في مؤتمر حول الأتمتة عُقد في أواخر عام 2018، رفع مسؤول مصرفي نظره عن صحنه وذكر هدفه دون تردد: فقد أخبرني أنه يحضر هذا المؤتمر لاستبعاد الموظفين بدوام كامل. كنت أحضر هذا المؤتمر لأنه بعد قضاء عدة أشهر في البحث عن الكيفية التي قامت بها "أمازون" بأتمتة أعمالها وكيف استفادت من موظفيها على نحو أفضل في مقرها الرئيسي، كنت متلهفاً لمعرفة كيف تفكر الشركات الأخرى في هذه التقنية القوية. وبعد تفاعل قصير كان من الواضح أن البعض يفهم الأمر بشكل خاطئ تماماً.
أتمتة الأعمال المكتبية
على مدار العقد الماضي، كانت شركة "أمازون" تسعى إلى أتمتة الأعمال المكتبية في إطار برنامج يُعرف الآن باسم "اترك عجلة القيادة" (Hands off the Wheel). لم يكن الغرض هو إلغاء بعض الوظائف بل أتمتة المهام لكي تتمكن الشركة من إعادة توزيع الموظفين لبناء منتجات جديدة؛ أي لتقديم المزيد بواسطة الموظفين بدلاً من فعل الشيء نفسه بعدد أقل من الموظفين. ويبدو أن هذه الاستراتيجية قد أثمرت: ففي الوقت الذي أصبح فيه من الممكن بدء أعمال جديدة بشكل أسرع وأرخص من أي وقت مضى، جعل برنامج "اترك عجلة القيادة" شركة "أمازون" تعمل بسرعة ورشاقة ودفعها لتصبح في طليعة منافسيها وأظهر أن الأتمتة بغرض تسريح الموظفين قد يعني خسارة فرص كبيرة. ونظراً إلى أن الشركات تبحث في كيفية إدماج قدرات الذكاء الاصطناعي متزايدة القوة في أعمالها، فمن الأفضل لها أن تأخذ هذا المثال في الاعتبار.
نشأت الفكرة المحفزة وراء برنامج "اترك عجلة القيادة" في الأبراج المكتبية الخاصة بشركة "أمازون" في منطقة جنوب بحيرة يونيون حيث بدأت الشركة في أتمتة العمل في منتصف عام 2010 في إطار مبادرة أطلق عليها البعض "مشروع يودا" (Project Yoda). وفي ذلك الوقت، كان الموظفون في قسم إدارة البيع بالتجزئة بشركة "أمازون" يقضون وقتهم في عقد الصفقات والترويج للمنتجات وتحديد المنتجات التي ينبغي تخزينها في مستودعات الشركة وكمياتها وأسعارها. ولكن مع وجود بيانات البيع بالتجزئة المستقاة على مدى عقدين تحت تصرف "أمازون"، قرر قادة الشركة استخدام "قوة" (تعلم الآلة) للتعامل مع العمليات الشكلية التي ينطوي عليها إبقاء المستودعات مملوءة. أخبرني نيل أكرمان، وهو مدير عام سابق في "أمازون": "عندما يكون لديك أعمال يمكن توقعها مراراً وتكراراً، لن تحتاج إلى موظفين من البشر لأدائها".
بدأ المشروع عام 2012، عندما عيّنت "أمازون" رالف هربريتش مديراً لتعلم الآلة وجعلت جهود الأتمتة من المشاريع التي ينبغي له إطلاقها. وقد أخبرني هربريتش أن جعل البرمجيات جيدة في إدارة المخزون وتوقعات الأسعار استغرق سنوات، لأن فريقه كان عليه مراعاة طلبات المنتجات صغيرة الحجم التي أربكت خوارزميات تعلم الآلة المتعطشة إلى البيانات. وبحلول عام 2015، كانت التوقعات التي وضعها الفريق باستخدام تقنية تعلم الآلة جيدة بما يكفي لدرجة أن قادة "أمازون" وضعوها ضمن أدوات البرمجيات التي يستخدمها الموظفون، ما جعلها بمثابة مساعد طيار للموظفين من البشر. ولكن في هذه المرحلة قد يلغي البشر الاقتراحات، وقد فعل الكثيرون ذلك بالفعل، ما أدى إلى عرقلة التقدم.
وعلى الرغم من ذلك هيمنت الأتمتة في النهاية، حيث يقول هربريتش: "استغرق الأمر بضع سنوات لإطلاقها ببطء نظراً إلى التدريب الذي تعين القيام به". وأوضح أنه إذا لم يتمكن النظام من اتخاذ القرارات بنفسه، فإنه لن يتمكن من التعلم. طلب القادة من الموظفين أتمتة عدد كبير من المهام، على الرغم من اختلاف ذلك باختلاف الأقسام. وقد أخبرني موظف سابق قائلا:ً "في عام 2016، تمثلت أهدافي في إنجاز 80% من مهامي باتباع نهج 'اترك عجلة القيادة'". بحلول عام 2018، أصبح برنامج "اترك عجلة القيادة" جزءاً من الأعمال المعتادة. وغادر هربريتش الشركة عام 2020 بعد تسليم مشروعه.
لم يكن الانتقال إلى برنامج "اترك عجلة القيادة" سهلاً. فقد كان موظفو قسم البيع بالتجزئة يائسين في البداية لعلمهم أن هناك تغييرات ستُجرى على وظائفهم، حيث قال الموظف السابق المذكور أعلاه: "لقد كان تغييراً كلياً". وأضاف: "والشيء الذي كنت تفعله بحماس، أصبحت الآن غير متحمس لفعله". ولكن بمرور الوقت، رأى الكثيرون المنطق في هذا الأمر. فقد أخبرتني إيلين كوون وهي موظفة سابقة بالشركة: "عندما علمنا أن الخوارزميات ستؤتمِت الطلبات، تساءلنا من ناحية عما سيحدث لوظائفنا، ومن ناحية أخرى، لم نكن متفاجئين؛ فهذا القرار منطقي من منظور الأعمال التجارية".
بناء الوظائف الجديدة اعتماداً على أتمتة بعض الأعمال
على الرغم من أن بعض الشركات ربما رأت فرصة في تقليل عدد الموظفين، فإن "أمازون" أسندت إليهم أعمالاً جديدة. فقد انتقل العاملون بقسم البيع بالتجزئة في الشركة إلى وظيفة مدير منتَج ومدير برنامج في الغالب، وهي أدوار وظيفية سريعة النمو داخل "أمازون" وعادة ما يشغلها المبتكرون المحترفون، حيث يشرف مدراء المنتجات على تطوير المنتجات الجديدة، بينما يشرف مدراء البرامج على مجموعات من المشاريع. وقد أخبرني جيف ويلك الرئيس التنفيذي لقسم المستهلكين على مستوى العالم بشركة "أمازون" الذي سيغادر منصبه: "يجري الآن تحرير الموظفين من أداء هذه المهام المملة المتكررة ليؤدوا المهام التي تتعلق بالابتكار". وأضاف: "أي المهام التي من الصعب على الآلات القيام بها".
لو كانت "أمازون" قد ألغت هذه الوظائف، لكانت ستجعل أعمالها الرئيسية أكثر ربحية ولكنها على الأرجح كانت ستفوت فرصة بناء أعمال جديدة. وبدلاً من الأتمتة لجني الأرباح من أصل واحد، قررت أمازون بناء أصول جديدة. لنأخذ "أمازون غو" (Amazon Go) مثالاً على ذلك، وهي سلسلة متاجر بقالة تابعة للشركة تعمل بنظام الدفع الآلي بدون محاسبين ولا طوابير لدفع ثمن المشتريات. أُسس هذا المتجر جزئياً بواسطة ديليب كومار وهو مسؤول تنفيذي كان مسؤولاً عن عمليات التسعير والترويج في الشركة. أمضى كومار عامين في العمل بوصفه مستشاراً تقنياً للرئيس التنفيذي للشركة جيف بيزوس، ثم بدأ مهندسو تعلم الآلة بالشركة في أتمتة العمل في قسمه القديم، لذلك اضطلع بدور قيادي جديد في مشروع يهدف إلى التخلص من الجزء الأكثر إزعاجاً في التسوق على أرض الواقع، ألا وهو الوقوف في طابور لدفع ثمن المشتريات عند الخروج من المتاجر. ساعد كومار في تخيُّل متجر "غو" الذي أصبح الآن من دعائم استراتيجية "أمازون" الأوسع نطاقاً.
تُعد شركة "أمازون" دليلاً على أن الشركات التي تُعيد توزيع الموظفين بعد أتمتة أعمالها ستنجح وتزدهر، وأن الشركات التي لا تخاطر تتخلف عن الركب. في الظروف الاقتصادية المضطربة، قد تجعل الحاجة إلى خفض التكاليف من المغري استبدال الآلات بالبشر ولكني أحذرك: فكّر ملياً قبل أن تفعل ذلك. وهي رسالة أتمنى لو شاركتها مع المسؤول المصرفي.