على مدار العقد الماضي، شكّلت سلسلة معقدة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية تحدياً للقوانين التقليدية التي تنظّم عمل المؤسسات، ما أثار تساؤلات عديدة حول سعينا الدؤوب لتحقيق الكفاءة التشغيلية. ونتيجة لذلك، فوجئ العديد من القادة، الذين أمضوا حياتهم المهنية في العمل والاستثمار في بيئات مستقرة نسبياً، ووجدوا أنفسهم غير مستعدين للتعامل مع الأزمات، ولولا الدعم الحكومي الكبير، لما تمكّن العديد من الشركات من تجاوز الركود الاقتصادي الكبير أو جائحة كوفيد-19.
لكن من خلال عملي الأكاديمي والميداني، وجدتُ أن هناك فئة من الشركات العائلية تتمتع بمرونة طبيعية لأنها تدرك أهمية الاستثمار المستدام في تعزيز المرونة التنظيمية، حتى لو كان ذلك على حساب الكفاءة والربحية. يوفر أسلوب هذه الشركات الفريد في التعامل مع المخاطر دليلاً إرشادياً مبتكراً للقادة في كل مكان، في وقت نستعد فيه لدخول ما أسميه "عصر الغموض وعدم الاستقرار الجديد" (A New Age of Uncertainty).
عمل العديد من هذه العائلات لعقود وحتى لقرون في الأسواق الناشئة والمبتدئة، التي يغلب عليها طابع الغموض وعدم الاستقرار؛ إذ تشهد هذه البيئات المضطربة انتشاراً أكبر للتهديدات المتعلقة بالممتلكات والأمن، بالإضافة إلى صعوبة الحصول على رأس المال مع تفشي الفساد وهشاشة سلاسل التوريد وضيق أفق التخطيط وصعوبة العثور على الكفاءات والمواهب، إلى جانب التحديات التنظيمية المعروفة التي تواجهها الشركات كافة، مثل إدارة العمليات والشؤون المالية والتسويق والقيادة.
على مدى السنوات الثماني الماضية، عملتُ مع زملائي على توثيق الطرق التي يتبعها أصحاب الشركات العائلية للبقاء والازدهار في مواجهة هذه المخاطر المتزايدة والمستمرة. وفيما يلي 3 دروس بسيطة طبّقتها بعض الشركات العائلية بنجاح والتي يمكن أن تساعد القادة كافة على التعامل مع حالة الغموض وعدم الاستقرار المستمرة في المستقبل.
يعتمد تحقيق المرونة على وجود نية واضحة وتخطيط مدروس.
تدرك الشركات العائلية التي تعمل في بيئات مضطربة أن المستقبل قد يكون مختلفاً تماماً عن الحاضر وتستعد لذلك مسبقاً. في هذه البيئات، تكون الأسواق العامة والمؤسسات عادة أضعف وأقل كفاءة وأكثر غموضاً. فهناك ندرة طبيعية في رأس المال والموارد والمواهب؛ إذ تنجذب هذه العناصر إلى البيئات المستقرة التي يمكن التنبؤ بها والتي تتميز بسيادة القانون وحرية المعلومات والبنية التحتية الموثوقة. قد يجد قادة الشركات العائلية أنفسهم أمام واقع جديد وهو تأميم شركاتهم أو خضوع أرباحهم للرقابة التنظيمية، أو تعرّض الموظفين للخطر الشديد خلال تنقلاتهم اليومية إلى العمل بسبب انعدام الأمن.
تتطلب القدرة على توقع مثل هذه التقلبات والتخطيط لها تحولاً جوهرياً في التصميم التنظيمي، وذلك من خلال النظر إلى عدم الكفاءة التشغيلية بوصفها ميزة وليست مشكلة. لاحظتُ أن الشركات العائلية التي تزدهر في ظل هذه الظروف تتبع نصيحة الفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس؛ إذ يقول: "يجب ألا تعتمد السفينة على مرساة واحدة صغيرة، كما يجب ألا ترتكز الحياة على أمل واحد فقط". لذلك، تتبع هذه الشركات المبدأ الإداري القائم على الاستعداد مسبقاً لأي طارئ بدلاً من التصرف في اللحظة الأخيرة والتفاعل مع الموقف وفقاً للحاجة. وبالتالي، فإنها تستثمر بطريقة فعالة في الفائض التنظيمي، وهو مفهوم شائع في الأنظمة البيولوجية المرنة، لضمان القدرة على التعافي بسرعة من الصدمات السلبية والحفاظ على استمرارية العمليات عند فقدان القدرة على الحصول على رأس المال أو توفير البنية التحتية الأساسية.
لنأخذ على سبيل المثال عائلة من الشرق الأوسط التي أسست منشآت صناعية احتياطية وحياً سكنياً كاملاً في بلد مجاور تحسباً لاندلاع حرب أهلية مدمرة. في مثال آخر، استثمرت شركة مشغّلة لفندق في هايتي في مولدات احتياطية بالإضافة إلى المولدات الاحتياطية الموجودة بالفعل، إلى جانب توفير خطوط متعددة للاتصال بالإنترنت لمواجهة الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي وأعطال الشبكة. من الأمثلة أيضاً الشركة اليابانية المصنعة لصلصة الصويا التي شاركت احتياطياتها الاستراتيجية من الحبوب لإنقاذ السكان المحليين من المجاعة مراراً على مدار القرون، ما أكسبها مكانة مميزة لدى البلاط الإمبراطوري. يمكننا أيضاً أن نذكر هنا عائلة من هونغ كونغ التي استثمرت في إنشاء صندوق احتياطي مالي ضخم في كندا لتجنب المخاطر التنظيمية المتزايدة التي تهدد نشاطها التجاري في الصين.
على الرغم من أن كل استثمار في هذه الإجراءات الاحتياطية تطلّب وقتاً وموارد كبيرة، وهي عناصر ثمينة لأي مؤسسة، فإن اختيار التضحية بالأرباح عمداً لتعزيز المرونة ساعد هذه العائلات على الاستعداد للاضطرابات الخطيرة والصدمات والضغوط المستمرة والصمود أمامها والتعافي منها.
تشبه هذه التعديلات الاحتفاظ بإطار ورافعة احتياطييَن في صندوق السيارة، وتمثّل نوعاً من أنواع التأمين لضمان الاستمرارية وتكتسب قيمة كبيرة في البيئات غير المستقرة، على الرغم من التكاليف الإضافية المرتبطة بها. وكما يقول المثل العسكري القديم: "خطتان أفضل من واحدة، وإذا كنت تملك خطة واحدة، فأنت لا تملك أي بديل في حال فشلها". بعبارة أخرى، يجب أن تكون لديك دائماً خطة احتياطية.
في المقابل، يرى العديد من القادة الذين أمضوا حياتهم المهنية في العمل في أسواق مستقرة نسبياً أن هذه الاستثمارات غير فعالة أو أنها تمثّل هدراً للموارد، إلى أن تفاجئهم ظاهرة البجعة السوداء، مثل النزاع الأخير في أوكرانيا، ويضطرون إلى إعادة التفكير في سلاسل التوريد العالمية والتعامل بالعملات الأجنبية والتعرض لمخاطر أسعار الفائدة. في نهاية المطاف، عندما تكون الظروف متوقعة ومستقرة نسبياً، مثلما كانت في معظم نصف القرن الماضي في أكثر الاقتصادات الصناعية تقدماً في العالم، فإن تحسين الكفاءة التشغيلية يمكن أن يكون من أكثر الطرق الموثوقة لتحقيق الربحية والازدهار، لذلك، ليس من المستغرب أن تصبح هذه الاستراتيجية منتشرة في كل مكان حتى لو كانت محدودة الأفق.
وبالتالي، يجب على القادة الفعّالين في عصر الغموض وعدم الاستقرار التركيز على الاستثمار في تعزيز المرونة، حتى لو تطلب ذلك تحمّل تكاليف عدم الكفاءة التنظيمية من أجل الاستعداد لمواجهة المخاطر القادمة.
المرونة تُمثل تحدياً على مستوى الأنظمة
شكّلت السنوات القليلة الماضية درساً قاسياً بالنسبة للعديد من القادة الذين يعملون في الأسواق المتقدمة الأكثر استقراراً، وهو أنه لا يمكن التحكم الكامل في الظروف الخارجية، ولا يمكن التنبؤ بالعديد من النتائج بدقة، على الرغم من بذلنا قصارى جهدنا. يجب أن تتجاوز هذه الاستثمارات الهياكل والعمليات الداخلية وأن تتخطى حدود المؤسسة لتتوافق مع الجهود الواسعة لدعم المرونة الاجتماعية والبيئية.
في عصر عدم الاستقرار والغموض، يجب أن يفهم أصحاب الشركات العائلية أن بقاءهم واستمرارهم على المدى البعيد يعتمدان بدرجة أكبر على بيئات العمل التي يعملون ضمنها، وهو شكل من أشكال التكافل أو التعايش الذي نلاحظه غالباً في النظم البيولوجية المرنة. وكما هي الحال في الطبيعة، فإن تجاهل مصالح أطراف المصلحة الرئيسيين أو عدم تقديم الدعم اللازم لنموهم وتطورهم يُقوّض قدرة هذه الشركات على المرونة والتحمّل. وبعبارة أخرى، فإن الانكفاء على الذات أو تجنب المواجهة وانتظار تحسن الأوضاع من تلقاء نفسها ليس استراتيجية فعالة ومستدامة للتعامل مع الأزمات السياسية أو الكوارث البيئية.
يجب على قادة الشركات العائلية أن يستفيدوا من تجارب نظرائهم في الأسواق النامية الذين واجهوا مثل هذه التحديات من قبل؛ إذ تُظهر هذه الشركات العائلية المرنة استعداداً أكبر للاستثمار في مجتمعاتها المحلية ورعايتها مقارنة بالشركات الأخرى، وفي كثير من الحالات تبادر إلى تمويل البنية التحتية الأساسية عندما تعجز المؤسسات العامة عن تحقيق ذلك. في ظل غياب الاستثمارات الحكومية في الخدمات العامة الأساسية، تولّت بعض الشركات العائلية من عملائنا إنشاء طرق وجسور ومستشفيات ومدارس ومراكز مجتمعية ومساكن، بالإضافة إلى وكالات الأنباء وشبكات الاتصالات. يؤدي ذلك إلى توفير قوى عاملة محلية مخلصة وموثوقة، بالإضافة إلى زيادة احتمالية النجاح على المدى الطويل من خلال تعزيز ثقافة الرد بالمثل التي تسهم في استدامة بيئة العمل الصحية وتنميتها. في المقابل، عندما لا يتمكن المواطنون والشركات من الحصول على هذه الموارد بطريقة موثوقة، أو عندما تتعرض هذه الموارد لتقويض متعمد بسبب الخطابات الشعبوية وحملات التضليل، ينخفض مستوى الثقة بالأطراف الخارجية وتزداد تكاليف المعاملات، ما يؤدي حتماً إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتضمن الجهود المبذولة للاستثمار في مرونة النظام الاهتمام بتعزيز المرونة داخل المؤسسة نفسها من خلال تعزيز المرونة العائلية والشخصية لأصحاب المصلحة الداخليين. يسبب عدم الاستقرار المستمر ضغوطاً نفسية يمكن أن تؤثر بدرجة كبيرة في رفاهة الأفراد والفِرق وأدائهم. يجب على قادة الشركات العائلية الذين يواجهون هذه التحديات للمرة الأولى أن يعتمدوا على المعرفة المتوافرة في الأدبيات والمؤلفات الغنية التي تتناول كيفية التعامل مع الضغوط المزمنة على المستوى الشخصي وداخل العائلات وعلى مستوى المؤسسة. كما يجب عليهم أن يدركوا أن أفراد العائلة وقادة الشركات قد يختلفون في مدى تعرضهم للمخاطر وفي طرق تعاملهم مع الضغوط. وأخيراً، يجب أن يستمدوا الطمأنينة من المرونة الطبيعية التي يتمتع بها نظراؤهم في الأسواق الناشئة والمبتدئة، حيث تكون الروابط الأسرية المتينة غالباً مصدراً قوياً ومهماً للرفاهة الفردية والجماعية على حد سواء.
العائلة أولاً
كانت شبكات العلاقات العائلية الكبيرة هي الوحدة الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة منذ ظهور أولى الحضارات البشرية. سمحت لنا تركيبتنا الوراثية بوصفنا بشراً بتكوين علاقات عميقة مع أشخاص غرباء لا تربطنا بهم صلة قرابة للتعامل مع ندرة الموارد ومواجهة التهديدات الوجودية بطريقة أفضل، ما أدى إلى نشوء أولى البيئات المصغّرة القائمة على الثقة. في هذا السياق، كان الأفراد السيئون يُطردون من العائلة الكبيرة ليواجهوا وحدهم مستقبلاً غامضاً، في حين ساعدت زيادة فرص البقاء والنمو بالنسبة لأولئك الذين بقوا داخل المجموعة والتزموا بقيمها على تعزيز أهمية المعايير المتعلقة بالثقة والمعاملة بالمثل.
ولا تزال مظاهر هذا التوجه القبلي القديم قائمة في الأسواق الناشئة في وقتنا الحاضر، مثل مفاهيم "غوانشي" (Guanxi) في الصين و"بلات" (Blat) في روسيا، و"المحسوبية أو الواسطة" (Wasta) في الشرق الأوسط و"كومبادرازغو" (compadrazgo) في أميركا اللاتينية. تعمل شبكات العلاقات العائلية في هذه الدول على خفض التكاليف المرتبطة بممارسة الأعمال التجارية وتوفر عنصراً أساسياً لتسهيل النشاط الاقتصادي، في حين أننا اعتدنا رؤية هذه الظروف على أنها من البديهيات في الدول المتقدمة، حيث تكون المؤسسات مثل النظام القضائي والصحافة الحرة موثوقة غالباً وتضمن التزام الآخرين بالقوانين في معظم الأحيان. ومع استمرار تقويض المؤسسات العامة في أنحاء العالم كافة بسبب الشعبوية وحملات التضليل والقيود على الميزانية، سيضطر قادة الشركات العائلية إلى زيادة الاعتماد على شبكات العلاقات العائلية بطريقة استراتيجية ومدروسة لضمان استمرار حصولهم على رأس المال والفرص.
وباختصار، سيتطلب عصر عدم الاستقرار والغموض اتباع أسلوب جديد للتخطيط للاستمرارية، بحيث يتجاوز الأطر التقليدية للاستراتيجيات والعمليات والقيادة التي تُدرّسها كليات إدارة الأعمال وتُطبّقها مجالس الإدارة. ولتحقيق النجاح، يجب على الشركات العائلية الاستثمار بطرق مدروسة للاستعداد لمواجهة الصدمات المتكررة والضغوط المستمرة والصمود أمامها والتعافي منها، بالإضافة إلى تطوير رؤية شاملة للمخاطر على مستوى الأنظمة، بحيث تركّز على مراعاة المرونة الخارجية والداخلية على حد سواء، وتوطيد الروابط العائلية مع المجتمعات المحلية للحفاظ على الاستقرار في ظل الاضطرابات والفوضى. وعلى الرغم مما تتسم به هذه الاستثمارات من عدم كفاءة جوهرية وتكلفة مادية، فإن وجودها في بيئات غير مستقرة، مثل تلك التي تنتظرنا في المستقبل، كخطة احتياطية أفضل بكثير من الحاجة إليها وعدم القدرة على توفيرها.