وفقاً للأكاديمية الوطنية للطب (معهد الطب سابقاً)، ينفق النظام الأميركي للرعاية الصحية حوالي ثلث موارده – 750 مليار دولار سنوياً – على خدمات غير ضرورية وإجراءات عناية غير فعالة. وتعد أدوات التحليل التنبؤي في مجال الرعاية الصحية الجديدة بخفض الهدر وتحسين سوية الرعاية من خلال التنبؤ باحتمال وقوع حدث ما – إعادة قبول مريض سابق في المستشفى أو الإصابة بالتهاب يهدد الحياة على سبيل المثال – والسماح لمزودي الرعاية الصحية بتكييف العلاجات والخدمات الطبية وفقاً لذلك الاحتمال. ولقد باتت هذه الأدوات اليوم تُستخدم في جميع أجزاء طيف الرعاية، ابتداء من مراقبة الأمراض، ومروراً بالوقاية من الأمراض المزمنة، وصولاً إلى تحديد المرضى المعرضين لخطر تدهور حالتهم الصحية.
ولكن على الرغم من قدرة هذه الأدوات على تحسين سوية الرعاية وكفاءتها، إلا أنّ غالبية مؤسسات الرعاية الصحية لا تزال تغفل عن آلية الاستفادة منها. ومن بين المعيقات التي تقف في وجه اعتماد تلك الأدوات طيف الخيارات المربك الذي يواجهه مزودو الخدمة، ما بين تطبيقات الموبايل والأدوات القائمة على الشبكة والبرامج القادرة على إدماج السجلات الصحية الإلكترونية للمرضى. ولفهم أفضل لتلك المعيقات واستيعاب ما يمكن أن ييسر التطبيق الناجح لتلك الأدوات، أجرينا لقاءات مع 34 شخصية مؤثرة من قادة الأنظمة الصحية الأميركية الرائدة وصناع السياسات وقادة الشركات التي تبيع أدوات التحليل التنبؤي. ومن بين أهم النتائج التي توصلنا إليها هي أن النجاح لا يتعلق بالأداة المستخدمة بحد ذاتها، بل بتقبل تلك الأداة وتأييدها منذ البداية وعلى المستويات كافة.
ثلاثة دروس مستقاة من أدوات التحليل التنبؤي في مجال الرعاية الصحية
حاول إشراك الأشخاص المناسبين منذ البداية
بغض النظر عما إذا كان مزود أدوات التحليل التنبؤي يطور أدواته داخل مؤسسات زبائنه، كما فعل الكثير من المراكز الطبية الكبرى، أم يبيع أدواته جاهزة ومتاحة في الأسواق؛ فإن على المدراء أن يضمنوا إشراك الأشخاص المناسبين عبر جميع مراحل تلك العملية. فالأدوات التي تُطور لدى الزبائن تتطلب خبرات تطويرية خاصة، وإنّ نمطي الأدوات (التي تطور خصيصاً للزبائن والتي تباع جاهزة في السوق) يحتاج إلى عمليات تحقق وتطبيق وتطوير وتحسين مستمر. ومن الضروري أن يكون هنالك فريق من اختصاصات متعددة يضم خبرات سريرية وتحليلية ومتخصصة في علم البيانات وتكنولوجيا المعلومات ومهارات تغيير السلوك، يواكب هذه العملية من البداية إلى النهاية.
اقرأ أيضاً: كيف تغذي السجلات الطبية الإلكترونية الابتكار والإبداع في مجال الرعاية الصحية؟
ومن الأسباب الأساسية لعدم انتشار هذه الأدوات بالقدر الكافي هو أن موظفي الخطوط الأمامية لا يعرفون فوائدها وقيمتها. ولذلك فإن نجاح برامج اعتماد هذه الأدوات يجب أن يبدأ حيث هنالك مشكلة مستعصية ويمكن لأدوات التحليل التنبؤي أن تحلها بشكل واضح وجلي. فعلى سبيل المثال من المعروف أن 50% من الأطفال حديثي الولادة المصابين بمرض تعفن الدم غير المعالج سيفارقون الحياة، ولذلك غالباً ما يعطى الأطفال الأصحاء مضادات حيوية بشكل وقائي – "تحسباً لكون الطفل مصاباً" – ما قد يؤدي إلى مضاعفات وإلى ممانعة مرتفعة لتأثير المضاد الحيوي. ومن الواضح أن تحديد الأطفال حديثي الولادة غير المعرضين بدرجة كبيرة للإصابة بهذا المرض سيكون مفيداً جداً وسيوفر عليهم مخاطر تناولهم للمضادات الحيوية بشكل وقائي. وهذا بالضبط ما قامت به شركة كايزر برماننت في كاليفورنيا الشمالية، وذلك باستخدام أداة تنبؤية لخفض استخدام المضادات الحيوية إلى النصف من دون أي زيادة في الاختلاطات المرتبطة بمرض تعفن الدم.
ولعل استعراض وإظهار الأثر السريري للأداة التنبؤية يمكن أن يفيد كثيراً في إقناع الجهات التي يمكن أن تستخدمها. وهذا مهم بشكل خاص بالنسبة للموظفين العاملين في المجال السريري والذين قد ينظرون بشيء من الشك والريبة تجاه "برمجيات الصندوق الأسود" التي لا يفهمون طريقة عملها. ومن هنا فإن إشراك أولئك الموظفين مبكراً في عملية اعتماد تلك الأدوات أمر مهم للغاية ويسمح لهم بالتأثير في قرار اختيار الأدوات التنبؤية المناسبة وكيفية تطبيقها لإحراز نتائج مبكرة. وفيما يمكن أن تستغرق تلك العملية الكثير من الوقت، إلا أنّ فوائدها الجمة لا تخفى على أحد. وهذا ينطبق على كلا النوعين من الأدوات، المطورة لدى الزبون والمتوفرة جاهزة في السوق. وفي الواقع قد يتعين على الشركات البائعة للأدوات الجاهزة بذل جهد أكبر في العمل مع الموظفين لضمان كسب ثقتهم في منتجاتها.
من الضروري توفر عناصر التغيير وأبطال التطبيق السريري
قد يتعرقل تطبيق أدوات التحليل التنبؤي، إذا لم يتوفر موظفون مهرة وخطة تطبيق واضحة تدعم التغيّر السلوكي. ولقد وجدنا أن المؤسسات التي تستعين بشكل منتظم بخبراء التطبيق لدعم التغيير وتحسين جودة أدائها من خلال تطبيق طيف واسع من مشاريع تكنولوجيا المعلومات وما شابهها، تضمن لنفسها الأسبقية في تطبيق أدوات التحليل التنبؤي أيضاً. فخبراء التطبيق هؤلاء يتعاونون مع الأطباء السريريين لوضع خريطة لتدفق العمل وتحديد ما يتعين تغييره قبل إدخال أي أداة أو عملية جديدة. وربما يمتلكون أيضاً خلفية سريرية أو خلفية معرفية في مجال إعادة تصميم الخدمات وتحسين الجودة.
اقرأ أيضاً: التحولات المعلوماتية التي يحتاجها قطاع الرعاية الصحية
ومن جهة أخرى أثبت أبطال التطبيق السريري أهميتهم الحيوية عندما يرتبط الأمر بالتطبيق الناجح لأدوات التحليل التنبؤي – وأدوات تكنولوجيا المعلومات في مجال الصحة عموماً. ولا شك أن أي فريق مسؤول عن إحداث التغيير، يجب أن يضم بين صفوفه مجموعة من الأطباء السريريين المشهورين والمحترمين أو من قادة الفكر المقدرين في المؤسسة. إذ إنّ مهمة أولئك الأفراد تتمثل في المساعدة على دعم أداة التغيير والترويج لها من خلال استعراض طريقة استعمالها وتثقيف الناس حول مزاياها وفوائدها المتوقعة. ففي إحدى المستشفيات الرائدة في جنوب الولايات المتحدة، ساعد فريق صغير من الأطباء على تشجيع استخدام النماذج التنبؤية في جميع أقسام المستشفى. وهكذا تطور عملهم إلى أن غدا مركزاً متخصصاً بأدوات التحليل التنبؤي، وبات المستشفى يستخدم هذه الأدوات بطرق كثيرة ومتنوعة، بما في ذلك لخفض عدد المرضى القدامى الذين يتم قبولهم في المستشفى من جديد ولتحديد المرضى المعرضين لخطر الإصابة بمرض تعفن الدم أو للدخول إلى وحدة العناية المركزة من جديد.
لا بدّ لقادة السوية العليا في الشركة من الالتزام بتطبيق أدوات التحليل التنبؤي
إن إشراك القيادة العليا، وبخاصة الرؤساء التنفيذيين، في الالتزام بتطبيق أدوات التحليل التنبؤي، لا يقل أهمية عن تقبل وتأييد موظفي الصفوف الأولى. فكثيراً ما يكون قادة المؤسسات غير ملمين بالتكنولوجيا والتطبيقات التحليلية المتقدمة، ولا بد لضمان دعم قيادة المؤسسات من تثقيف القادة حول الفوائد المتوقعة من تطبيق أداة ما. وقد ضمن أحد المراكز الطبية الأكاديمية الكبرى في الولايات المتحدة ذلك من خلال إدخال قياسات أداء الأداة إلى لوحة القيادة التنفيذية، الأمر الذي جعل فوائد تلك الأداة جلية في أعين القيادة العليا. ويمكن تقدير قيمة الأداة من خلال مؤشرات تحسين الجودة، ورضا المرضى، ورضا الأطباء، وتحسين كفاءة العمليات.
اقرأ أيضاً: كيف ستتغير خدمات الرعاية الصحية عندما تبدأ الخوارزميات بتشخيص الأمراض؟
قد يكون أحد المقاييس التي من المرجح أن تجد صدى لدى إدارة المستشفى، هو تخفيض عدد حالات إعادة قبول مرضى الضمان الصحي، حيث إنّ المستشفيات قد تعاقب مالياً على تلك الحالات. ومن المفهوم أن تكون النماذج الهادفة إلى تخفيض عدد حالات إعادة القبول للمرضى المصنفين ضمن فئة نسبة المخاطر المرتفعة، مشهورة ومعروفة على نطاق واسع؛ فقد تبين أن أحد تلك النماذج على سبيل المثال يخفض احتمال إعادة قبول مرضى قصور القلب بنسبة 26%.
ولعل ضمان اهتمام القيادة العليا المستمر يمثل عاملاً حيوياً وحاسماً لاستدامة أدوات التحليل التنبؤي؛ بحيث إن نماذج التحليل قد تفقد معايرتها مع مرور الوقت وتحتاج إلى صيانة منتظمة. ولذلك تتبع المؤسسات الناجحة نهج دورة الحياة لإدارة وصيانة تلك الأدوات، الأمر الذي يتطلب تخطيط الموازنة على المدى الطويل، بما في ذلك الاستثمار في تحسين نوعية البيانات والبنى التحتية وإعادة المعايرة وامتلاك القدرات المتخصصة في مجال علم وتكنولوجيا البيانات داخل المؤسسة. وفي حال اشترت الشركة أداة جاهزة ومتوفرة في السوق، يتعين عليها أيضاً أن تأخذ تكاليف تراخيص البرمجيات والاستشارة وغير ذلك من الرسوم المرتبطة بالشركة البائعة، في حساب ميزانيتها على المدى الطويل.
اقرأ أيضاً: كيف ستبدو الرعاية الصحية عندما تصبح السماعات الذكية في كل مكان؟
ليس تطبيق أدوات التحليل التنبؤي سوى وسيلة لتحقيق الغاية الأعلى المتمثلة في تحسين الصحة العامة أو تحسين نتائج الرعاية الصحية، بما في ذلك خفض التكاليف. ولعل تحقيق جميع الفوائد التي يمكن أن توفرها أداة معينة على أرض الواقع، إنما يتطلب اتباع نهج منظم ومدروس، وإشراك الأشخاص المناسبين الذين يمتلكون مجموعة مناسبة من المهارات في الوقت المناسب. وكما أظهرنا، فإن التطبيق الناجح لا يرتبط كثيراً بماهية الأداة بحد ذاتها، بل بما يتم تكريسه من وقت وجهد وموارد للتواصل وتغيير نهج الإدارة وجعل الأداة جزءاً لا يتجزأ من تدفق العمل لدى الجهة المستخدِم، ومن العوامل الحاسمة والحيوية أيضاً والتي تتعلق بأدوات التحليل التنبؤي في مجال الرعاية الصحية هي توفر قيادة واضحة وملتزمة وثقافة داعمة للتغيير والتعلم. وإذا ما تحقق ذلك فإن النتيجة ستكون زيادة في نسبة الرعاية عالية القيمة – أي تقديم الرعاية الصحية المناسبة لمن يحتاجها فعلاً.
اقرأ أيضاً: كيف ستُغير الطباعة ثلاثية الأبعاد مجال الرعاية الصحية؟