يعاني الكثير منا في بعض الأحيان المللَ في العمل وفي أثناء الاجتماعات، لكننا نادراً ما نخبر زملاءنا أو مدراءنا أننا نشعر به. ومع ذلك، اتضح أن درجة معينة من الملل قد تعزز في الواقع الجودة الإبداعية لعملنا، وذلك وفقاً لورقتين بحثيتين نُشرتا مؤخراً وركزتا على الرابط بين الشعور بالملل والإبداع.

الورقة الأولى للباحثتين من جامعة سنترال لانكشاير، ساندي مان وريبيكا كادمان، وتوضحان فيها عبر جولتين من الدراسات قوة الملل المعززة للإبداع. في الجولتين كلتيهما، كُلّف المشاركون إما بمهمة مملة تمثلت في نسخ الأرقام من دفتر عناوين الهاتف أو عُينوا ضمن مجموعة الضبط التي لم تحتوِ على هذه المهمة. ثم طُلب من المشاركين جميعهم ابتكار أكبر عدد ممكن من الاستخدامات لزوج من الأكواب البلاستيكية، وذلك اختبار شائع للتفكير التباعدي الذي يُعد عنصراً حيوياً للإنتاج الإبداعي المتعلق بقدرة الفرد على توليد الكثير من الأفكار. اكتشفت الباحثتان أن المشاركين الذين أُجبروا على الشعور بالملل عمداً من خلال تنفيذ مهمة نسخ الأرقام من دفتر الهاتف قد ابتكروا استخدامات أكثر لزوج الأكواب البلاستيكية بصورة ملحوظة.

بعد ذلك، أرادت الباحثتان التعمق في دراسة تأثيرات الملل الشديد على الإبداع، لذلك وزعتا المشاركين في الجولة الثانية من الدراسة على 3 مجموعات؛ الأولى مجموعة ضبط لا تفعل شيئاً والثانية تُكلف بنسخ أرقام الهواتف، بينما كانت مهمة المجموعة الثالثة مملة أكثر وتمثلت في مجرد قراءة أرقام الهواتف. ثم كان على المجموعات الثلاث تنفيذ مهمة مختلفة تتطلب الإبداع. سجلت المجموعة التي كانت مهمتها مملة أكثر -أي المجموعة التي أدت النشاط السلبي (لا ينطوي على جهد معرفي) كلياً المتمثل بقراءة أرقام الهواتف- أعلى درجات الإبداع، بل تفوقت على المجموعة التي كانت مكلفة بمهمة نسخ أرقام الهواتف في الجولة السابقة من الدراسة أيضاً. تشير النتائج إلى أن الشعور بالملل في أثناء الأنشطة السلبية، مثل قراءة التقارير أو حضور الاجتماعات المملة، يزيد من “تأثير أحلام اليقظة” على الإبداع، وبصورة عامة، كلما كان النشاط الممل سلبياً أكثر، زادت احتمالية أحلام اليقظة وزاد إبداعك بعد ذلك.

توصلت ورقة بحثية أخرى أعدّتها الباحثتان كارين غاسبر وبريانا ميدلوود من جامعة بن ستيت، إلى نتائج مشابهة لنتائج الورقة الأولى، ولكن هذه المرة من خلال مهمة مملة مختلفة واختبار مختلف للقدرة على الإبداع. في دراستهم، طلبت الباحثتان من المشاركين مشاهدة مقطع فيديو مصمم لاستحضار إما مشاعر الاسترخاء أو البهجة أو الضيق أو الملل، اعتماداً على الفيديو الذي شاهدوه. ومع ذلك، لم يكن المشاركون على دراية بالغرض الفعلي من وراء الفيديو وأُبلغوا أن اختياره كان عشوائياً. ثم طلبوا من المشاركين بعد ذلك إجراء ما يُعرف باختبار المساعدين عن بُعد، إذ يُعطى المشاركون 3 كلمات تبدو غير مرتبطة (على سبيل المثال: كلأ، كوخ، ماعز) ويطلب منهم التفكير في كلمة رابعة تربط بين الكلمات الثلاثة (الإجابة في هذا المثال كانت “الجبن”). يشيع استخدام اختبارات المساعدين عن بُعد لقياس التفكير التقاربي، وهو عنصر مختلف ولكنه مكمّل للعملية الإبداعية التي تتعلق بقدرة الشخص على اكتشاف الفكرة الفردية الصحيحة لموقف ما.

على غرار نتائج دراسة كادمان ومان، تفوق المشاركون الذين شعروا بالملل في هذه الدراسة على المشاركين في الفئات الثلاث الأخرى. تقترح غاسبر وميدلوود أن الملل يعزز الإبداع بسبب الطريقة التي يفضل من خلالها من يشعر به التخلص منه، وتجادلان بأنه يحفزهم لتجربة أنشطة جديدة ومجزية. بعبارة أخرى، سيبحث العقل الخامل عن أي نشاط يتسلى به. (من المؤكد أن أي شخص سيلاحظ هذه الظاهرة إذا سافر في رحلة طويلة بالسيارة بصحبة طفل صغير).

تشير نتائج هذه الدراسات مجتمعة إلى أن التجربة الواسعة للملل في العمل يمكن الاستفادة منها في الواقع لتعزيز إنتاجيتنا، أو على الأقل لنكون مبدعين أكثر في عملنا. على سبيل المثال، إذا أردنا التفكير في مشاريع أو برامج جديدة (تفكير تباعدي)، ربما يتعين علينا في البداية التركيز لبعض الوقت على أداء الأنشطة المملة مثل الرد على رسائل البريد الإلكتروني أو نسخ البيانات أو إدخالها. وبعد ذلك، ومثلما أظهرت دراسة مان وكادمان، قد نجد أنفسنا أكثر قدرة على تصور عدد أكبر من الاحتمالات واستكشافها بطريقة أكثر إبداعاً. وبالمثل، عندما تكون هناك حاجة إلى دراسة مشكلة ما بعمق وتقديم حل عملي وفعال (تفكير متقارب)، فربما يتعين علينا جدولة هذه المهمة بعد اجتماع ممل جداً للموظفين. ربما نتمكن من خلال الانخراط في أنشطة مملة قبل أداء أنشطة حل المشكلات من استثارة نمط التفكير الذي نحتاج إليه للعثور على حلول إبداعية.