب العام في التاريخ، مما يعد شهادة للقوة الراسخة للنفط.
إن أبرز أنباء صفقات العام الماضي لم تكن في حقيقة الأمر تتعلق بصفقة، وإنما بمقترح لصفقة. مقترح لاتفاقية بيئية جديدة في الولايات المتحدة. دعا الكونجرس الأميركي العام الماضي إلى اتخاذ إجراء حكومي عاجل لتخليص اقتصادنا من الكربون بطريقة تعزز من تشغيل العمالة ولا تضر بأضعف فئات المجتمع. ويدعونا هذا المقترح فعلياً إلى إعادة النظر فيما يطلق عليه الفلاسفة اسم العقد الاجتماعي بين الشركات والحكومة والمجتمع. لقد اختل هذا العقد بالفعل بسبب الفجوات في الثروات والدخول التي ظلت تتسع منذ ثمانينيات القرن العشرين. ولقد جعلت مخاطر التغير المناخي إعادة النظر هذه في العقد الاجتماعي ضرورة أكثر إلحاحاً حتى من ذي قبل. ولا عجب إذاً أنه حتى جمعية بزنيس راوندتيبل Business Roundtable أعلنت في عام 2019 عن مجموعة جديدة من المقاييس للأعمال تهدف إلى تحقيق التوازن بين مصالح حملة الأسهم وغيرهم من أصحاب المصلحة.
في عام 2019، تجلت لنا أزمة كوكبنا بأكثر من أي وقت مضى. وستظهر الصفقات التجارية للعقد التالي كيف سنستجيب لتلك الأزمة. سيعزز البعض منا عاداته القائمة، والأغلب - كما يأمل المرء - سوف يحدثون تحولاً في اقتصادنا إلى الأفضل.