إليك هذا المقال الذي يتحدث عن اقتصاد أبوظبي تحديداً. حتى نحترم طول المسافة، يجب علينا التعرّف إلى البدايات. إننا نعيش اليوم في زحام من النعم التي أكرمنا الله بها، والتي لم تتوفر لمن سبقنا واجتهد، ولتصبح جزءاً أساسياً من أسلوب حياتنا.
نقتبس من حديث مريم الرومي، وهي ثاني امرأة تُعيّن بمنصب وزاري في دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ تقول: "أذكر أن الشيخ زايد كان ينام دون أن يتناول أي طعام؛ لأنه تصرّف في طعام عائلته. وفي الأيام التي كان فيها والياً على العين، كان يتلقى الهدايا من التجار، وكانت هذه الهدايا في الغالب عبارة عن أكياس الخيش المملوءة بالأرز".
يرد عليها الوالد زايد بن سلطان آل نهيان، متحدثاً عن تلك الحقبة في تاريخ أبوظبي: "كنت أفكر كل مساء بالأحق مني في هذا الأرز لتقديمه إليهم؛ لذلك كنت -بعد أن يرخي الليل سدوله- أتجول سرّاً، وأذهب إلى أكثر المنازل فقراً وأطرق الأبواب وأعطيهم الأرز. كنت أفعل ذلك لأنني كنت أرى أن هذا جزءٌ من ديننا، وأن ما تتصدق به يعود بالنفع عليك مرة أخرى. وقد كان ذلك بالفعل، فعندما كنت أتصدق بالأشياء التي أحتاج إليها بشدة، كانت الكثير من النعم تعود علي بسرعة".
وكما عادت النّعم على الوالد زايد، قام هو بدوره بتوزيعها علينا، فنحن ما زلنا نراها تسكن بيننا وندرك أثر خطواته تنعكس في تميّز إمارة أبوظبي اليوم. نبصر ذلك من خلال التمعن في مسيرة القطاع الاقتصادي الذي يسرد لنا قصة خمسين عاماً من التنمية والبناء، سَعَت الحكومة خلالها إلى تطوير اقتصاد متنوع ومنفتح عالمياً، يتميز باستدامة رؤيته، وقوته، وبيئته المحفزة للقطاع الخاص وللاستثمار.
ففي ظل الإمكانات المادية المتميّزة في عصرنا الحالي -ولله الحمد- يتحدث الكثيرون عن أهمية الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وما يخلقه من بيئة ذات إنتاجية عالية. لكن قبل خمسين عاماً، حينما كان الطين بيتاً، والسعف سقفاً، والتمر قوتاً، لم يكن هناك من يسعى إلى الإنفاق في أي مجال رغبةً في تحقيق ربح مستقبلي، فالأموال كانت تجمّع من قبل التجار أو تُستهلك من قبل الأحرار، ولم يكن في لغة المال استثمار، إلا في أبجدية زايد.
في عام 1958 افتتح الوالد زايد سوقاً في العين بتمويل كامل منه. كان سوقاً يقرب عدد محلاته من الخمسة وعشرين محلاً أهداها للمواطنين الراغبين في ممارسة التجارة أو الدخول إلى عالم الأعمال. ازدهر السوق وظهرت فيه صنوفٌ مختلفة من المنتجات الغذائية وغيرها كالتمور والجلود على سبيل المثال، واستطاع السوق جذب بعض التجار من المناطق المجاورة، ما سهّل الكثير على المزارعين الذين كانوا يستصعبون الرحيل إلى تلك المناطق التي لم تتوافر احتياجاتهم إلا فيها. وبعد توسيع سوق القطارة ونجاحه وانتعاش التجربة الاستثمارية في العين، بنى الوالد زايد عدة أسواق في جميع القرى التابعة لأبوظبي.
سياسة الدعم تلك ما زالت سنّةً يعمل بها من يكمل المسيرة حتى اليوم. فـ"صندوق خليفة لتطوير المشاريع"، وهو الذراع الحكومي المسؤول عن دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، موّل حتى الآن 1,240 مشروعاً بقيمة إجمالية بلغت المليار ونصف المليار درهم إماراتي، منها ما يقارب ثلاثمئة وسبعين مشروعاً توفّرت خدماتهم ومنتجاتهم في الأسواق المحلية بينما وصل بعضهم إلى العالمية. وخلال الأعوام الثلاثة السابقة فقط كانت عائدات الصندوق على القطاع الاقتصادي غير النفطي في أبوظبي تقارب 2 مليار درهم.
هيئة المنطقة الإعلامية في أبوظبي "twofour54 تدعم أيضاً المشاريع الناشئة باستثماراتها التي تعدّت 11 مليون درهم، وهي تسهم اليوم بصنع فرص عمل في قطاعات مختلفة تدعم القطاعات الحكومية، وقد استطاعت twofour54 تدريب ما يقارب 6,800 شخص في مرافق الإنتاج العالمية، ما شكل عاملاً رئيساً في استقطاب صناعة الأفلام العالمية إلى أبوظبي، حيث إن بنيتها التحتية وعناصرها البشرية كانوا على أهبة الاستعداد لتوفير ما تحتاجه. لقد برزت نتيجة هذا الاستثمار جليةً بعد أن أظهرت دراسة أجرتها twofour54 أن كل درهم تم صرفه من قبلهم لتحفيز صنّاع الأفلام على العمل في الإمارة عاد على اقتصاد أبوظبي بـ 4.5 درهم.
لقد أثبتت هذه النتيجة الباهرة أن صناعة المحتوى لا تنعش القطاع الإعلامي فحسب، بل إن الخطوات التي يتم اتخاذها لتحفيز الاستثمار وريادة الأعمال ضمنه تنعش قطاع السياحة في الإمارة أيضاً. وخير مثال على ذلك ما يؤديه تصوير الأفلام العالمية في أبوظبي من ارتفاع الحركة الفندقية نتيجة ازدياد عدد السياح القادمين عبر ناقلنا الرسمي، "طيران الاتحاد"، الذي صنع لنا أبواباً في محطات مختلفة حول العالم يطرقها ضيوف أعزاء نشتاق لإكرامهم هنا في الإمارة.
"طيران الاتحاد" يشبهنا كثيراً، فهو يافعٌ، رفيعٌ في القدر، ويقف ثابتاً في المراكز الأمامية. ويقودنا الحديث عن تلك الشركة البارزة إلى الحديث عن الطائرات المتميزة التي تستخدمها لتوفر على متنها أفضل الخدمات. ولا بد أن يسوقنا التحدث عن الطائرات إلى شركة "ستراتا"، التي تدعم الاقتصاد والقطاع الصناعي في الإمارة عبر تصنيع أجزاء هياكل الطائرات لكبرى شركات الطيران في العالم.
يدير مصانع "ستراتا" رجال ونساء يعملون بعزٍ وفخر في صناعةٍ فريدة هي الأولى من نوعها في المنطقة، إذ تعتبر أبوظبي المدينة الوحيدة في العالم العربي التي تقوم بتصنيع أجزاء من الطائرات وتصديرها إلى أنحاء العالم. تسهم هذه الصناعة بما يقارب المليار درهم من الاقتصاد غير النفطي للإمارة، وهي إحدى الصناعات المتنوعة التي وجدت في أبوظبي بيئة حاضنة تعزز من نموها وتطورها حتى أصبحت الإمارة تنتج عبر قطاع الصناعة كافة المنتجات، ابتداءً من مستخرجات النفط والغاز وصولاً إلى الأغذية والجلود ذات الجودة العالمية.
لنشعر بفرحة الوصول يجب أن نتعرّف إلى البدايات، ففي عام 1963 شارك الوالد زايد في دراسة تفصيلية لبناء مهبط طائرات بالواحة في العين لتسهيل هبوط طائرات الركاب، إذ لم تحتوي المنطقة إلا على مهبطين من الرمل الصلب صالحين لهبوط طائرات النقل العسكرية فقط. اليوم، نتحدث بإمارة أبوظبي عن توسعة في مبنى المطار الجديد والذي يعتبر الأكبر على الإطلاق في الإمارة حيث يمكن رؤيته من بعد مسافة 1.5 كيلومتر.
خلال مسيرة خمسين عاماً من التنمية الاقتصادية، ندرك في أبوظبي بأن استثمار الوالد زايد بأجيال أمته جعل الاستثمار بالبشر جزءاً لا يتجزأ منا، ومن سياستنا وأسلوب حياتنا، وستبقى هذه الحكومة دائماً تؤمن أن الداعم الأول لنجاح اقتصاد أبوظبي هم أبناء أرضها الطيبة.