كانت السنة الأخيرة صعبة للغاية على الكثير من أسواق دول جنوب الصحراء الإفريقية (SSA). فقد مرت هذه الدول بتقلبات هائلة في أسعار العملات، وانخفاض في أسعار السلع الأساسية مثل النفط والنحاس، كما مرت بتباطؤ الطلب من الصين وأوروبا (أكبر الشركاء التجاريين لإفريقيا)، الأمر الذي فرض العديد من الضغوط على اقتصادات المنطقة، بينما كان من المتوقع في بدايات عام 2015 أن تحقق دول جنوب الصحراء الإفريقية نمواً يتجاوز 5% عاماً تلو الآخر، إلا أنه من المرجح أن يكون نموّ الناتج المحلي الإجمالي الفعلي بحوالي 3-4% فقط على أساس سنوي، وليس من المحتمل أن يكون النمو في عام 2016 أعلى من ذلك بكثير.
ونتيجة لهذه الضغوط، كان أداء عام 2015 مخيباً للآمال، ما دفع بعض الشركات الغربية متعددة الجنسيات إلى الحد من أنشطتها في المنطقة، حتى أن بعض هذه الشركات تفكر فعلياً في إيقاف أعمالها والمغادرة. فقد أعلنت شركة "نستله" عن خطط لخفض عدد موظفيها في بعض بلدان وسط إفريقيا، في حين يفكر المدير التنفيذي الجديد لبنك "باركليز" في بيع أصول البنك في إفريقيا.
النمو في الأسواق
ومع ذلك، على الرغم من أن بعض عملائنا يواجهون صعوبات ناجمة عن الأوضاع الحالية، وذلك بسبب ضغوط العملة في المقام الأول، فإن العديد من العملاء الآخرين لا يزالون يرون نمواً قوياً، حتى في الأسواق المضطربة مثل دول جنوب إفريقيا وأنغولا. على سبيل المثال، على الرغم من انخفاض الطلب على السلع الاستهلاكية، فإن التجار الجدد لتجزئة الملابس ينتقلون إلى جنوب إفريقيا لتقديم منتجاتهم إلى الطبقة المتوسطة المحرومة من الخدمات في البلاد، وعلى الرغم من تضرر الإيرادات الحكومية بشدة في دولة أنغولا، لا تزال شركات الأجهزة الطبية تبيع معدات باهظة الثمن لوزارة الصحة.
لا تزال الإمكانات طويلة الأجل للقارة تتمتع بقدر من الجاذبية، لكن نجاح كل شركة في الظروف الحالية سيعتمد على استراتيجيتها الخاصة، وسيكون على الشركات التجارية أن تتكيف لتتحمل معدلات النموّ الأبطأ والأكثر تقلباً في دول جنوب الصحراء الإفريقية.
ولفهم الأسواق التي ستكون أكثر نجاحاً في مواجهة التحديات الاقتصادية والحفاظ على نموّ مستدام للشركات متعددة الجنسيات، طورت الشركة الخاصة بي "فرونتير استراتيجي غروب" (Frontier Strategy Group)، مؤشر جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية لمقاومة الصدمات الخارجية (RESI)، حيث يقيّم هذا المؤشر الأسس الاجتماعية والاقتصادية لأسواق منطقة جنوب الصحراء الإفريقية وقوتها الداخلية، من خلال النظر في مقاييس الاستقرار السياسي، والتعرض التجاري، والتنوع الاقتصادي، ومعايير الثروة والإنتاجية.
وفق هذا المؤشر، تحصل البلدان على نقاط من 0 إلى 100، حيث تشير 100 إلى أعلى مرونة نسبية، وترتبط المرونة بقدرة أي دولة على الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والسياسي على الرغم من الصدمات الخارجية، نظراً لوجود أساسات أقوى لديها، وعوامل داخلية لتخفيف الصدمات، إضافة إلى الاكتفاء الذاتي. من خلال دمج كل من التحليل الكمي والنوعي الذي ينظر إلى التطورات التاريخية وتوقعات المحللين لدينا ، فإن مؤشر جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية لمقاومة الصدمات الخارجية (RESI) يسمح بفهم دقيق لمرونة السوق.
تحتل الديمقراطيات الناضجة نسبياً مثل دول موريشيوس وبوتسوانا وناميبيا وجنوب إفريقيا مرتبة عالية نتيجة لبيئاتها السياسية السليمة ووجود رأس المال البشري القوي، بينما تحقق أسواق شرق إفريقيا أداء جيداً لأن اعتمادها على السلع منخفض، وكدول مستوردة للنفط فهي تستفيد من انخفاض سعر الوقود، كما تحتل أسواق غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية مرتبة جيدة لأن عملاتها الإقليمية أقل تقلباً، حيث أنها مرتبطة بعملة اليورو.
وعلى الرغم من أن نيجيريا هي أكبر دولة مصدرة للنفط في المنطقة، إلا أنها تظهر كاقتصاد مرن وفق هذا المؤشر لأن اقتصادها أكثر تنوعاً بكثير مما هو مفترض عادة، حيث تشكل قطاعات الخدمات والتجزئة والنقل والبناء حصة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن صناعة الأفلام الضخمة في البلاد "نوليوود" (Nollywood) تعتبر فعالة لتعزيز النشاط التجاري خارج نطاق النفط والغاز.
ومع ذلك تحتل أنغولا، أكبر دولة مصدرة للنفط في المنطقة مرتبة متأخرة للغاية لأنها لا تتمتع باقتصاد متنوع، تحتل العديد من الأسواق الأخرى المراتب الأخيرة ويعود ذلك في الغالب إلى التقلبات السياسية وسوء الإدارة والاعتماد المفرط على صادرات السلع الأساسية.
تحتاج المرونة إلى وجود الفرص أيضاً
يجب على الشركات أيضاً مراعاة حجم السوق والنمو المناسب لصناعات معينة عند تقييم المنطقة، فالأسواق التي ستوفر مزيجاً من المرونة العالية والنموّ، ستتمكن من تقديم أفضل الفرص المستدامة خلال السنوات القليلة التالية،
كما يوضح الرسم البياني أدناه مؤشر المرونة (المحور س) المقترن بمتوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي لمدة 3 سنوات (المحور ص)، بينما يمثل حجم (الأشكال الدائرية) مقدار توقعاتنا لحجم هذه الاقتصادات في عام 2018.
على سبيل المثال، يظهر الرسم البياني أسواق شرق إفريقيا، مثل دول إثيوبيا وكينيا وتنزانيا في الربع العلوي الأيمن من الشكل، فهي تظهر نمواً قوياً عبر القطاعات المختلفة، كما تستفيد من آليات الإدارة الرشيدة والإصلاحات السياسية السليمة وتحسين ظروف العمل، بينما تتمتع أسواق شرق إفريقيا في كينيا وأوغندا وتنزانيا بتكامل تجاري قوي مع بعضها البعض، ما يمنح المنطقة نطاقاً إضافياً للعمل، الأمر الذي يسمح للشركات بالعمل فيما بينها بسهولة عبر الحدود.
وعلى الرغم من انخفاض معدلات النمو مقارنة بالمستويات السابقة، تظل نيجيريا إلى حد بعيد بمثابة السوق الأكبر في مختلف القطاعات التجارية، وأحد أكثر الأسواق مرونة. لا يمكن للشركات العاملة في منطقة جنوب الصحراء الإفريقية تجاهل الدول، على الرغم من أنها ستعاني بشكل كبير من تأثير انخفاض أسعار النفط على العملة والنشاط التجاري، من ناحية أخرى، في حين أن دولة جنوب إفريقيا إحدى أكثر الأسواق شهرة في المنطقة لا تزال مرنة، فإن النمو سيتباطأ على مدى السنوات القليلة القادمة نتيجة لسوء الإدارة وتراجع الطلب على صادراتها إضافة إلى البنية التحتية المتدهورة للطاقة.
اقرأ أيضاً: الاقتصاد الأخضر يواجه مشكلة شحّ الموارد.
يتعين على الشركات أن تكيف استراتيجياتها وفق الأوضاع الجديدة
سيتطلب هذا الوضع الجديد من الشركات تعديل استراتيجياتها التنفيذية، حيث يجب على الشركات تقييم المرونة السوقية والفرص المتاحة مع مراعاة المنتجات والقطاع التجاري الخاص بكل منها، إذ ستكون الفرص مختلفة تماماً فيما بين شركة تبيع الأجهزة الطبية، وبين شركة سلع استهلاكية تبيع العلكة على سبيل المثال، فقد تقرر شركة الأجهزة الطبية التركيز على سوق جنوب إفريقيا، على الرغم من البيئة المنخفضة النموّ، لأن الميزانية التي تنفق على الرعاية الصحية لا تزال كبيرة في هذه الدولة، وبدلاً من ذلك قد ترغب الشركة التي تبيع العلكة في التركيز على سوق إثيوبيا ذات الدخل المنخفض والتي تمتاز بالكثافة السكانية والنمو السريع.
سيتعين على الشركات التي بالفعل تملك حضوراً في المنطقة أن تعمل على تركيز استراتيجياتها بدلاً من الانسحاب الكلي من السوق، ويجب على الشركات في الأسواق ذات الفرص العالية والمرنة إيجاد أساليب لتحسين كفاءة أعمالها المحلية، فالقيام بذلك يشمل الاستثمار في علاقات الموزعين، وتنويع مجموعة المنتجات، وفهم احتياجات العملاء وتفضيلاتهم، وأيضاً القدرة على الاقتناء.
في الأسواق الأقل مرونة، تحتاج الشركات إلى تحديد ما إذا كان يمكنها زيادة النمو من خلال توسيع نطاق الوصول لعملائها، أو ما إذا كان هذا هو الوقت المناسب للقيام باستثمارات رئيسية مهمة. على سبيل المثال، نظراً لأن الشركات المحلية تواجه ضغوطاً مالية في الأسواق الأقل مرونة، فهناك فرص مميزة لعمليات الاندماج والاستحواذ للشركات التي ترغب في تحمل مخاطر أكبر، ومع ذلك، إذا كان من غير المرجح أن تسفر هذه الاستثمارات عن النتائج المرجوة، فإن إعادة تخصيص الموارد إلى فرص أخرى أكثر جاذبية قد يكون خياراً أفضل.
ينبغي دمج الأسواق الأصغر والأقل جاذبية ضمن مجموعات لخفض التكاليف والموارد، حيث يمكن إدارة منطقة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية بعيداً عن دولة ساحل العاج، بينما يمكن إدارة مجموعة تعتمد على العلاقات التاريخية التي تجمع بين زامبيا وزيمبابوي وملاوي بعيداً عن جنوب إفريقيا. وعند دمج هذه الأسواق، يكون تجميع البلدان التي يمكن إدارتها بشكل فعال كمجموعة واحدة أمراً في غاية الأهمية، كما أن علاقات الموزعين القوية والرقابة تعتبر من العوامل المهمة والضرورية.
لن يكون عام 2016 عاماً سهلاً بالنسبة لمعظم الأسواق الناشئة في كافة أنحاء العالم، ولكنه بالتأكيد سيشكل المسار المستقبلي للعديد من البلدان في جميع دول جنوب الصحراء الإفريقية، وعلى الشركات الراغبة في الاستفادة من مسار التطوير الإيجابي لبعض الأسواق أن تقوم بتعديل استراتيجياتها وفقاً لتلك المعطيات، كما سيتعين على هذه الشركات أيضاً أن تأخذ في الاعتبار العقبات والاضطرابات المختلفة، وأن تقبل حقيقة أن النجاح في هذه المنطقة سيستغرق وقتاً وجهداً والكثير من الموارد المالية.
اقرأ أيضاً: تعرف على نموذج الاقتصاد الدائري.