يتخرج، سنوياً، حوالي 185 ألف طالب حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال في الولايات المتحدة وحدها. ويقضي عدد كبير من هؤلاء الطلاب أكثر من 100 ساعة لكل واحد منهم في التحضير لما يسمى "مقابلات تحليل الحالة" (Case Interviews)، وهي طريقة التقييم المفضلة لدى نخبة الشركات الاستشارية مثل "ماكنزي"، حيث تُعرض على المتقدمين للوظيفة مشكلة في مجال الأعمال ويُطلب منهم التحدث عن كيفية حل هذه المشكلة. وتُعد مقابلات تحليل الحالة مضيعة للوقت فحسب. إذ إنها وسيلة تقييم سيئة، وقد حان الوقت للتوقف عن استخدامها في توظيف الأشخاص.
وبصفتي استشارياً سابقاً كنت أعِد مقابلات التوظيف المستندة إلى "تحليل حالة" وأشرف عليها على حد سواء، فمن الصعب بالنسبة لنا الاعتراف بهذه الحقيقة، وظلت مقابلات تحليل الحالة لفترة طويلة تشكل جزءاً من طقوس عملية التوظيف ضمن نخبة الشركات الاستشارية. وهي تتصف بمظهر من الصرامة وتثير الإجهاد والترهيب لدى المتقدمين للوظائف. وإذا نجحت في اجتياز هذه المقابلة، فستكون في الحقيقة واحداً من القلة المختارة، إذ إن الكثير من الشركات الاستشارية تتسم بمعدلات قبول للانضمام إليها أقل من نخبة الكليات الجامعية. وعلى إثر ذلك، تبنى الكثير من مدراء التوظيف، الذين يتراوحون من شركات "فورتشن 500" إلى الشركات الناشئة، طريقة تحليل الحالة أيضاً عند تقييم الموظفين الجدد، لاسيما للأدوار الوظيفية الصغيرة، في محاولة لاكتساب بعض "سحر شركة ’ماكنزي‘" هذا.
ولكن ثمة مشكلة واحدة، إذ إن مقابلات تحليل الحالة ليست وسيلة موثوقة للتنبؤ بالأداء الوظيفي. فعند تأسيس شركة "إي سي أيه" (ECA) قبل عشر سنوات، أردنا أن نتبع نهجاً أكثر استناداً إلى البيانات إزاء البحث عن المسؤولين التنفيذيين. ولذا، تواصلنا مع عالم الاقتصاد تينو سانانداجي، المقيم في ستوكهولم، لبدء البحث عن أساليب توظيف دقيقة وتدعمها الأبحاث. وافترضنا أن مقابلات التوظيف المستندة إلى تحليل الحالة ستتصدر قائمة أساليب التوظيف هذه. فهي، على أي حال، تبدو طريقة ذكية لتقييم الكفاءات، وصممت لتمحيص المهارات العامة في حل المشكلات، التي ترتبط بشدة بالأداء الوظيفي في المدى الطويل. وحيث إن وتيرة التغيّر في عالم الأعمال تزداد سرعة أكثر من أي وقت مضى، فإنّ المهارات العامة في حل المشكلات تحظى بتقدير كبير من قِبل أصحاب الأعمال.
لكننا ذُهلنا لمعرفة أنه لا يوجد سند مثبت من الناحية الأكاديمية يدعم هذا الافتراض. بل إن الأبحاث، في واقع الأمر، تشير إلى العكس. إذ صممت مقابلات تحليل الحالة بحيث لا تكون هناك إجابة صحيحة أو إجابة خاطئة. وتتمثل الفكرة في أن الشخص القائم بالتقييم يمكنه استقاء المعلومات المفيدة التي يطرحها المتقدم للوظيفة في عرضه التقديمي عن الحالة التي عُرضت عليه، كأن يخلُص القائم بالتقييم إلى أن المتقدم "أظهر قدرات إبداعية"، أو أنه "ذو مهارة حسابية فائقة"، وما إلى ذلك. ومن المؤسف أن الأبحاث قد أوضحت أن القدر الزائد من المعلومات يقلل دقة التوقعات التي يقدمها القائمون بإجراء مقابلات التوظيف المستندة إلى تحليل الحالة. وفضلاً عن ذلك، يزيد عدم وجود طريقة منظمة وواضحة في تقييم المتقدمين للوظيفة من احتمالات أن يتأثر القائمون بإجراء المقابلات بتحيزاتهم عند تقييم المتقدمين للوظيفة. وأخيراً، يؤدي عدم وجود إجابة صحيحة أو خاطئة إلى اتخاذ قرارات تعسفية. ويمكن أن يتم توظيف أحد المتقدمين للوظيفة الذي أجرى مناقشة متعمقة بشأن نموذج العمل التجاري للشركة لأنه "ذو اهتمامات فكرية"، في حين يمكن أن يتعرض متقدم آخر أجرى المناقشة نفسها للرفض لأنه "مفرط في الطابع النظري". فأي من قرارَي التوظيف هذين كان القرار الصائب؟
بالنسبة لنا، كنا نتولى عملية التوظيف لسبع شركات من أصل عشر شركات تعد الأرفع مستوى ومكانة في مجال الاستشارات المتعلقة بالاستراتيجية. وعلى مدى سنوات عديدة، كنا نطلب دليلاً يدعم فكرة أن مقابلات تحليل الحالة تعد مؤشراً على الأداء الوظيفي. ومن دواعي أسفنا أن عملاءنا، في العادة، يمتنعون عن الرد على هذا الطلب. لعلهم كانوا مترددين إزاء إطلاعنا على بياناتهم الحساسة، أو لعلهم كانوا مقتنعين تماماً بنجاح طريقتهم هذه بحيث لم يرغبوا في مناقشة البيانات التي تشير إلى خلاف ذلك، وهو ما يسميه عالم النفس الأميركي الحاصل على جائزة نوبل، دانيال كانيمان، "وهم الصحة".
وكان آخر مسمار في نعش مقابلات تحليل الحالة، بالنسبة لنا، عندما علمنا أن شركة "جوجل" قد تخلت عن مقابلات التوظيف المستندة إلى تحليل الحالة. ففي كتابه "قواعد العمل" (Work Rules)، أوضح النائب الأول السابق للرئيس للأفراد والعمليات بشركة "جوجل"، لازلو بوك، كيف أن الشركة خالفت، بدقة، تجارب التوظيف التقليدية بالمثابرة في جمع بيانات مقابلات التوظيف، ومن ثم قياس الأداء الوظيفي الخاص بعشرات الآلاف من الموظفين، وكذلك الأشخاص القائمين بإجراء مقابلات توظيفهم، حيث خضعت كل مقابلة توظيف لتمحيص دقيق. وذكر لازلو بوك في كتابه أن المشروع البحثي توصل إلى أن مقابلات التوظيف المستندة إلى تحليل الحالة لا جدوى منها. وفي وقت لاحق، كتب لازلو تغريدة على موقع "تويتر" قال فيها: "لم تعجبني مقابلات تحليل الحالة قط... إذ إنها لا تعد مؤشراً على أداء المتقدم للوظيفة، وتستخدم - في المقام الأول - لجعل الشخص القائم بإجراء المقابلة يبدو ذكياً".
وعندما نتحدث مع المدافعين عن مقابلات التوظيف المستندة إلى تحليل الحالة، فإن حجتهم التي غالباً ما نسمعها تتمثل في أن هذه المقابلات فاعلة في ضمان توظيفك للأشخاص المؤهلين. وأنها، بالتأكيد، يمكن أن ينتهي بها الأمر إلى إهدار فرصة ضم مرشح مؤهل أو مرشحين اثنين، لكن لأن أخطاء التوظيف باهظة التكلفة، فإن الأمر المهم هو أن هذه المقابلات تحدد الأشخاص الذين من المؤكد أن يتميزوا. ورداً على ذلك، فأولاً، لا توجد أدلة على صحة هذه الحجة. بل حتى إذا كانت صحيحة، فإن سيناريو إهدار فرصة ضم موظفين بارعين وحدها تصبح مفهومة إذا كان عثور الشركة على المزيد من الموظفين البارعين غير مكلف إلى حد ما. وفي حين تحظى الشركات الاستشارية الكبرى بالآلاف من المرشحين للاختيار من بينهم، يمكن القول إن إهدارها فرصة ضم عدد قليل من المرشحين الجيدين لا يكبدها قدراً كبيراً من التكاليف. لكن معظم الشركات لا تتمتع بمستوى شركتَي "ماكنزي" و"بوسطن كونسلتينغ جروب" وإمكاناتهما، حيث أُدرج "توفر المهارات الرئيسية" بصفته ثالث أكثر المهددات أهمية للأعمال في عام 2019، مقارنة بتصنيفه في المرتبة الخامسة في عام 2018، حسبما ورد في الدراسة الاستقصائية السنوية للرؤساء التنفيذيين التي تجريها مؤسسة "برايس ووترهاوس كوبرز" (PwC). وتخطى عدد الوظائف الشاغرة في الولايات المتحدة 7 ملايين وظيفة للمرة الأولى في أغسطس/ آب عام 2018، ولا يزال عند هذا المستوى. وفي سوق العمالة المحدودة هذا، لا يسعك تحمل تكلفة فقدان كفاءة من الكفاءات عندما تتاح لك فرصة إجراء مقابلة شخصية معهم.
أساليب بديلة
من حسن الطالع، فإن الأبحاث التي تمتد إلى أكثر من قرن توضح وجود أساليب أفضل وأكثر دقة لتمحيص المهارات العامة لحل المشكلات. بادئ ذي بدء، تعد القدرة العقلية العامة (General Mental Ability)، إلى حد بعيد، أفضل مؤشر على الذكاء المرن، أو القدرة على حل المشكلات في مجموعة متنوعة من الموضوعات. وما برحت القدرة العقلية العامة تمثل بنية راسخة ومجربة لعقود من الزمان، في ضوء وجود آلاف الأوراق العلمية المحكّمة التي نُشرت حول هذا الموضوع. ويعد استخدام اختبار موحد ومحدد وغير مثير للقدرة العقلية العامة وسيلة أفضل بكثير للبدء في تقييم المتقدمين للوظيفة مقارنة بمقابلة التوظيف المستندة إلى تحليل الحالة.
ويمكن للشركات أيضاً الحد من بعض الجوانب السلبية المعروفة المرتبطة بمقابلات تحليل الحالة عن طريق توحيد نهجها واتباع أسلوب أكثر تحديداً إزاء المهارات المرغوبة بدرجة أكبر في الوظيفة، وتحديد كيفية اختبار هذه المهارات والعوامل التي تشكل الرد الممتاز في مقابل الرد الضعيف. ومن شأن كتابة التقييمات المساعدة في إضفاء قدر أكبر من الموضوعية على عملية تقييم المهارة. ويمكنها أيضاً المساعدة في الحد من التحيز عن طريق السماح للمقيّمين بحجب الأسماء (ومن ثم النوع الاجتماعي والعرق والأصل الاجتماعي) للمتقدمين للوظيفة.
وقد استبدل أحد العملاء الذي تعاملنا معه مؤخراً مقابلات تحليل الحالة بتقييم موحد مكتوب، طلب فيه من المتقدمين للوظيفة قراءة مذكرة استثمارية وكتابة الأسئلة الرئيسية التي يودون الاستقصاء بشأنها قبل اتخاذ قرار الاستثمار. وقام هو وزميله، قبل تصنيف الردود، بحجب أسماء المتقدمين للوظيفة. كما اتفقا أيضاً بشأن الموضوعات المهمة، وكذلك بشأن العوامل التي تشكل الردود الثاقبة ضمن هذه الفئات. وانتهى الأمر بهذا العميل إلى اختيار مرشح يتحدث الإنجليزية كلغة ثانية، وكان قد انتقل مؤخراً إلى الولايات المتحدة، للتقدم إلى الجولة النهائية. وهو شخص واجه صعوبات عندما أجرى مقابلة تحليل الحالة التقليدية، حسبما أوضح لنا عملاء آخرون تحدثنا معهم بشأنه.
إن الشركات الاستشارية محقة بشأن أمر واحد يتعلق بالتوظيف، حيث تعد المهارات العامة في حل المشكلات مهمة في التنبؤ بالنجاح الوظيفي. لكن مقابلة التوظيف التقليدية المستندة إلى تحليل الحالة قد أدت دورها في تحديد هذه المهارات. ونحن نفكر في عشرات الآلاف من الطلاب الحاصلين على درجة الماجستير في إدارة الأعمال والمنقبين عن الوظائف الذين ينفقون قدراً كبيراً من الوقت والمال سنوياً استعداداً لمقابلات تحليل الحالة. يعد هذا بمثابة إهدار جسيم للطاقة والإمكانات البشرية. فبذلك، نخيب ظن هؤلاء الباحثين عن عمل، ونخفق في تحقيق المكاسب المحتملة في غضون ذلك. ويجب أن تدرك شركتا "ماكنزي" و"بوسطن كونسلتينغ جروب" والشركات الأخرى التي تقلدهما بأن الوقت قد حان للتخلي عن هذا النهج المتحيز الذي عفا عليه الزمن إزاء تحديد أفضل الكفاءات.