ملخص: ماذا تفعل الشركة عندما يصعب وضع استراتيجية بالاستناد إلى أساس منطقي معقول، أو عندما يُصبح هذا الأساس المنطقي المعقول باطلاً بسبب أحداث غير متوقعة؟ لا يزال من الضروري وضع الخطط وتخصيص رؤوس الأموال والاستثمار على المدى البعيد لضمان المستقبل، ويُجادل البعض بأن المرونة هي سر النجاح في ظل الاضطرابات المزعزعة، لكن تغيير الاستراتيجية باستمرار يعني التحرك دون تحقيق أي تقدم فعلي. أجرى مؤشر الزعزعة السنوي التابع لشركة أليكس بارتنرز استقصاءً شمل 3,000 مسؤول تنفيذي في مختلف الدول لفهم التحديات التي يواجهونها في شركاتهم، ومن النتائج التي أظهرها أن 3 من كل 5 مسؤولين تنفيذيين يقولون إنه من الصعب تحديد القوى المُزعزعة التي يجب التركيز عليها. ومع ذلك ثمة مجموعة من الشركات التي تحقق أداءً جيداً جداً؛ إذ أكّدت شركة واحدة من كل 5 شركات أنها تتصدر قطاعها من حيث نمو الإيرادات. يحلّل مؤلفا هذا المقال بيانات عام 2024 لتحديد العوامل التي تميّز هذه الشركات، والدروس التي يمكن للشركات الأخرى استخلاصها عند وضع استراتيجيات النمو في عالم يسوده عدم اليقين.
للتخطيط الاستراتيجي دور مهم في مساعدة الشركات على التنبؤ بالدورات الاقتصادية وإدارتها. لكن بعض القوى، مثل التكنولوجيات الرقمية الناشئة والتغيّر المناخي وانحسار العولمة إضافة إلى ظواهر البجعة السوداء مثل جائحة كوفيد-19 والحروب، حوّلت الوضع المستقر إلى وضع متقلّب جعل الشركات تواجه مشكلات وعقبات مفاجئة عاقت تقدمها. تشترك هذه الصعوبات المتنوعة بعامل واحد، سواء تداخلت أو ارتبط بعضها ببعض أو لم يرتبط: هذا العامل هو العشوائية.
يؤثر كل من الزعزعة وعدم اليقين سلباً على الخطط الاستراتيجية؛ ماذا تفعل الشركة عندما يصعب وضع استراتيجية بالاستناد إلى أساس منطقي معقول، أو عندما يُصبح هذا الأساس المنطقي المعقول باطلاً بسبب أحداث غير متوقعة؟ لا يزال من الضروري وضع الخطط وتخصيص رؤوس الأموال والاستثمار على المدى البعيد لضمان المستقبل، ويُجادل البعض بأن المرونة هي سر النجاح في ظل الاضطرابات المزعزعة، لكن تغيير الاستراتيجية باستمرار يعني التحرك دون تحقيق أي تقدم فعلي. أجرى مؤشر الزعزعة السنوي التابع لشركة أليكس بارتنرز (AlixPartners Disruption Index) استقصاءً شمل 3,000 مسؤول تنفيذي في دول مختلفة لفهم التحديات التي يواجهونها في شركاتهم، ومن النتائج التي أظهرها التقرير الذي صدر في عام 2024 أن 3 من كل 5 مسؤولين تنفيذيين يقولون إنه من الصعب تحديد القوى المُزعزعة التي يجب التركيز عليها. لكن يجب عليهم تحديد الأولويات وترتيبها؛ فهذا ما يفعله القادة.
لكن في خضم هذه التحديات كلها ثمة مجموعة من الشركات التي تحقق أداءً ملحوظاً، إذ أفاد مسؤول واحد من كل 5 مسؤولين بأن شركاتهم تتصدر قطاعها من حيث نمو الإيرادات، وأفادت نسبة مقاربة بأن أرباح شركاتها زادت بنسبة 10% أو أكثر خلال العام الماضي، وصنّف 8% (249 من أصل 3,000) منهم شركاتهم ضمن الخُمس الأعلى من حيث النمو والربحية.
لكن تبين اليوم أن هؤلاء المسؤولين التنفيذيين لا يتمتعون بالضرورة بمهارة التفكير الاستراتيجي أكثر من البقية، طرحنا في الاستقصاء سؤالاً عن الصفات القيادية المهمة في التعامل مع الزعزعة، وطلبنا من المسؤولين التنفيذيين اختيار 3 صفات من قائمة تضم 12 صفة؛ تمثّلت الخيارات الأولى بالنسبة للمجموعة كلها في التفكير الاستراتيجي (39%) واتخاذ القرارات في الوقت المناسب (36%)، لكن بالنسبة للقادة الذين حققت شركاتهم النمو والربحية، كان اتخاذ القرارات في الوقت المناسب (34%) أهم من التفكير الاستراتيجي (33%).
إذا لم يكن التفكير الاستراتيجي هو ما يميزهم، فما الذي يميزهم إذاً؟ أجرينا لغرض هذه المقالة تحليلاً إضافياً لبيانات الاستقصاء من أجل فصل سلوكيات هذه المجموعة وأنشطتها عن سلوكيات المسؤولين التنفيذيين الآخرين وأنشطتهم، فلاحظنا 3 سلوكيات مميزة.
قادة الشركات التي تحقق النمو والربحية يتبنون الزعزعة
يقول 3 من كل 4 مسؤولين تنفيذيين إنهم يحفزون الزعزعة في قطاعاتهم دائماً أو أحياناً. في المقابل، ذكر المسؤولون التنفيذيون في الشركات الأخرى التي خضعت للاستقصاء أن شركاتهم تحتل المرتبة الوسطى أو تتخلف عن الغالبية الأخرى من الشركات بنسبة 59% من الوقت، وأنها أكثر قابلية للتفاعل مع التغيرات التي تحدث في السوق بدلاً من أن تغير الظروف بنفسها.
لا يخشى أصحاب الأداء المتميز التغيير الكبير؛ سيُجري 63% من المسؤولين التنفيذيين تغييراً كبيراً على نماذج أعمال شركاتهم في العام المقبل، واحتمالات تغييرهم نماذج أعمال شركاتهم بالكامل هذا العام أعلى 9 مرات مقارنة بغيرهم، فهم يعدون هذا التغيير فرصة إيجابية. وعندما ينفّذونه بالفعل، تزداد احتمالات أنهم يخططون لإعادة هيكلة رأس المال والعمليات التشغيلية وتوسيع نطاق عمل شركاتهم الجغرافي وتغيير نموذج المواهب وغير ذلك بنسبة 30% مقارنة بغيرهم.
وتمتد رغبتهم في التغيير أيضاً إلى المحافظ الاستثمارية، وتزداد احتمالات أن يخططوا لعمليات الاندماج في العام المقبل بنسبة 46% مقارنة بغيرهم. ولا يعني ذلك أنهم يسعون لتنويع محافظ شركاتهم الاستثمارية بغية توزيع المخاطر، لأن احتمالات أن يخططوا لتصفية الاستثمارات تزداد بنسبة 42%، واحتمالات أن يخططوا لتقليص عدد المنتجات والخدمات التي تبيعها شركاتهم تزداد بنسبة 33% مقارنة بغيرهم. تؤكد تجربتنا ما تشير إليه الأرقام: أي أن هؤلاء المسؤولين التنفيذيين يعملون على تنويع محافظ شركاتهم الاستثمارية باستمرار، مثل الاستثمار في شركة وتصفية الاستثمار في أخرى، لتركيز جهودهم على المجالات التي يرون فيها فرصاً لتحقيق ميزة تنافسية.
قادة الشركات التي تحقق النمو والربحية يعتمدون على البيانات للتعلم وتحسين العمليات في مستويات المؤسسة جميعها
بسبب النمو السريع في هذه الشركات، فهي تعتمد بدرجة كبيرة على التوظيف وتستثمر أيضاً في تدريب موظفيها؛ يقول ثلثا المسؤولين التنفيذيين في هذه الشركات ذات الأداء العالي إن الموظفين الجدد في سوق العمل يفتقرون إلى المهارات اللازمة للنجاح في شركاتهم، لكنهم عندما يلاحظون فجوة في المهارات يبادرون إلى سدها فوراً؛ فبالمقارنة مع الشركات الأخرى، يوفر قادة الشركات التي تحقق النمو والربحية برامج تطوير القدرات القيادية (بنسبة 23%)، وفرص التعارف والتطوير المهني (بنسبة 59%)، ويُسندون إلى الموظفين مهمات ضمن فرق متعددة الوظائف (بنسبة 29%)، ويستثمرون في التدريب من أجل النمو (بنسبة 33%)، ويحسّنون مهارات الموظفين في استخدام التكنولوجيا (بنسبة 57%).
يركز هؤلاء القادة أيضاً على تعلمهم ونموهم الشخصي، وعلى الرغم من أنهم يتفقون بالإجماع تقريباً على امتلاكهم شبكات معارف شخصية قوية من المستشارين، يقول 9 من كل 10 منهم إنهم يحتاجون إلى المزيد من المستشارين، فرغبتهم في الحصول على المشورة أعلى بنسبة 20% من قادة الشركات الأقل نجاحاً.
وهم يطبّقون هذه الفكرة: يتميز المسؤولون التنفيذيون في الشركات التي تحقق النمو بتركيزهم الشديد على الحقائق وإصرارهم الدؤوب على العمل استناداً إليها، ويقول أكثر من نصف هذه المجموعة إنهم يحققون استفادة كاملة من المزايا التي توفرها البيانات لهم في مجال المبيعات وتجربة العملاء والعمليات وسلسلة التوريد، وبالتالي تحقق شركاتهم أداءً أفضل بنسبة تصل إلى نحو 13% وسطياً مقارنة بالشركات الأخرى.
قادة الشركات التي تحقق النمو والربحية يتبعون منحى عملياً ويعطون الأولوية للسرعة على الكمال
عندما سُئل المسؤولون التنفيذيون عن مهارات القيادة الأهم للتعامل مع الزعزعة أجابوا بأن التنفيذ والمتابعة هما العنصران المهمان، وفي المقابل يؤكد قادة الشركات الآخرون أهمية القدرة على التحمل. قد تكون القدرة على التحمل؛ أي قابلية تحمل الصدمات، صفة إيجابية بالفعل، لكن من الضروري أن يتخذ القادة إجراءات فعالة أيضاً في الأوقات التي تتسم بعدم اليقين؛ فالقدرة على اتخاذ إجراءات مقبولة ودون تأخير هي سمة مميزة من سمات القادة العظماء.
تحدّث أحد المؤلفين في وقت سابق هذا العام إلى الرئيس التنفيذي لشركة دلتا للطيران (Delta Airlines)، إد باستيان، الذي قال: "صناعة القرارات مهارة يمكن تعلمها، وأحد دروسها الرئيسية هو أن جمع المعلومات يتيح اتخاذ إجراءات سريعة. بمعنى أنه يجب ألا تتردد أو تتأخر في اتخاذ القرار". وأضاف في الوقت نفسه أن الشخص القادر على اتخاذ قرارات جيدة يكون مستعداً للاعتراف بالأخطاء وتصحيحها بسرعة، ومن الأسهل بالفعل تصحيح مسار القرارات عندما تُتخذ بسرعة وعلى نطاق صغير بدلاً من انتظار التيقن من القرار الذي سيُتخذ.
لهذا السبب، يكون قادة الشركات التي تحقق النمو والربحية أقل قابلية للتعامل مع أي مشكلة من وجهة نظر مقاييس المخاطر والتكاليف، وأكثر قابلية للنظر في المكانة التنافسية واتباع نهج إدارة الأزمات. وذلك يعني أنهم يتصدون للمشكلات قبل أن تتفاقم. عندما سألنا المسؤولين التنفيذيين عن مواطن قوتهم الشخصية، وجدنا أنهم لا يتفاخرون بمهاراتهم في التواصل أو التدريب أو التحفيز؛ لكنهم أكثر قابلية بنسبة 43% للافتخار بكيفية تنفيذهم المهام بفعالية، وأكثر قابلية بنسبة 83% للاعتراف بأن أهم مواطن قوتهم هما الطاقة والإرادة.
ينجح هذا النهج بفضل التأثير الذي يخلقه كل من عدم اليقين والزعزعة في الشركة. يختلف عدم اليقين عن المخاطر؛ فالمخاطر يمكن حسابها والتعبير عنها بالاحتمالات، أما عدم اليقين فهو غير قابل للقياس. على سبيل المثال، تنطوي لعبة المونوبولي على مخاطر لكنها ليست غامضة. وضّح جون مينارد كينز في كتابه "النظرية العامة للتوظيف والمصالح والأموال" (General Theory of Employment, Interest, and Money)، أن عدم اليقين يعني "عدم وجود أساس علمي يتيح وضع احتمالات قابلة للحساب. أي أننا لا نعلم ما ينتظرنا ببساطة".
والزعزعة مماثلة: في حين قد تكون بعض الأحداث متوقعة أحياناً (نعلم أن التغيّر المناخي سيزعزع معظم القطاعات)، فمعظمها غير قابل للحساب (لا يمكننا غالباً رؤية التأثيرات التي تتجاوز التأثيرات المباشرة الأولية). وفي مثل هذه الحالات، قد تقودك استراتيجية مبنية على أسس بحثية جيدة ومحكمة التنظيم إلى اتباع نهج بناءً على الواقع السابق دون مراعاة التغييرات التي حدثت ودون إدراك التهديدات المجهولة وفرص النمو غير المستكشفة.
وللتعامل مع المخاطر المحتملة، يجب دمج عناصر مثل الإجراءات المكررة وعمليات التحوط في الاستراتيجية (مثل خطوط الائتمان أو الموردين الاحتياطيين). تختلف الاستجابة للزعزعة عن عدم اليقين. يوضح بحث ديفيد سنودن حول اتخاذ القرارات، بما فيه مقاله المهم الذي نُشر في مجلة هارفارد بزنس ريفيو في عام 2007 بعنوان "إطار عمل القائد لاتخاذ القرارات" (A Leader’s Framework for Decision Making) الذي كتبه بالتعاون مع ماري بون، حاجة القادة في البيئات المعقدة أو غير المتوقعة إلى امتلاك القدرة على التحقيق والاختبار والاستجابة ووضع الاستراتيجيات استناداً إلى ما تعلموه من التجربة. لذلك، هناك حاجة إلى ثقافة مؤسسية تشجع على رصد التغييرات وتفسيرها والتكيف معها بسرعة، إلى جانب امتلاك رؤية واضحة للاتجاه الاستراتيجي من أجل التحرك نحو الأهداف، حتى وإن كانت طريقة الوصول إلى هذه الأهداف غير واضحة تماماً.
الشعور باليقين الزائف هو آخر ما يرغب فيه القائد في بيئة يسودها عدم اليقين. ومع ذلك، كما يقول كينز، فإن "ضرورة اتخاذ الإجراءات والقرارات" تدفع المسؤولين التنفيذيين للتصرف بناءً على "تقديرات المزايا والعيوب المحتملة لكل خيار، ثم ضرب كل ميزة وعيب محتملين بالاحتمالية المقابلة لهما".
والضرورة حاضرة حقاً، أما الحسابات فتغيب لأننا "لا نعلم ما ينتظرنا ببساطة"، وهذا ما يجعل البدء باتخاذ الإجراءات أهم استراتيجية. ضع بعض الافتراضات الأساسية حول العوامل التنافسية وبيئة الأعمال الأكبر واتجاهات العملاء، ثم اتخذ إجراءً وتعلّم منه وتصرّف مرة أخرى.