القوة الخفية للرائحة: كيف تؤثر الروائح في السلوك والأداء المهني؟

5 دقائق
الروائح
shutterstock.com/Denise E
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هل يمكن اعتبار الروائح في مدخل بعض المتاجر عفوية؟ هذا ما تعمل عليه بعض العلامات التجارية، لتخاطب حاسة مهمة مؤثرة في قراراتك في الحياة بشكل عام، وعالم المال والأعمال بشكل خاص.

في شهر رمضان، يُعد التسويق الحسي (sensorial marketing) أسلوباً مؤثراً عليك كمستهلك، وداعماً لك كمقدم خدمة، ويمكن مراعاة هذا الأمر، في جعل رمضان فرصة لرفع الوعي للمستهلك، والمعرفة لمقدمي الخدمات، وعليه هل للرائحة تأثير على سلوكنا نحن البشر وهل لها تأثير على الأداء المهني؟

عمل حاسة الشم

يمكن أن يساعدنا فهم علم الرائحة وحاسة الشم وطريقة عمله والإحساس به على تسخير قوته لصالحنا بطرائق مختلفة.

في البداية، وبتطرق بسيط إلى آلية عمل حاسة الشم في جسمنا نرى أنه عندما نتنفس، تدخل جزيئات الرائحة إلى فتحتي الأنف وترتبط بالمستقبلات الشمية التي توجد في الظهارة الشمية، وهي بقعة صغيرة من الأنسجة تصل إلى أعلى الأنف، وبمجرد أن ترتبط جزيئات الرائحة بالمستقبلات، فإنها تطلق إشارات كهربائية تنتقل إلى البصيلة الشمية، وهي بنية في الدماغ مسؤولة عن معالجة الرائحة.

ومن المثير للاهتمام أن هذه البصيلة الشمية هي جزء من “الجهاز الحوفي” في الدماغ، وهو شبكة معقدة من الهياكل في الدماغ المرتبطة بالعاطفة والذاكرة والسلوك، علاوة على ذلك، ترتبط البصيلة الشمية ارتباطاً وثيقاً باللوزة والحصين، وهما بنيتان في الدماغ تشاركان في معالجة المشاعر والذكريات. هذا هو السبب في أن الروائح يمكن أن تكون محفزاً قوياً للعواطف والمزاج.

ارتباط وثيق بالسلوك البشري

في عام 2020، نشرت صحيفة الإندبندنت تقريراً يتحدث عن مشروع أوروبي جديد يدعى “أوديوروبا” (Odeuropa) يهدف إلى دراسة الرائحة والعطور في التاريخ الأوروبي، من خلال جمع عيّنات من العطور والروائح الأوروبية المختلفة، وتحليلها وترجمتها إلى معلومات تاريخية وثقافية قيمة يمكن استخدامها لدراسة الحضارات والثقافات القديمة، وتفهّم سلوكيات الناس في تلك الفترات.

لذلك من المؤكد أن الرائحة لها تأثير على سلوكنا وعواطفنا ويمكن لشم رائحة معينة أن يعيدنا على الفور إلى لحظة معينة من الزمن، حاملاً معها كل العواطف والمشاعر التي عشناها خلال تلك اللحظة. هذا لأن البصيلة الشمية، المسؤولة عن معالجة الروائح، هي جزء من الجهاز الحوفي – نفس منطقة الدماغ المرتبطة بالذاكرة والعاطفة.

بالإضافة إلى ذلك، تؤدي حاسة الشم دوراً مهماً في حياتنا اليومية، بدءاً من قدرتنا على اكتشاف الخطر وتحديد الطعام إلى اختيار شريك حياة محتمل. من المهم العناية بحاسة الشم لدينا من خلال تجنب التعرض للملوثات الضارة والحفاظ على النظافة الجيدة.

الروائح محركات استدعاء الذاكرة

كثيراً ما تقوم حاسة الشم بدور “مفتاح التشغيل” الذي يستثير كل الخبرات التي كنا نعتقد أنها أصبحت في غياهب النسيان، وذلك في آلية يطلق عليها بمصطلحات علم النفس الاسترجاع المهيمن، وهذا يعني أن الروائح قادرة على الأخذ بيد الذاكرة واستدعائها وأن رائحة ما كفيلة بإثارة مزاج معين من الذكريات الراهنة، إذاً يمكن للروائح أن تقوم بدور مساعد أو معين للذاكرة.

في إحدى التجارب المنشورة في كتاب: “الرائحة أبجدية الإغواء الغامضة”، طُلب من مجموعة تحديد الذكريات التي يثيرها لديهم 20 من الروائح اليومية المألوفة وفي كثير من الحالات تسببت واحدة من تلك الروائح في استرجاع الفرد صورة من صور الذاكرة، على الرغم من عجزه أحياناً عن تسمية تلك الرائحة بالدقة المطلوبة.

أما الغالبية العظمى من المشاركين في التجربة فكانت ذكرياتهم حافلة بالحيوية والانفعالات، وارتبط ثلثا الصور المستدعاة بأحداث حصلت في الماضي، واتضح أن جميع المشاركين كانوا يتذكرون الأمور السارة أكثر عندما كان الجو المحيط به عابقاً برائحة طيبة.

نستطيع أن نقول: لو أن أحدنا حفِظ قائمة من الكلمات في جو يفوح برائحة الياسمين على سبيل المثال، فإنه من الممكن أن يستعيدها بشكل أفضل في مكان يفوح بالرائحة نفسها التي كانت منتشرة في المكان الذي حفظها فيه، لأن الرائحة تنشط الذاكرة اللفظية للكلمات التي تم حفظها، وعليه، فإن الطالب في قاعة الامتحان سيبلي بلاء حسناً إذا كانت ثمة رائحة مشابهة لتلك التي تعبق في غرفته حيث يدرس ويحضر للامتحان تفوح في القاعة.

الرائحة في عالم التسويق والأعمال

قديماً، لطالما تم تجاهل قوة الرائحة في التسويق والأعمال، وعدم الانتباه إلى أنها يمكن أن تؤثر تأثيراً كبيراً على العواطف والسلوك. ولكن الآن أصبحت الهوية العطرية امتداداً لبناء علامة تجارية تثير انتباهاً محددا تجاهها.

هل سبق لك أن دخلت مخبزاً وشعرت بالجوع على الفور؟

طيب، هل دخلت يوماً إلى منتجع صحي وشعرت بالراحة لمجرد أخذك لأول نفس فيه؟

هذا هو بالضبط ما نتحدث عنه، لقد تنبهت الشركات وبيئات الأعمال إلى تأثير الرائحة في التسويق واستخدمت التسويق بالعطور لخلق جو معين وإثارة مشاعر معينة لدى عملائها.

لقد أظهرت الدراسات أن الذكريات التي نربطها بالروائح المختلفة غالباً ما تكون أكثر عاطفية وحيوية من تلك المرتبطة بالحواس الأخرى، مثل البصر أو الصوت. هذا هو السبب في أن بعض الروائح، مثل رائحة البسكويت الطازج أو رائحة عطر معين، يمكن أن تثير مثل هذه المشاعر القوية بالحنين والسعادة.

تدرك العلامات التجارية اليوم هذا الاتصال بين الرائحة والسلوك والعاطفة والذاكرة وتستخدمه لصالحها لسنوات، ومن ذلك أن ثمة شركات تستخدم روائح مميزة في متاجرها لخلق تجربة فريدة لا تنسى للعملاء. على سبيل المثال، تستخدم الفنادق الروائح المميزة في ردهاتها لخلق بيئة ترحيبية ومريحة لضيوفها، وهذا من الذكاء الجمالي (Aesthetic Intelligence) (بالإضافة إلى ذلك، يمكن أيضاً استخدام الرائحة لاستحضار الذكريات والعواطف الإيجابية. على سبيل المثال، قد يستخدم المقهى رائحة القهوة الطازجة لتذكير العملاء بصباح سعيد وخلق جو دافئ وجذاب.

وعلى نحو مماثل، قد يستدعي بعض الروائح بعض الذكريات والعواطف السلبية وتؤثر سلباً على الفئات المستهدفة

على سبيل المثال: في تجربة علمية أجريت في مطار هيثرو بلندن، رشَّ المختصون صالات الوصول بعطر أوراق الصنوبر، لقد تصور المسؤولون أنهم بهذه الطريقة إنما يوفرون للناس الهدوء والسكينة، ولكنهم أغفلوا في الوقت نفسه زبائنهم الدائمي التردد على المطار ممن سبق لهم أن ضلوا طريقهم في الغابة في صباهم أو شبابهم وقاموا بالربط بين رائحة أوراق الصنوبر والشعور بالرهبة والخوف الذي لازمهم منذ ذلك الحين.

الرائحة ودورها في الأداء المهني

في عالم الأعمال اليوم تعد الرائحة واحدة من العوامل الحيوية التي تؤثر في سلوك الموظفين ومشاعرهم وتفكيرهم وتحفزهم على تحقيق الأداء الأمثل، ومن المهم أن يدرك رجال الأعمال والمدراء ذلك جيداً.

في دراسة علمية في بيئة العمل، وجد الباحثون أن الروائح العطرية الخفيفة قد تحسن من مزاج العاملين وتزيد إنتاجيتهم. وقد تم ملاحظة زيادة في معدل الإنتاجية العامة بنسبة 17% بعد إضافة الروائح العطرية الخفيفة في بيئة العمل.

بالمقابل، يمكن أن تسبب الروائح الكريهة والمنبعثة من البيئة الخارجية أو حتى من الزملاء في العمل إحساساً بالإزعاج والتوتر وتشتيت الانتباه. ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تقليل الإنتاجية وتأخير العمل.

إذاً فاستخدام العطور والروائح الجميلة في بيئة العمل يمكن أن يؤثر على الموظفين على نحو كبير ويمكن للعطور أن تحسن المزاج وتخفف من التوتر.

على سبيل المثال، أجريت دراسة في جامعة ساوثامبتون في المملكة المتحدة تعرض خلالها موظفون لرائحة ليمون خفيفة، وأظهرت الدراسة أن الرائحة المنبعثة تحفز الاستيقاظ والتركيز وتحسن المزاج.

وتشير دراسة أخرى مذكورة في الكتاب نفسه ومنشورة في مجلة العلوم النفسية إلى أن رائحة اللافندر تحسن الأداء العام للموظفين في مكان العمل وتقلل من الأخطاء التي يرتكبونها.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أيضاً استخدام العطور لتحسين الانتباه والتركيز وزيادة الإنتاجية في العمل. فالعطور الطازجة والمنعشة مثل النعناع يمكن أن تعزز اليقظة وتساعد الموظفين على التركيز وتحسين أدائهم.

ومع ذلك، يجب أن يتم استخدام الروائح بحذر في بيئة العمل، إذ يمكن أن تكون لها تأثيرات سلبية على الآخرين. قد يتسبب استخدام بعض الروائح القوية في حالات الحساسية أو الصداع أو الغثيان لدى الموظفين الآخرين.

وخلاصة القول: بعد دراسة تأثير الروائح على بيئة العمل، يمكن الاستنتاج أن استخدام الروائح المناسبة يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الموظفين والعملاء. يجب الاهتمام بالتفاصيل والاختيار بعناية لضمان استخدام الروائح المناسبة للغرض المطلوب.

تلعب حاسة الشم دوراً أساسياً في حياتنا اليومية، ولديها القدرة على التأثير في مزاجنا وذاكرتنا وسلوكنا بطرق قد لا ندركها حتى، ومن خلال فهم كيفية عمل حاسة الشم لدينا وكيفية استخدامها لصالحنا، يمكننا تحسين رفاهيتنا العامة وعيش حياة أكثر سعادة وصحة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .