ملخص: أحدثت التطورات التكنولوجية في معالجة اللغة الطبيعية واللغويات الحاسوبية والتعلم الآلي، إلى جانب رقمنة كل شيء بدءاً من الخطابات التعريفية حتى المحادثات، ثورة في قدرتنا على تحليل اللغة، ما أسفر عن رؤى غير مسبوقة. فكر في الأمر على أنه علم جديد للغة. فقد أشارت استنتاجات عديدة إلى أن التغييرات الصغيرة في الكلمات التي نستخدمها يمكن أن تزيد قدرتنا على إقناع الآخرين والتأثير عليهم.
تقريباً كل ما نقوم به يتضمن استخدام الكلمات؛ فمن رسائل البريد الإلكتروني والعروض التقديمية إلى المكالمات الهاتفية واجتماعات طرح الأفكار، الكلمات هي الطريقة التي نستخدمها للإقناع والتواصل وبناء العلاقات.
ولكن بعض الكلمات أكثر تأثيراً من غيرها؛ فهي أفضل في تغيير الآراء وإثارة إعجاب الجماهير والدعوة إلى اتخاذ إجراءات. إذاً، ما هي هذه الكلمات السحرية؟ وكيف يمكننا الاستفادة من قوتها؟
تحويل الأفعال إلى هويات
غالباً ما نستخدم الأفعال عندما نطلب من الأشخاص القيام بشيء ما. على سبيل المثال، نطلب من شخص ما أن "يساعدنا" في مراجعة عرض على برنامج باور بوينت، أو أن "يشارك" أفكاره في أحد الاجتماعات. وبالمثل، عند محاولة زيادة إقبال الناخبين، قد تشجع الرسائل البريدية الناخبين على أن يذهبوا إلى الانتخابات وأن "يدلوا" بأصواتهم.
يُعد استخدام الأفعال طريقة منطقية لطلب القيام بشيء ما، ولكن اتضح أن إجراء تغيير لغوي طفيف يمكن أن يزيد من تأثيرنا على الآخرين. فبدلاً من أن تطلب من الآخرين أن "يساعدوك"، أظهرت بحوث أن دعوتهم إلى أن يكونوا "معاونين" أدت إلى زيادة المساعدة بمقدار الثلث تقريباً. وبدلاً من مطالبة الأشخاص بأن "يدلوا" بأصواتهم، أظهرت بحوث أن دعوتهم إلى أن يكونوا "ناخبين" أدت إلى زيادة الإقبال على التصويت بنسبة 15%.
إن تحويل الأفعال (أي المساعدة أو التصويت) إلى هويات (أي أن تكون معاوناً أو ناخباً) يجعل الأشخاص أكثر ميلاً إلى القيام بما طُلب منهم، لأنه يحوّل هذا الفعل إلى فرصة لاكتساب هوية مرغوبة. إذ يريد الجميع أن ينظروا إلى أنفسهم بنظرة إيجابية: أنا شخص ذكي وكفء ومفيد وفعال. لذا فإن النظر إلى الأفعال على أنها فرص لاكتساب الهويات المرغوبة يشجع الأشخاص على التصرف من هذا المنطلق.
هل تريد أن يستمع إليك الآخرون؟ اطلب منهم أن يكونوا مستمعين. هل تريدهم أن يقودوا؟ اطلب منهم أن يكونوا قادة.
ينطبق الأمر نفسه على السلوكيات غير المرغوب فيها، ولكن في الاتجاه المعاكس. هل تريد أن يكون الأشخاص أكثر التزاماً بالقيم الأخلاقية؟ بدلاً من قول "لا تغش" قل "لا تكن غشاشاً"؛ فقد تَبين أن قول ذلك يقلل السلوكيات غير الأخلاقية بأكثر من النصف. هل تحاول إقناع الأشخاص بالتوقف عن رمي القمامة على الأرض؟ بدلاً من قول "لا ترمِ القمامة على الأرض" قل "لا تكن ممن يلقون القمامة على الأرض". هل تحاول إقناع الأطفال بقول الصدق؟ بدلاً من قول "لا تكذب" قل "لا تكن كاذباً" لأنه سيكون أكثر فعالية.
ولكن تأثير عملية تحويل الأفعال إلى هويات يتعدى الإقناع بكثير. تخيل أنني أخبرتك عن شخصين: رغدة وفريد. تذهب رغدة للجري، وفريد عدّاء. مَن تعتقد أنه يحب الجري أكثر؟
هناك طرائق عديدة لقول الشيء نفسه. على سبيل المثال، يمكن وصف الشخص الذي لديه معتقدات سياسية يسارية بأنه "يفكر بطريقة ليبرالية" أو "ليبرالي". ويمكن وصف الشخص الذي يحب الكلاب كثيراً بأنه "يحب الكلاب" أو أنه "من محبي الكلاب".
قد تبدو هذه الاختلافات طفيفة، ولكن في كل حالة، يشير الوصف الأخير إلى فئة معينة من الأشخاص. إذا تم وصف شخص ما بأنه يفكر بطريقة ليبرالية، فإن هذه الصفة تشير إلى أن معتقداته ذات ميول يسارية. ولكن وصف شخص ما بأنه "ليبرالي" يشير إلى أنه ينتمي إلى مجموعة أو فئة معينة. فهو عضو في مجموعة معينة من الأشخاص، ما يشير إلى شيء أكثر ديمومة.
هل تُعِد سيرتك الذاتية وترغب في إظهار مدى تفانيك في العمل؟ لا تصف نفسك بأنك تعمل بجد فحسب؛ بل قل إنك "مجتهد" لأن قول ذلك يؤدي إلى انطباعات إيجابية بشكل أكبر. هل تريد مساعدة زميل في الحصول على ترقية؟ حاول أن تصفه بأنه "مبتكِر" بدلاً من "يفكر بطرق مبتكَرة"، لأن ذلك سيزيد في الغالب من احتمالية ترشيحه للترقية.
كيف نعرف ذلك؟ من علم اللغة الجديد. أحدثت التطورات التكنولوجية في معالجة اللغة الطبيعية واللغويات الحاسوبية والتعلم الآلي، إلى جانب رقمنة كل شيء بدءاً من الخطابات التعريفية وحتى المحادثات، ثورة في قدرتنا على تحليل اللغة، ما أسفر عن رؤى غير مسبوقة.
تحويل الأفعال إلى هويات ما هو إلا فكرة واحدة مستقاة من قوة الكلمات السحرية، ولكن هناك عشرات الأفكار الأخرى.
تحدث بثقة
غالباً ما يُنظر إلى القادة العظماء أو الخطباء المؤثرين أو مؤسسي الشركات الناشئة المشهورين على أنهم يتمتعون بشخصية كاريزمية للغاية. فعندما يبدؤون الحديث، يستمع الآخرون. وهم مندوبو مبيعات رائعون، ولديهم قدرة مذهلة على تبسيط الأمور المعقدة، ويمكنهم تحفيز أي جمهور لاتخاذ إجراءات.
ولكن بإمعان النظر في هؤلاء الأشخاص، ستجد شيئاً مشتركاً: إنهم يتحدثون بقدر كبير من الثقة. فهم يجيبون بإجابات قاطعة، ويقولون إن النتائج مضمونة، وأن مسار العمل هذا سينجح بالتأكيد. حتى في مجال مثل الاستشارات المالية، حيث يكون الأداء الموضوعي بالغ الأهمية، أظهرت البحوث أن الأشخاص يفضلون المستشارين الذين يتحدثون بثقة أكبر.
فعندما يتحدث الأشخاص بثقة، غالباً ما يعتقد المستمعون أنهم محقون. ولكن أي مستشار سيقوم بالعمل على أفضل وجه؟ من الصعب التأكد من ذلك، ولكن إذا تحدث الشخص بثقة، فمن الصعب تصديق أنه قد يكون مخطئاً. فهو يبدو واثقاً للغاية من نفسه.
على الرغم من ذلك، لا يتحدث معظمنا بثقة. سواء كنت تقود فريقاً أو تقدم عرضاً ترويجياً لعميل، فإننا غالباً ما "نتحوط" في الكلمات التي نستخدمها. على سبيل المثال نقول: "قد ينجح هذا الحل" أو "أعتقد أن هذه الاستراتيجية ستكون فعالة" أو "يبدو لي أن هذا هو أفضل مسار للعمل".
وعلى الرغم من أن التحوط يمكن أن يكون مفيداً من بعض النواحي، فإنه غالباً ما يقلل من تأثيرنا على الآخرين. تقلل التصريحات "الوقائية" من احتمالية أن يتّبع المستمعون نصيحتنا أو أن يعتمدوا مسار العمل الموصى به. فالتحوط يضر لأنه يجعل المتحدث يبدو أقل ثقة.
هل هذا يعني أنه ليس علينا التحوط أبداً؟ لا، ولكنه يعني بالتأكيد أننا يجب أن نفكر بتأنٍ قبل استخدامه. إذا كان الهدف هو الإشارة إلى عدم اليقين، فهذا رائع. ولكن في بعض الأحيان نكون معتادين للغاية على استخدام التصريحات الوقائية دون سبب، وهذا خطأ.
هناك أيضاً أنواع معينة من العبارات "التحوطية" التي يمكننا استخدامها للإشارة إلى عدم اليقين دون الإضرار بالإقناع. بالمقارنة مع العبارات التحوطية العامة (مثل "يبدو أن هذا سينجح")، كشف بحثنا أن العبارات التحوطية الشخصية (مثل "يبدو لي أن هذا سينجح") أكثر إقناعاً لأنها تُظهر الثقة. فهي تشير إلى أن المتحدث واثق بدرجة تكفي لربط ما يقوله بنفسه، ما يجعل الآخرين أكثر ميلاً إلى الاستماع.
وبالمثل، إذا كان الهدف هو إظهار اليقين، فاستخدم الكلمات التي تدل على أنك تقول أشياء مؤكدة. عندما تقول إن وجود هذا الشخص ضروري أو إن هذه الاستراتيجية فعالة بالتأكيد أو إن مسار العمل هذا هو الأفضل بلا شك، فإن جميع هذه الكلمات تزيل أي ذرة شك.
تشير مثل هذه الكلمات إلى أن الأمور واضحة بنسبة 110%، فالمتحدث واثق مما يقوله ومسار العمل واضح، ما يجعل المستمعين أكثر ميلاً إلى الاستماع وتنفيذ كل ما يقترح عليهم القيام به.
قوة صيغة المخاطب
حتى الكلمات البسيطة المعبرة عن صيغة المخاطب يمكن أن يكون لها تأثيرات قوية.
قبل بضع سنوات طلبت مني شركة تكنولوجيا كبيرة تحليل منشوراتها على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة ما كان ناجحاً وما لم يكن كذلك. وقد أظهر التحليل النصي الآلي لآلاف المنشورات أن الكلمات التي تشير إلى صيغة المخاطب تزيد من المشاركة والتفاعل. فقد حظيت المنشورات التي استخدمت صيغة المخاطب أو ما يماثلها بعدد أكبر من الإعجابات وتلقت أيضاً عدداً أكبر من التعليقات.
وجدنا أن صيغة المخاطب يمكن أن تكون إشارة توقف؛ إذ تشير إلى أن ما يُقال مهم وجدير بالاهتمام. وسواء كنت تخاطب الجماهير عبر الإنترنت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو وجهاً لوجه من خلال المحادثات أو الاجتماعات الفردية، فإن استخدام صيغة المخاطب يجعلهم يشعرون أن هناك شخصاً يتحدث إليهم مباشرة، لذلك يكونون أكثر ميلاً إلى التوقف عما يفعلونه والاستماع إليه.
ولكن عندما أجرينا تحليلاً مشابهاً على مقالات دعم العملاء (على سبيل المثال، صفحات حول كيفية إعداد كمبيوتر محمول جديد، أو استكشاف المشكلات بجهاز ما وإصلاحها)، وجدنا أن استخدام صيغة المخاطب أتى بنتائج عكسية. ففي هذه الحالة، استخدام صيغة المخاطب يضر بدلاً من أن يساعد، لأنه يجعل القراء يشعرون أن المحتوى كان أقل نفعاً.
في حين أن صيغة المخاطب تشير إلى أن المعلومات مهمة للشخص المخاطَب، فإنها قد تشير أيضاً إلى المسؤولية أو اللوم. على سبيل المثال، بالمقارنة مع عبارة "إذا كانت الطابعة لا تعمل__"، فإن قول "إذا لم تتمكن من تشغيل الطابعة، __" يشير إلى أن تعطُّل الطابعة هو خطأ المستخدم بطريقة أو بأخرى، ما يعني أن المشكلة ليست في الطابعة، بل في المستخدم الذي يبدو أنه لا يستطيع تشغيلها كما يُفترض.
لا عجب إذاً أن استخدام صيغة المخاطب في وسائل التواصل الاجتماعي يساعد على جذب الانتباه، بينما يضر في حالة صفحات دعم العملاء التي يمكن أن يشير ذلك فيها إلى أن المستخدم هو المسؤول عن الخطأ. لا توصّل الكلمات المعلومات فحسب، بل تشير أيضاً إلى الشخص المسيطر والشخص المسؤول، بطرق جيدة وسيئة.
أسئلة مثل "هل تحققت من موعد تسليم مهماتك؟" أو "هل أطعمت الكلب؟" يمكن أن تبدو كأنها اتهام. قد تكون النية حسنة، وقد يكون السؤال مجرد طلب للحصول على معلومات، ولكن يمكن بسهولة تفسيره بشكل مختلف. مَن قال أن هذا الأمر مسؤوليتي؟ أو ما يمنعني من أن أقوم بذلك؟
يمكن لتغيير طفيف (مثل "هل تم تسليم المهمة المطلوبة؟") أن يقلل احتمالات إثارة رد فعل سلبي. فالتركيز على الفعل، بدلاً من الفاعل، يستبعد أي إيحاء باللوم أو العتاب. لا أقول إن إطعام الكلب مسؤوليتك، أريد فقط معرفة إن كان ذلك قد حدث حتى أتمكن من إطعامه إذا لم تكن أطعمته.
ينطبق الأمر نفسه على عبارات مثل "أردت التحدث معك، لكنك كنت مشغولاً". قد يكون التصريح صحيحاً: أردنا التحدث، وكان الشخص الآخر مشغولاً. لكن صياغته بهذه الطريقة تشير إلى أن اللوم يقع على أحد الطرفين. فما حدث ليس سيئاً لأن هذا الطرف كان مشغولاً فحسب، وإنما يشير أيضاً إلى أنه هو المُلام على عدم إجراء المحادثة.
ولذلك فإن استبعاد صيغة المخاطب واستخدام صيغ مثل "أردت التحدث معك ولكن لم يبدُ الوقت مناسباً"، يتجنب توجيه أصابع الاتهام إلى أي طرف. من الواضح الآن أن هذا ليس خطأ أحد، ويبدو أننا مهتمون لا انتقاديون. فتجنُّب استخدام صيغة المخاطب بطريقة اتهامية يساعد على تجنب إلقاء اللوم دون قصد.
بعض الأشخاص متحدثون رائعون، وبمجرد أن يبدؤوا الحديث، يستمع إليهم الجميع. وهناك أيضاً كتّاب رائعون يستخدمون الكلمات بطريقة سحرية تأسر خيالنا وتحظى باهتمامنا.
فماذا عن بقيتنا؟ هل حظنا عاثر؟
ليس تماماً، لأن الكتّاب والمتحدثين الرائعين لم يُولدوا كذلك، بل هي مهارات يمكنك تعلمها وصقلها. للكلمات تأثير مذهل، ومن خلال فهم متى تصبح مؤثرة ولماذا وكيف، يمكننا استخدامها لزيادة تأثيرنا.