هل سبق أن حاولت المقارنة بين شخصية أي إنسان تعرفه وبين أسلوبه في قيادة السيارة؟ هذا الموضوع شغلني لفترة طويلة، وكانت لدي دوماً نظريات وتحليل شخصي لهذا الموضوع، فما زلت أعتقد أن طريقة قيادة الإنسان للسيارة تكشف عن حقيقة شخصيته في الحياة اليومية، فمثلاً كنت وما زلت أعتقد أن السائق الذي يُكثر إطلاق زمور السيارة هو شخص كثير الصراخ في حياته العادية، ومن يُكثر الشتائم هو كذلك في طبعه، وهو شخص لديه مشكلة في "التعاطف"، وضعف في القدرة على وضع نفسه في مكان الآخرين، فالآخرون بالنسبة له أغبياء بينما هو الحكيم الذي لا يخطئ.
ومن أفكاري التي كونتها عبر السنين، وبعد كثير من النقاش مع من حولي من المهتمين، وجدت أن الذي تبدو سيارته فوضوية وغير نظيفة، هو كذلك في بيته وفي سطح كمبيوتره، وكذلك، فالسائق الأرعن الذي يشق الصفوف، ويعرّض نفسه وحياة الآخرين للخطر، قد لا يكون إلاّ في حالات قليلة مستعجلاً أو لديه حالة طوارئ، لكنه على الأغلب شخص أهوج بطبعه.
كنت دوماً أدرب نفسي على عدم الانزعاج من هذا النوع من السائقين الذين يقودون السيارة على حافة الخطر والسرعة، قائلاً لنفسي: إما أن يكون فعلاً لديه حالة طارئة وإما هو أرعن متهور، فإن كان من النوع الذي لديه دوماً حالة طوارئ، أي إنه يتأخر دوماً عن مواعيده ويركض هكذا ليلحق بها، فستأتيه ساعة يخسر فيها عمله أو عملاءه بسبب هذا السلوك، وسيتعلم درساً بسبب هذه العقلية، وإن كان من النوع المتهور الطائش فسيدفع ثمن هذا التهور عاجلاً أم آجلاً، فقد أجده بعد عدة كيلومترات في حادث مؤسف، أو قد يجد نفسه غارقاً في مخالفات المرور، أو قد يجد درساً يعلمه خطأ هذا التهور في يوم آخر، لكنه بالتأكيد سيتلقى هذا الدرس عاجلاً أم آجلاً.
وقد كنت أحكي لزوجتي هذه النظرية في أحد الأيام، وكنا نستمع إلى بودكاست خلال إحدى رحلاتنا بالسيارة، فإذ بأحد الخبراء الذين استضافهم البودكاست يتحدث عن شرطي أخبره بذات النظرية، وإنه رأى بعينيه كيف يدفع مثل هؤلاء السائقين الطائشين الثمن عبر حوادث أو مخالفات مادية كبيرة.
مؤخراً زاد اهتمامي بالموضوع، لدرجة أنني بت أحلل بيني وبين نفسي طبيعة الشخص من أسلوب قيادته، وتساءلت بيني وبين نفسي: هل الشخص العنيد، أو "المجاكر" بتعامله في أثناء قيادة السيارة، هو شخص عنيد و"مجاكر" في الحياة العادية؟ هل سيتشابه أسلوب قيادة السيارة من شخص ما، مع أسلوب قيادته لشركته أو لفريق عمله أو إدارته لذاته؟ وقررت البحث في الدراسات والأبحاث العلمية حول هذا الموضوع، فوجد لأول مرة تشابهاً بين بعض ما أفكر به وما توصلت إليه الأبحاث العلمية.
ودعوني أفصّل الحديث حول بعض الأفكار التي تراودني:
السائق الذي يصرّ على السرعة بالحد الأقصى المسموح؛ إذا كانت السرعة المسموحة 120 كيلومتراً في الساعة، فهو الشخص الذي لا يقبل أن تكون سرعته 119، بل 120 تماماً. بالنسبة لي، فأنا دوماً أفضل أن أضع مجالاً أو هامشاً للخطأ، فلا يمكنني أن أبقى على سرعة 120 وهي الحد المسموح به وأنا أعلم أن التكنولوجيا تُخطئ، فقد يؤدي منحدر بسيط للإيحاء لكاميرا التحكم المرورية بأنني أسير بسرعة 121، فتخالفني، في الوقت الذي تؤكد فيه حساباتي أن الفرق في الوصول عملياً بين سرعتي 120 و118 هي دقائق محدودة، وعندما أقوم بموازنة الفرصة المتوقعة مع الخطر المتوقع من المخالفة أو الحادث، فإنني أفضّل ترك الهامش.
وهذا ينطبق على شخصيتي في كل شيء، فإذا كانت لدي مهمة عمل وموعد تسليمها بعد عشرة أيام، لا يمكن أن أترك تنفيذها للحد الأقصى، أي أن أضغط نفسي في آخر يوم أو يومين لتنفيذها، فأنا من هذا النوع من الشخصيات الذي لا يؤمن بالمخاطرة للحد الأقصى، بل أؤمن بترك الهامش الآمن، وعلى العكس تماماً، فإنني دوماً أتساءل عن هؤلاء الناس الذين يصرون على الحد الأقصى من المجازفة، فهو سيسرع 120 إذا كانت السرعة المسموح بها 120، دون أي هامش للأمان أو احتمال لوقوع الاستثناءات. هذا الشخص الذي يسير على حافة الأشياء، هو برأيي الشخص ذاته الذي لا يذهب إلى المطار إلا قبل ساعة من رحلته، مفترضاً أن الأمور ستسير في كل مرة دون استثناءات أو أخطاء أو مفاجآت. بالنسبة لي لا يمكن أن أتصرف بهذه الطريقة، فقد علمتني الحياة أن المفاجآت تحدث، وأن حسابها دليل على النضوج، وهو الذي يضمن لك السرعة في الوصول مع السلامة، أكثر من التسرع غير الناضج.
وفي مقال نشره الكاتب جيفري جيمس في مجلة "إنك"، أعطى تفاصيل مشابهة لما أفكر به؛ فهو يرى أن الأشخاص الذين لا يتوقفون تماماً عند إشارة المرور، وتظل عجلات سياراتهم تتحرك، هم أشخاص لا يمكن الوثوق بهم في الالتزام بالحدود والانضباط في العمل، ولا يمكنهم الاهتمام بالتفاصيل في العمل، وكذلك، فإن الأشخاص الذين لا يتركون مسافات أمان بينهم وبين السيارات التي أمامهم، هم أشخاص لا يمكن الاعتماد عليهم في القيادة لأنهم لا يمتلكون الخيال الكافي الذي ينبههم باحتمال حدوث الطوارئ والمفاجآت، ولذلك فهم لا يتركون مسافات أمان.
وكذلك، فإن الأشخاص الذين يقودون سياراتهم ببطء، ويغلقون الطريق أمام من خلفهم، هم أشخاص يعيقون تقدم العمل والطامحين بالابتكار.
وقد سألت أحد الأصدقاء وهو "مشفّط ومفحّط" تائب، عن السبب الذي يدفع رجلاً محترماً "للتشفيط والتفحيط" بالسيارة والتسرع المبالغ فيه على الطرقات، فأخبرني إنها حالة البحث عن الأدرينالين والشعور بالنشوة والانتصار.
وقد بحثت بعدها فوجدت فعلاً أن الدراسات العلمية تسمي هذه الحالة البحث عن الانتصارات الوهمية عند الأشخاص الذين لديهم فراغ في الداخل ويفتقدون الانتصارات الحقيقية في حياتهم، فهؤلاء الناس يبحثون عن إنجازات مؤقتة مع عابري السبيل الذين يرونهم أضعف منهم، فهم يتجنبون المنافسة مع أصحاب السيارات الأكبر والأسرع والأحدث، أو ذات اللوحة المرورية المميزة، ويتنمرون على من يبدون أضعف منهم.
ويبدو أن تحليل نفسيات السائقين هي مسألة تجذب جميع الناس، والشيء اللافت، هو أننا جميعاً متحيزون لأنفسنا في الحكم خلال قيادة السيارات، فالخطأ الذي أرتكبه أنا هو خطأ بسيط ارتكبه إنسان محترم دون قصد، بينما الخطأ الذي أراه من سائق آخر هو حماقة من شخص متهور.
وقد استعرضت صحيفة الغارديان البريطانية عدداً من الدراسات والأبحاث العلمية التي تؤكد وجود عشر حالات تحيّز نخطئ فيها بالحكم على أنفسنا وعلى الآخرين خلال قيادة السيارات، منها: أننا قد نتصرف بعدوانية ونوحي للآخرين بالعدوانية دون أن ندرك ذلك، كما أننا نعتقد أننا أكثر أماناً مما نحن عليه، بينما نتصرف تصرفات تضعنا في خطر حقيقي مقابل مكاسب وهمية، مثل السرعة المبالغ بها بهدف الاستفادة من بعض الدقائق، كما أننا ننسى أن السائقين الآخرين هم أيضاً بشر، إضافة إلى أننا نتصرف بعدوانية أكبر تجاه الأشخاص ذوي الحالة الاجتماعية الأقل، والذين قد توحي سياراتهم أنهم أقل من مستوانا، فأصحاب السيارات الكبيرة يتنمرون على أصحاب السيارات الصغيرة، وأصحاب السيارات الجديدة يحبون أن يضطهدوا أصحاب السيارات القديمة. وعند وقوع الأخطاء والحوادث، فإننا دوماً ننظر إلى الحوادث على أنها وقعت بسبب غباء الآخرين وليست بسببنا. وهذه طبعاً كلها أوهام، حسب الدراسات العلمية التي استعرضتها الغارديان.
ما زال الموضوع ممتعاً بالنسبة لي؛ فأنا كل يوم أضيف لمعلوماتي فكرة جديدة، وصرت أقول لنفسي ولمن حولي: "قل لي كيف تقود سيارتك أقل لك من أنت". لدرجة أنني أعتقد أن اختيار الناس لسياراتهم ونوعيتها له في بعض الحالات صلة وثيقة بطبيعة شخصية الإنسان، فمن يشتري سيارة أكبر من قدراته المادية يعبر عن شخصيته، ومن يشتري أقل من ذلك فهو أيضاً يعبر عن شخصيته، ومن يفضل استئجار سيارة واستثمار أمواله في مشروع، فهو يعبّر أيضاً عن طريقة تفكيره في إدارة حياته وأمواله.
وبالنتيجة، فإن إدارتنا لحياتنا في اختيار سياراتنا وطريقة قيادتها تكشف الجوانب المظلمة والمضيئة في شخصياتنا وفلسفتنا في الحياة، لدرجة أن أحد الكتّاب ذكر بأن انتشار السيارات ذاتية القيادة سيحرمنا من القدرة على تحليل شخصيات مدرائنا وزملائنا في العمل من خلال قيادتهم للسيارات.