تلوث الهواء يخفّض سوية أداء سوق الأسهم

5 دقائق
عندما قارن الأستاذ أنتوني هايس، المتخصص في علم الاقتصاد، مع زملائه البيانات اليومية لشركات مُدرجة على مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" مع بيانات يومية لتقييم جودة الهواء في إحدى محطات القياس التابعة لـ "وكالة حماية البيئة"، بالقرب من وول ستريت، وجدوا علاقة ارتباط بين ارتفاع نسبة تلوث الهواء وانخفاض سوية أداء سوق الأسهم. وخلصوا إلى أن تلوث الهواء يخفض سوية أداء سوق الأسهم.

هايس كان الأثر قوياً. فمع كل انخفاض لجودة الهواء بمقدار انحراف معياري واحد، كنا نشهد انخفاضاً في أرباح الأسهم بمقدار 12%. وبمعنى آخر، إذا رتبت 100 يوم تداول في سوق نيويورك المالي، بدءاً من اليوم الأكثر نظافة إلى اليوم الأكثر تلوثاً للهواء، فسيكون أداء شركات "ستاندرد آند بورز 500" أسوأ بنسبة 15% في اليوم الخامس والسبعين، مقارنة مع ما كان عليه في اليوم الخامس والعشرين الأكثر نظافة. كما أننا أعدنا هذا البحث باستخدام بيانات من "سوق نيويورك" لتداول الأسهم فأظهرت الأثر ذاته.

هارفارد بزنس ريفيو: كيف يمكن لعدد قليل من جزيئات الهواء الملوث أن تسبب مثل هذه الهبوطات في أرباح السوق؟

نعتقد أن هنالك آليتين اثنتين فاعلتين، يجري بحثهما منذ فترة. أولاً، إن تعرضك للهواء الملوث حتى ولو ليوم واحد من شأنه أن يؤثر في حالتك العاطفية ويدخلك في مزاج الاكتئاب. كما أنه يخفض مقدراتك الإدراكية والمعرفية، وكذلك يؤثر سلباً في مشاعرك وبراعتك في التفكير. ثانياً، يميل المزاج السيئ والمقدرات الإدراكية المنخفضة إلى تقليل استعدادك للمجازفة. ومن المعروف أن الاستعداد المنخفض للمجازفة متلازم مع انخفاض نسبة الأرباح. وهذا ما وجدناه في بحثنا.

لكنك قِستَ الهواء بالقرب من أماكن عمل تجار الأسهم وليس داخلها، وبما أنهم يعملون داخل مكاتبهم، فكم يستنشقون فعلاً من الهواء الملوث؟ وماذا عن جودة الهواء بالقرب من أماكن سكنهم؟

لهذا السبب إلى جانب أسباب أخرى اخترنا مدينة نيويورك. فمعظم أولئك التجار الذين يعملون هناك يعيشون في مانهاتن أو في جوارها. ولم نقارن أداء "سوق الأسهم" مع جودة الهواء المُقاسة في محطة "وكالة حماية البيئة" بالقرب من وول ستريت فقط، بل أيضاً مع متوسط قياسات جودة الهواء في سائر محطات منهاتن، وحصلنا على النتيجة ذاتها. إنها نتيجة موثوقة.

كيف تعرف أن علاقة الارتباط هذه هي العلاقة الحاسمة؟ ماذا لو حدث تأثير لدرجة الحرارة أو معدل الأمطار، وتزامن ذلك مع تلوث الهواء بمحض المصادفة؟

بالطبع، إننا نسعى إلى السيطرة على كل الأمور التي قد تكون مهمة، مثل درجة الحرارة أو الطقس. هذا هو موضوع بحثنا. إننا نطرح النتائج، ويعمل الآخرون على محاججتنا بعرض تفسيرات بديلة من الضروري أن نختبرها ونتأكد من صحتها. لا شك في أن السيطرة على كل شيء أمر صعب للغاية، فما من أحد استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولذلك نجري اختبارات الكشف عن النتائج الزائفة. ومن بين تلك الاختبارات اختبار يقيس تأثير المطر. لقد أعدنا القياسات في الأيام التي لم يهطل المطر فيها وفي الأيام التي سبقتها، وحصلنا على نتيجة مشابهة.

هل درس فريق البحث كل المتغيرات العصية على الاختبار أو غير المتوقعة؟

نأمل أن نفعل ذلك. فذاك هو طريق التقدم. ولعل أفضل إجابة يأتي بها الباحث إذا ما سُئل عن ضمان جودة النتائج هي قوله: "لقد سيطرنا على كل شيء يمكن أن يخطر في بالنا". أما نحن، فيمكننا القول بقناعة راسخة إلى حد كبير، بأننا قد أقصينا جميع العوامل المحتملة الأخرى مثل الطقس وحركة السير، على سبيل المثال، لأننا لم نجدها مؤثرة.

من أين جئت بفكرة البحث في هذا الموضوع؟

أنا وزميلاي سوديه سابيريان، من جامعة "أوتاوا"، وماثيو نايدل، من جامعة "كولومبيا"، مهتمون في فهم ومعرفة الآثار غير المرتبطة بالصحة للهواء الملوث. لطالما أجرى الباحثون دراسات حول تأثير الهواء الملوث على صحة الإنسان، مثل الإصابة بالجلطة الدماغية والنوبة القلبية والاكتئاب والإقدام على الانتحار وغير ذلك. والآن نريد معرفة أثر الهواء الملوث على قضايا أخرى، مثل الإنتاجية والأداء في المدرسة. وهنالك الكثير من القضايا التي تستحق المعاينة والدراسة.

ماذا نعرف أيضاً عن الآثار غير المرتبطة بالصحة للهواء الملوث؟

الأبحاث في ازدياد مضطرد. إننا نعرف على سبيل المثال، أن الحيوانات التي تستنشق هواء ملوثاً تتصارع أكثر من تلك التي تستنشق الهواء النظيف. ونريد أن نعرف ما إذا كان لتلوث الهواء أي علاقة مع جرائم العنف. وعموماً، تُظهر الأبحاث أن سوية أداء الناس في مهام متنوعة تنخفض في الأيام الملوثة نسبةً إلى سوية أدائهم في الأيام الأقل تلوثاً، فالذين يقطفون فاكهة الدراق، على سبيل المثال، يحصدون عدداً أقل من حبات الدراق. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حكام لعبة البيسبول، فنجد أن أدائهم يكون أسوأ في إقرار الكرات وتحقيق الضربات الناجحة، كما أن موظفي مقسم الهاتف يردون على عدد أقل من المكالمات في الأيام الأكثر تلوثاً للهواء.

نريد أن نرتقي بحدود فهمنا لآثار التلوث، وأعتقد أننا سنكتشف أن لجودة الهواء أثر على مجموعة كبيرة من النتائج. وبالأساس، نحن نعرف مسبقاً أن الإنسان حساس جداً -أكثر مما يعتقد- للبيئة التي يعيش فيها.

هل توصلتم إلى تحديد عتبة للتلوث - بضعة أجزاء من المليون على سبيل المثال - يبدأ فوقها تأثير التلوث على سوية أداء سوق الأسهم؟

لا. ففهمنا لذلك لا يزال نسبياً حتى الآن. ومع هذا، فإننا في بحث مستمر عن الآثار البعيدة المدى بغية تحديد تلك العتبة. عندما تتعامل مع البشر تلمس عادة آثاراً بعيدة عند تجاوز العتبة تسمّى "اللاخطية". على سبيل المثال، يتغير سلوك الإنسان جذرياً عندما تتخطى درجة الحرارة في الخارج 85 فهرنهايت، ويكون التغيير أقل من ذلك تحت تلك الدرجة. وبالنسبة لحاسة السمع، بوسعك تحمل صوت بشدة تصل إلى 185 ديسيبل، لكن سرعان ما تتمزق طبلتا أذنيك إذا ما تجاوزت شدة الصوت تلك العتبة. لم نشهد حتى الآن تلك العتبة اللاخطية بالنسبة للتلوث، ويبدو الأثر خطياً إلى حد بعيد حتى الآن: مضاعفة التلوث تؤدي إلى مضاعفة الأثر.

هل سنلحظ - مثلاً- في مكان آخر يحتوي نصف نسبة تلوث مدينة نيويورك نصف المشكلة الناتجة عنها؟

لا يمكننا التعميم بهذه البساطة. بحثنا هذا هو حول مدينة نيويورك. وكل مكان يشهد تبادلاً تجارياً يمتاز عن سواه من نواحٍ عدة مثل: حجم التبادل التجاري إلكترونياً ومكان إقامة التجار وكيف يأتون إلى أماكن عملهم، وما إلى ذلك. ولقد بحثنا في آثار هذه العوامل على سوية أداء سوق الأسهم في مدينة أخرى هي تورونتو، وحصلنا على نتائج مشابهة. إلا أنني لا أستطيع تأكيد أن ذلك ينسحب على جميع الأماكن.

إذاً، هل على التجار أن يؤيدوا سياسات تهدف إلى هواء أنظف بغية زيادة أرباحهم؟

ربما يكون هنالك احتمال لذلك، إلا أنني باحث اقتصادي وأفكرفي بالأمر من حيث كفاءة الأسواق. لا يهمني مجرد القول: "دعونا ننظف الهواء"، وإنما: "إذا كان الهواء أكثر نظافة، تكون قيمة هذه الشركات الخمسمائة في سوق الأسهم تمثل فعلاً قيمتها الحقيقية".

عادة ما يُرسل سوق الأسهم إشارات حول الأسعار الصحيحة للاستثمارات، كونه يتبع المبادئ الأساسية للتداول. وما نراه هو أنه إذا كانت هناك عوامل خفية ومُبهمة مثل تلوث الهواء تؤثر في السوق، فإن ذلك سينعكس سلباً على كفاءته. وإذا كانت الأسعار ترتفع أو تهبط بسبب سلوك ناجم عن التلوث، كأن يكون الجو حاراً أو أن يخسر فريق لعبة كرة القدم المفضل لدى التجار، فإن ذلك سيعني عدم كفاءة السوق في تحديد الأسعار الصحيحة.

أنا لا أقول إن الهواء النظيف يرفع أسعار الأسهم في السوق. بدلاً من ذلك، فإن الهواء النظيف، وخاصة في مدينة نيويورك، يجعل "سوق الأسهم" يعمل بطريقة أفضل، فتعكس الأسعار حقيقة السوق بطريقة أفضل أيضاً. إننا نعمل على مشروع آخر، وهو دراسة قرارات قضاة الهجرة، وتوصلنا إلى النتيجة ذاتها: وهدفنا ليس عدد القرارات الإيجابية أو السلبية، بل عدد القرارات الأكثر صواباً.

هل نتوقع المزيد من مثل هذه الأبحاث في القطاع المالي؟

بالنسبة إلي، فإن دراسة العلاقة بين السلوك والمال هو توجه قائم، وهو يمثل صلب بحثنا اليوم. وفي النماذج التقليدية لأسواق المال، وبخاصة تلك التي أُنشئت قبل أكثر من 15 سنة، اعتاد الناس على اعتبار المتداولين في الأسهم "أناساً اقتصاديين" مجردين من المشاعر، لا ينزعجون من خسارة فريق "اليانكيز"، ولا يمرون بأيام سيئة وأيام جيدة. أما النماذج المالية الحديثة، فإنها قائمة على السلوك الإنساني الحقيقي والعوامل المؤثرة فيه. إنها مَهمة صعبة ومعقدة، غير أنها تقع في صلب جدول أعمال أبحاث التمويل السلوكي لتخطي تلك الصعوبة، والانتقال من فكرة النموذج الجامد للإنسان الاقتصادي إلى نموذج، يمكننا أن نرى فيه أن التجار "يتصرفون مثل أُناس حقيقيين".

هل أحتاج إلى الذهاب إلى مقاطعة نوفا سكوشا، واستنشاق كمية كبيرة من الهواء الكندي العليل قبل أن أُدوّن هذا اللقاء؟

ستكون النتيجة أفضل. إنني لا أمزح، فقد بحثنا في خطابات أعضاء البرلمان الكنديين، باستخدام مقاييس لغوية تخصصية لتقييم جودة خطاباتهم. عندما كانت نسبة تلوث الهواء أعلى من 15 ميكروغرام بالمتر المكعب، وهي قيمة تدل هنا على يوم ملوث، سجلت خطابات أعضاء البرلمان قيماً أخفض بكثير وفق تلك المقاييس. تعالَ إلى كندا، وستصبح كاتباً أفضل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي