أثعلبٌ أنت أم قنفذ؟

3 دقيقة
الثعلب والقنفذ
freepik.com

رأتني زوجتي وقد أطلت الجلوس إلى الجوّال فنصحتْني أن أتركه قليلاً، تركتُه وجالستُ كتاباً، وشتّان ما بين الجليسين.

جلستُ أقرأ في الكتاب الرائع "من جيّد إلى عظيم" للكاتب الأميركي جيم كولنز. في أحد الفصول، تحدّث الكاتب عن مقالة "القنفذ والثعلب" للفيلسوف الشهير أشعيا برلين، والتي كتبها قبل أكثر من 70 عاماً.

المقال يعتمد على مقولة يونانية قديمة: "الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئاً واحداً كبيراً".

الثعلب حيوان ذكي ماكر، قادر على ابتكار عدد كبير من الاستراتيجيات المعقدة وخطط العمل المُتقنة للتسلل هاجماً على الفرائس المختلفة ومن بينها القنفذ. بين الحين والآخر، يتجه الثعلب نحو جحر القنفذ في مهمة جديدة، يقترب بصمت، ويراقب بحذر، وينتظر اللحظة الحاسمة للهجوم. ولأن الثعلب ماكر وذكي وسريع وجميل؛ يبدو أنه الرابح بالتأكيد. ومن جهة أخرى، القنفذ مخلوق مُبتذَل صغير يُشبه النيص، يخرج بطيئاً متهادياً من جحره، يمارس يومه ببساطة، يبحث عن طعامه ويعتني ببيته.

ها هو الثعلب متأهبٌ عند منعطف الطريق، لقد ظهر القنفذ، يقول الثعلب في نفسه: "لن تفرّ مني اليوم، ها قد أمسكت بك"، ينطلق مستجمعاً قوته وأقصى سرعته نحو القنفذ، يقفز قفزة عظيمة، فيرفع القنفذ رأسه ناظراً للأعلى شاعراً بالخطر ويقول: "ها قد عُدتَ من جديد، ألن تتعلّم أيها الثعلب؟".

يلفُّ القنفذ نفسه ليصبح كرة من الأشواك الحادة، يرى الثعلب ما صنع القنفذ فيوقف الهجوم، يقف للحظات مصدوماً يتأمل، لا يدري ماذا يفعل، ثم يعود إلى بيته متقهقراً خائباً، يفكر في هجوم جديد. كل يوم شكل جديد من هذه المعركة يقع بين القنفذ والثعلب، وعلى الرغم من المكر العظيم للثعلب، إلا أن القنفذ يفوز دائماً.

استقرأ برلين من هذا المثال الصغير تقسيم الناس إلى مجموعتين أساسيتين: ثعالب وقنافذ. تسعى الثعالب لأهداف عدة في الوقت نفسه وترى العالم بكل تعقيداته، يقول برلين إنها مبعثرة أو مشتتة لعملها على عدة مستويات، وليس لديها مفهوم شامل أو رؤية موحّدة.

في المقابل نجد القنفذ مختلفاً تماماً، مهما بلغ تعقيد العالم، يختزل كل التحديات والمعضلات إلى أفكار "قنفذية" بسيطة، في الواقع، غالباً ما تكون بالغة التبسيط. بالنسبة للقنفذ، أي شيء لا يتعلق بهدفه وفكرته الأساسية لا تكون له أهمية.

الشركات التي تتقمّص شخصية القنفذ هي في الغالب أفضل من غيرها كما دلّت على ذلك أبحاث الكاتب كولنز والتي ترجمها في كتابه من جيّد إلى عظيم، والأمر نفسه ينطبق على الأفراد.

أشار الأستاذ في جامعة برينستون الأميركية، مارفن بريسلر، إلى قوة القنفذ قائلاً: "أتريد أن تعرف ما الذي يميّز الذين يتركون الأثر الأكبر عن كل الذين يعادلونهم في مستوى الذكاء؟ إنهم قنافذ". كثير من الأسماء العظيمة التي غيّرت العالم قد أخذوا العالم المعقّد وبسّطوه.

بالمناسبة، القنافذ ليست غبية، بل على العكس تماماً، لديها قدرة كبيرة على استيعاب التعقيد وفهم الأنماط الكامنة وتحليل الأمور وتبسيطها. إذا رأيت الشخص يستطيع تقديم العلوم المعقّدة بشكل مبسّط للغاية؛ فاعلم أنه قد وصل مرحلةً متقدمة من العِلم والخبرة.

عندما تمكّن علماء المسلمين من فهم تفاصيل العلوم وبسّطوا تعقيدها؛ تمكّنوا من وضع أسس الهندسة وأسس الطب، ومنهم من فسّر كيف نرى، وكيف يمكن أن نطير، ولولاهم لما عرفنا اليوم البوصلة.

الأمر الذي وجدتُه خلال رحلة استمرت لأكثر من 20 سنة أنك قد تعيش ثعلباً مدة طويلة من عمرك، ثم تتحول إلى قنفذ يُحدث الأثر الكبير ويترك بصمته. قد لا يبدو الأمر جذاباً من جهة التشبيه، تعيش ثعلباً وتموت قنفذاً، لكنه مجرد تشبيه.

عشتُ قرابة الـ 14 عاماً أبحث عن ذلك الفن الذي أجد نفسي فيه، كنت ثعلباً أقفز من فن إلى آخر، ومن تخصص إلى تخصص، جمعتُ حوالي 14 شهادة عالمية، واجتزت قرابة الـ 21 اختباراً عالمياً، ثم وجدت نفسي في الابتكار؛ أحببته، بل عشقته، فأخذت أغوص في أعماقه وأبحث في تفاصيله وتعقيداته، ثم صرت أعمل على تبسيطه وتقديمه بطريقة سهلة ومفهومة حتى للبسطاء من الناس.

يقولون "اعرف شيئاً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء". من المهم أن تصبح بعد مدة خبيراً في موضوع محدد تحبه وتجد أنك يمكن أن تكون الأفضل في العالم فيه. هذا ما أمارسه مع فريقي في العمل، أريد كل واحد منهم أن يكون قنفذاً في مجاله، أريده أن يكون الأفضل في العالم في ذلك المجال، ليس الأمر سهلاً بصراحة، لكنني أحاول ويحاولون.

ثمة أمر مدهش يحدث عندما تعمل على شيء واحد تحبه وتشعر بالشغف تجاهه، أسميه "دائرة السعادة": لأنك تحبه؛ تنغمس فيه ويأتيك شعور يصعب وصفه من شدة الفضول، تبحث، وتكتشف، وتُبدع، فتشعر بنشوة عجيبة، ويتم إفراز هرمون الدوبامين، فتصاب مع الوقت بشيء من الإدمان، تريد أن تتعلّم أكثر وتُنجز أكثر وأكثر، تشعر مع كل إنجاز بالسرور والرضا، يُفرَز هرمون الدوبامين، فتتكرر العملية، وتتكرر السعادة.

إذا وجدتَ مجالاً تحبه والوقت يمضي عليكِ فيه وأنت لا تدري، وشعرتَ أنك يمكن أن تبرَع فيه، فالزمه واجتهد فيه، غُص في أعماق أعماقه، اقرأ عن كل ما كُتِب فيه، ثم جرّب ما تعلمته، جرّب كثيراً، ثم ابتكر، وقدّم للعالم طريقة جديدة ونموذجاً أفضل. بإصرار وتركيز، قد يصل القنفذ إلى القمة، بينما يظل الثعلب يجري سريعاً ويقفز بين التلال. بالمناسبة، أنا لست ضد الثعالب، فهم موجودون بكثرة ووجودهم مفيد، لكنني أتمنى مزيداً من القنافذ.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي