ملخص: يظهر التحليل الاقتصادي الذي أجراه المؤلفون أن أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي سيختلف عن أثر أجيال الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة السابقة، وسيؤدي إلى مستويات جديدة من الإنتاجية في المهن والمهام الإبداعية. يقدم المؤلفون منهجاً موجهاً يساعد القادة على مراجعة سير العمل وإعادة تصميمه وإعادة صياغة الأوصاف الوظيفية، وذلك لإطلاق العنان لإمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي الجديدة.
مع انتشار بوتات الدردشة من عمالقة التكنولوجيا مثل مايكروسوفت وجوجل، وموجة منتجات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي تبعتها من شركات مثل أمازون وبوكس (Box) وسيلز فورس (Salesforce) وأوراكل (Oracle)، يبحث المسؤولون التنفيذيون عن أفضل السبل للاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي وتحويلها إلى تطبيقات عملية. يتمتع الذكاء الاصطناعي التوليدي بإمكانات هائلة غير مسبوقة، فهذه التكنولوجيا لا تقتصر على إحداث تغييرات تحويلية في مهامنا الروتينية فحسب، بل تضع قوة الذكاء الاصطناعي في خدمة كل من العمل الإبداعي والمعرفي، وهذا يمكّن الشركات من تحقيق مكاسب كبيرة في الإنتاجية، وتوفير مسارات جديدة تماماً لإعادة ابتكار نفسها.
لاستكشاف هذه المسارات، يجب على قادة الشركات أولاً أن يدرسوا أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي في قطاعاتهم تحديداً، علماً أنه قد يكون أكبر بكثير مما يبدو عليه الآن. وبالمثل، على قادة الأقسام تحليل أثر هذه التكنولوجيا في مجالات عملهم. بعد ذلك، يمكن للمسؤولين التنفيذيين في جميع أنحاء المؤسسة بالتعاون مع قادة تكنولوجيا المعلومات البدء بالعمل الجاد على إعادة تصميم الوظائف وإعادة هيكلة العمليات وإعادة توجيه استراتيجيات إدارة المواهب واكتساب المهارات الجديدة للاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي بالكامل.
أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي في مختلف القطاعات
ما حجم الفرصة المتاحة؟ استكمالاً لدراستنا الأولية، حللنا الأثر المحتمل للنماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) في الطريقة التي يقضي بها الموظفون وقتهم في تنفيذ المهام في 19 قطاعاً رئيسياً، مع الأخذ في الاعتبار مستويات التوظيف لعام 2022 (مصدر بياناتنا هو شبكة المعلومات المهنية ومكتب إحصاءات العمل).
اكتشفنا أن 44% من إجمالي ساعات العمل في مختلف القطاعات يمكن أن تتأثر بالذكاء الاصطناعي التوليدي. تتمثل أكبر فرصة في مجال الخدمات المصرفية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي إحداث تغييرات تحويلية في 72% من ساعات العمل. وفي مجال التأمين تصل النسبة إلى 68%، أما في أسواق رأس المال فتصل إلى 67%. بالنسبة للقطاعات التي تقع في النطاق المتوسط، مثل تجارة التجزئة والسفر والصحة والطاقة، تراوحت ساعات العمل التي يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي إحداث تغييرات تحويلية فيها ما بين 40% ونحو 50%. في تحليل مماثل شمل 22 فئة وظيفية، وجدنا أن النماذج اللغوية الكبيرة ستؤثر في الفئات كلها، حيث تراوحت النسبة من 9% من يوم العمل على أقل تقدير و63% على أبعد تقدير. في 5 من هذه الفئات الوظيفية التي درسناها، يمكن للنماذج اللغوية الكبيرة إحداث تغييرات تحويلية في أكثر من نصف ساعات العمل.
وما يعد بنتائج إيجابية أكثر هو أن تحليلنا لأكثر من 19 ألف مهمة كشف أن أكثر من نصفها يمكن أن يستفيد من الذكاء الاصطناعي التوليدي بصفته مدخلاً أولياً لتحفيز الإبداع والتوصل إلى حلول مبتكرة. وفي حين أثرت الأجيال السابقة من تعلم الآلة والبرامج الذكية بصورة رئيسية في الوظائف والمهام الروتينية المتكررة والمبنية على القواعد، فالذكاء الاصطناعي التوليدي سيؤثر في العمل الإبداعي بطريقة غير مسبوقة، وذلك يغير الطريقة التي يمكن للمسؤولين التنفيذيين التفكير من خلالها لتحسين الإنتاجية. لنأخذ وظيفة عالم البيانات على سبيل المثال، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يؤثر في 76% من إجمالي وقت العمل، ما يسمح بتحسين الإنتاجية التي يمكن تحقيقها بنسبة 25% بالنظر إلى الوضع الحالي للتكنولوجيا والممارسة.
علاوة على ذلك، تقدم القدرة على تعزيز الإبداع فرصة أكبر لتعزيز الإنتاجية، حيث يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي التوليدي لتسريع الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي نفسه. بعبارة أخرى، يمكن الاستفادة من أحد أقوى معززات الإنتاجية في عصرنا الحالي؛ أي الذكاء الاصطناعي التوليدي، لتعزيز إنتاجيته نفسها.
إعادة ابتكار الوظائف وإعادة تشكيل العمليات وإعادة توجيه المواهب
نشهد حالياً مرحلة في دورة تبنّي الذكاء الاصطناعي التوليدي تبدأ فيها غالبية المؤسسات خوض التجارب باستخدام "النماذج الأساسية" الجاهزة (منصات لتطبيقات الذكاء الاصطناعي)، لكن القيمة الأكبر بالنسبة للعديد منها ستتحقق عند تخصيص هذه النماذج أو ضبطها بدقة باستخدام بياناتها الخاصة لتلبية احتياجاتها الفريدة. في المؤسسات التي تجاوزت النماذج الجاهزة للذكاء الاصطناعي التوليدي ووصلت إلى استخدام نماذج تخصصها لعملياتها وأعمالها باستمرار، نجد أن فرصة إعادة ابتكار نفسها كبيرة جداً.
فيما يلي، نستخدم مثال علماء البيانات لاستكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي في إحداث تغييرات تحويلية في وظائف تكنولوجيا المعلومات. لكن ما نقترحه يمكن، بل يجدر تطبيقه على غالبية الوظائف التي تتفاعل مع الذكاء الاصطناعي. إليك الطريقة:
تجزئة الأدوار المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بناءً على المهام
ستكون المهام لا الوظائف، الركائز الأساسية لإحداث تغييرات تحويلية في مكان العمل. لفهم المجالات التي يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي العمل فيها بفعالية أكبر وطريقة عمله، يجب أولاً تجزئة الوظيفة إلى المهام المكونة لها. على سبيل المثال، يشمل دور عالم البيانات العديد من المهام، مثل معالجة البيانات الرقمية أو بيانات الإنترنت وتقييم جودة البيانات أو دقتها وتصميم تطبيقات لأنظمة الكمبيوتر أو المعلومات وتطوير نماذج للأنظمة أو العمليات أو المنتجات، والعديد من المهام الأخرى. ثانياً، حدد إذا ما كانت المهمة تتطلب استخداماً مكثفاً للغة (طبيعية أو حسابية أو رياضية) لإنجازها. يستخدم علماء البيانات لغات حسابية ورياضية مختلفة مثل بايثون (Python) أو سي بلس بلس (C++) أو جافا سكربت (JavaScript)، يجب على علماء البيانات أيضاً استخدام لغة طبيعية لعرض دراسة جدوى مقنعة أو لتوضيح أهمية رؤية معينة لقادة الأعمال وأصحاب المصلحة الآخرين. على سبيل المثال، لماذا يلزم اتخاذ إجراء؟ كيف يمكن تحسين قرار ما؟ أين تكمن الحاجة الماسة للتغيير؟
ثالثاً، قيّم كيفية استخدام المعرفة لإنجاز مهمة معينة. هل مشاكلها غامضة؟ هل يتطلب إنجاز المهمة التعاون مع الآخرين أو مصادقة خبير متخصص؟ لنمذجة عملية تجارية أو تشغيلية، لا بد لعلماء البيانات من فهمها في سياق أعمال الشركة وقطاعها، ويتطلب ذلك التعاون مع الزملاء في العديد من أقسام المؤسسة ومصادقتهم.
إعادة هيكلة الأدوار التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي
بعد تفكيك الوظيفة إلى مهامها الفردية، يمكنك حينئذ تحليل أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي في كل مهمة. وتذكر القاعدة العامة: المهام التي تتضمن عمليات متكررة مرشحة للأتمتة الكاملة باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، أما المهام التي تتطلب الاستدلال الإبداعي والتعاون واتخاذ القرارات المناسبة فهي مرشحة للتعزيز باستخدام الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي مساعدة علماء البيانات على فهم عملية خاصة بالقطاع بسرعة أكبر، وبالتالي تعزيز أنشطة التعاون والمصادقة. أما المهام التي لا يمكن إحداث تغييرات تحويلية فيها باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي فيمكن أن يواصل البشر أداءها بمفردهم، في حين قد تظهر مهام بشرية جديدة عالية القيمة نتيجة لإعادة هيكلة الوظيفة.
في تحليلنا لوظيفة عالم بيانات نموذجي، وجدنا 5 مهام تمكن أتمتتها، منها معالجة البيانات الرقمية أو بيانات الإنترنت أو تقييم جودة البيانات أو دقتها، واكتشفنا أنه يمكن تعزيز 7 مهام أخرى باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لتمكين عالم البيانات من أداء المهمة بقدر أكبر من الفعالية والكفاءة. على سبيل المثال، منح الباحثون في شركة مايكروسوفت ومنصة غيت هاب كوبايلوت (GitHub Copilot) وكلية سلوان للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Sloan) مطوري البرامج وصولاً عشوائياً إلى غيت هاب كوبايلوت (منصة ذكاء اصطناعي توليدي للترميز البرمجي)؛ استغرق مستخدمو المنصة وقتاً أقل بنسبة 57% ممن لم يستخدموها لتطوير خادم ويب بلغة جافا سكربت. كما حددنا أيضاً 5 مهام أخرى قابليتها للأتمتة أو التعزيز محدودة، مثل التواصل مع الآخرين حول الخطط التشغيلية أو الإشراف على الموظفين.
إعادة هيكلة العمليات
تشكل المهام البشرية والمؤتمتة والمعززة بالذكاء الاصطناعي الركائز الأساسية الأولية لإعادة تصميم الوظائف كي تبدأ استخلاص القيمة من الذكاء الاصطناعي التوليدي. بعد إعادة تصميم هذه الوظائف، يجب دمجها في العمليات مع وظائف أخرى معاد تصميمها داخل المؤسسة، وهذا سيؤدي إلى تغيير جذري في طريقة أداء الأعمال. خذ مثلاً الشركة الناشئة للتأمين عبر الإنترنت، ليمونيد (Lemonade)، إذ أعادت النظر في العمليات التي تشكل ميزات التأمين النموذجية مثل المطالبات والاكتتاب، ثم أعادت تصميمها من منظور الذكاء الاصطناعي والطريقة التي ينظر بها البشر إلى هذا القطاع، ثم أعادت ربط هذه العمليات وأعادت ابتكار تجربة التأمين للمستهلكين. كيف فعلت ذلك؟ من خلال دمج بوتات الدردشة القائمة على الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا السحابة الإلكترونية، واعتمدت نهجاً يجعل العميل محور عملية فريدة تدمج العنصر البشري والذكاء الاصطناعي للقضاء على انعدام الثقة المتبادل بين شركات التأمين والعملاء.
على سبيل المثال، لتقديم مطالبة تعويض، ليس على المستخدمين سوى النقر على زر "مطالبة" (claim) في تطبيق ليمونيد وسرد حالتهم إلى روبوت الدردشة "مايا" (Maya)، لا حاجة إلى تعبئة أي استمارات أو الانتظار على الهاتف ولا إلى إحالتك من قسم لآخر. يشغل الذكاء الاصطناعي للشركة خوارزميات مكافحة الاحتيال، وإذا حصلت المطالبة على موافقة فورية كما يحدث في نحو 30% من الحالات، فالذكاء الاصطناعي يسددها على الفور، وفيما تبقى من الحالات تنتقل المطالبة إلى شخص يتصل بالمُؤمَّن له في أقرب وقت ممكن. لتحقيق التوازن بين ميل شركة التأمين إلى رفض المطالبة أو تقليلها وميل العميل إلى تضخيم قيمة المطالبات، تتقاضى الشركة ببساطة نسبة مئوية ثابتة من كل قسط تأمين وتحتفظ بالمبلغ المتبقي غير المُطالب به إلى "يوم العطاء" السنوي، إذ تتبرع به إلى قضايا تستحق الدعم يختارها حملة وثائق التأمين بأنفسهم. العملاء أنفسهم هم العنصر البشري في عملية المطالبات؛ وهم يدركون عندما يقدمون مطالبة أن شركة ليمونيد ليس لديها أي حافز لرفضها أو تقليل قيمتها دون وجه حق، والأهم هو أنهم يدركون أن أي محاولة لتضخيم المطالبة ستؤدي إلى تقليل أموال التبرعات التي ستقدم لقضية يهتمون بها بشدة.
إعادة هيكلة العمليات وإعادة دمجها عملية شاقة، ويجب على الشركات أن تكون واقعية بشأن الصعوبات التي تنطوي عليها إعادة تصور كيفية عمل المؤسسة جذرياً. يجب أن تأخذ الاستراتيجية الشاملة في الاعتبار جميع أشكال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المرتبطة به التي تخطط لاستخدامها، وليس فقط الذكاء الاصطناعي التوليدي والنماذج اللغوية الكبيرة.
إعادة توجيه استراتيجيات المواهب والمهارات
يجب على الشركات الاستثمار في تطوير العمليات وتدريب الموظفين بقدر استثمارها في التكنولوجيا، وستكون إعادة التفكير الجذرية في طرق العمل ومساعدة الموظفين على مواكبة التغيير الذي تحفزه التكنولوجيا من أهم العوامل للاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي بالكامل. ستتأثر الوظائف كلها تقريباً بهذه التغييرات التحويلية، إذ سيلغى بعضها وسيخضع معظمها للتحويل وسينشأ العديد من الوظائف الجديدة.
بما أن الموظفين سيشاركون في تحليل وظائفهم وإعادة بنائها فسيكتسبون مهارات جديدة متعلقة بالذكاء الاصطناعي، وهي طريقة تعلّم يفضلها الكثيرون. كما سيسهم الذكاء الاصطناعي التوليدي نفسه في اكتساب المهارات الجديدة، إذ تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن نحو 60% من المؤسسات يخطط لاستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لأغراض التعلم، وأكثر من 40% منها يفكر في إجراء استثمار كبير فيه.
تجدر الإشارة إلى أن عمليات إعادة ابتكار المؤسسات التي تشمل استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي تفرض مسؤوليات جديدة على قادة الشركات، إذ عليهم التأكد من أن هذه التكنولوجيا مصممة لتكون مسؤولة ومتوافقة مع المعايير منذ البداية، ويجب ألا تخلق التطبيقات مخاطر غير مقبولة بالنسبة للشركة، ويجب أن يكون ناتج الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يراجعه البشر ويشرفون عليه بعناية، دقيقاً وغير متحيز وخالياً من مشكلات الملكية الفكرية. ستتميز المؤسسات التي تلتزم الذكاء الاصطناعي المسؤول عن منافساتها في عملها على تحليل الوظائف وتقسيمها إلى مهام وإعادة تشكيل العمليات والاستثمار في تدريب الموظفين على العمل بطرق جديدة جنباً إلى جنب مع الآلات.